يا شباب الوادي! خذوا معاني العظمة في نسقها الأعلى من سيرة هذا العصامي العظيم. . . . . .
- ٢٦ -
وتعجب ماكليلان وتعجب الناس معه من هذا المحامي الذي يدلي برأي في الخطط الحربية كأنه من أصحاب الحرب وممن لهم بفنونها خبرة؛ وما عرف عنه أنه شهد حرباً من قبل، اللهم خلا تلك المعركة الضئيلة التي اشترك فيها وهو في صدر شبابه متطوعاً ضد الصقر الأسود. . .
ولكن الذين يؤمنون بسر العبقرية لم يروا في الأمر عجباً؛ وكذلك كان الذين تربطهم بالرئيس صلة من كثب، والذين رأوا رجاحة عقله وسلامة منطقه وقوة لقانته. ومن ذا الذي يقول إن الكتب هي التي أوحت إلى نوابغ العالم في شتى مناحي الحياة ما أتوا به من المعجزات. . .؟ إنما يسير هؤلاء على نهج من فطرتهم وعلى هدى من نور عبقريتهم. . .
وهل التوت الأمور على ذلك الرجل في السياسة ولم تكن له بأسبابها من قبل صلة؟ أو لم يحمل الذين أشفقوا أول الأمر من رياسته على محبته ثم على الإعجاب به؟ وإذا كان هذا هو شأنه في السياسة ولم يتعلمها فلم لا يكون كذلك في أمور الحرب وهو قد استعان بالمعلمين الأخصائيين في تعرف مداخلها بادئ الرأي؟
أخذت الأزمة تشتد في الميادين، وذلك بتوالي الهزائم على أهل الشمال إذ كان هؤلاء ينقصهم القادة القادرون، ولولا أن كان لهم لنكولن في كرسي الرياسة يومئذ لحاق بهم الفناء؛ والذين يتتبعون أدوار الحرب يشهدون أن النصر في النهاية كان مرده إلى شخص الرئيس فلقد كان وحده جيشاً مغالباً، وكان وهو رجل الأمة وحده أمة في رجل. . .
وكان القواد في الميادين يبذلون ما في وسعهم لا يألون جهداً للوصول إلى النصر، ولقد كان لبعضهم خطوات موفقة في هذا السبيل ونذكر من هؤلاء جرانت الذي سوف يعظم شأنه حتى يصبح رجل هذه الحرب
أما ماكليلان فقد ظل على حاله يدرب جنده، ويطلب المزيد من الفرق، والرئيس صابر على ذلك لا ينفد صبره وإن أوشك أن ينفد صبر الناس، فلقد كانوا يستعجلونه الزحف على رتشمند عاصمة الجنوبيين
ومع أن الرئيس قد أمره بالزحف في نهاية يناير عام ١٨٦٢ أي بعد نحو تسعة أشهر منذ بدأت الحرب، فاإه لبث مكانه حتى شهر مارس ثم أخذ يتحرك ولكن في بطء وحذر مما دعا الرئيس أن يطلب إلى وزير الحربية أن يستحثه ولكن ما كان أعظم دهشتهما حينما كتب إليهما ذلك القائد يطلب المزيد من الرجال، وحجته في ذلك أن العدو متكاثر أمامه
وفي مثل هاتيك الظروف التي كانت تتطلب من الرئيس ما أشرنا إليه من جهد يأبى القدر إلا أن يصوب إليه سهماً يصمي مهجته ويوشك أن يذهب بلبه ويزعزع فؤاده، فلقد غالت المنية أصغر بنيه وهو صبي في العاشرة من عمره. ولقد كان وأخاه يزوران مستشفى من مستشفيات الحرب فسرت إليهما العدوى، ولم يقو الصغير على المرض فذوى كما تذوي الزهرة ولدت مع الصبح ولم يكن لها إلا مثل عمر الندى. . .
لقد ارتاع الرئيس ووهى جلده أمام تلك المصيبة ورأى الناس ذلك الطود الأشم بتمايل ويتخاذل من الوهن وهو لا يستطيع أن يخفي عن الناس جزعه ولوعته؛ وإنه ليجهش بالبكاء كما يجهش الصبي وفي عينيه حزن وحسرة وفي وجهه صفرة كصفرة الموت. . علم من الممرضة أنها فقدت زوجها وولديها فسألها ذلك العملاق الذي يحمل عبء قومه كيف تحملت تلك المصائب؟ فأجابته أنها تحملت ضربات الدهر ضربة ضربة وأنها تثق في رحمة الله فمنه العزاء والسلوان. . . وهنا يجيبها ذلك الرجل العظيم الشديد البأس أنه سيحاول أن يتعلم الصبر منها وأنه يثق أيضاً في رحمة الله وأن الله سيهبه العزاء ثم يردف قائلاً (أتمنى لو كان لي مثل إيمان الأطفال هذا الذي تتحدثين عنه) . . . ويعبر عن مبلغ
حزنه بقوله (إنها أعظم محنة لاقيتها في حياتي. . . لم كان هذا؟ لم كان هذا؟) .
ولقد كان الرئيس لنكولن في محنة قومه ثبت الجنان حتى لتتزعزع الجبال ولا يتزعزع، ولكنه كان مع ذلك رؤوفاً عطوفاً يكره الحرب ويتألم منه أكثر مما يتألم الناس جميعاً، ويتمنى أكثر مما يتمنى غيره أن تضع أوزارها في أقرب وقت. . . ولذلك كان ينكر على المتشددين تشددهم، ولا يقر أحداً على قسوة أو يطاوعه في صرامة، فإذا أنس الرئيس من محدثه غلظة على العدو تجهم له وأشاح عنه، في حين أنه كان يقبل على من يطلب إليه اللين والمغفرة وهو يقول له وللناس جميعاً أنه يمقت تلك الحرب من أعماق قلبه وإنه ما دخلها إلا وهو موقن أنها شر لابد منه، وما أراد بها إلا أن تكون علاجاً لمعضلة باتت تهدد كيان بلاده. . . أما أن تكون انتقاماً وعلواً في الأرض واستكباراً فليس هو من ذلك في شيء. . .
وكثيراً ما كان يصدر من الأمر ما يتعجب منه القواد ولا يشيعونه الرأي فيه ولأن نفذوا ما أمر به. ساقوا إليه في تلك الأيام شاباً حكم عليه أن يرمى بالرصاص لوجوده نائماً في الخطوط وكانت عليه الحراسة؛ فسأله الرئيس عن سبب نومه فعلم أن ذلك كان بسبب الإجهاد فإنه كان متعباً من قبل وأخذ الحراسة بدل زميل له مريض. وهنا صرفه الرئيس ولم يرض أن يكون جزاء اجتهاده ومروءته الإعدام. . . وما قيمة قوانين الحرب عنده؟ إنما هو يستمد قوانينه من قواعد الإنسانية، ولذلك تراه يصبح بالقواد (إني لا جلد لي أن أفكر أنني ألقى الله ودماء هذا الشاب المسكين على يدي) . . .
أجاب الرئيس ماكليلان إلى ما طلب وأمده بالرجال لكيلا يكون للقائد حجة عليه، فلقد كان يشيع في الناس من أول الأمر أن عدم تحرك القائد إنما يرجع إلى أن الحكومة تضن عليه بالمال والرجال. . . ولقد كتب إليه الرئيس خطاباً كان مما جاء فيه (أحسب أن القوات التي سيرت إليك قد بلغتك؛ وإذا كان الأمر كذلك فإنك الآن في الوقت الذي ينبغي أن تضرب فيه ضربة. . إن العدو بتأخرك يكسب نسبياً)
ولم يسع القائد إلا أن يصرح في رسالة له أنه واثق بعد من النتيجة وأنه أخذ في الزحف، ولكنه في الوقت نفسه أخذ يشكو من المطر الهطال ومن الطرق الوعرة، فكان هذا هو جهد ما فعل. . . وأخيراً لم ير الرئيس بداً من أن يبرق إليه في الخامس والعشرين من مايو يقول: (أظن أنه قد أزف الوقت لكي تهاجم رتشمنذ أو تدع هذا العمل جانباً وتأتي للدفاع عن وشنجطون)
فكأنما أراد ماكليلان في ذلك الوقت أن يكيد للرئيس، أو كأنما أراد أن يخلق مشاكل جديدة يتخذ منها ذريعة لهذا الجمود فلقد كتب إليه ينتقد الموقف الحربي كله في جميع الميادين ولم يقتصر على شؤون الحرب، بل راح ينتقد الحكومة في جميع شؤونها!
وتقدم القائد بعد ذلك نحو رتشمند تقدماً بطيئاً، فأدى ذلك إلى أن أرسل الثوار المدد إلى جيشهم الذي كان في طريقه لتهديد وشنجطون، وهنا لا يتردد ماكليلان في أن يرسل إلى وزير الحربية قائلاً إنه يزمع أن يتراجع. ومما جاء في رسالته قوله: (إذا أنا نجيت هذا الجيش فأني أقول لك في بساطة إني في ذلك لن أدين لك بشكر، لا ولا لأي شخص في وشنجطون، فلقد بذلتم قصارى جهدكم لتحطيم هذا الجيش)
وكان القائد لي في ذلك الوقت يزف على وشنجطون، وكان على حمايتها بوب أحد قواد الشمال ومعه ثمانية وثلاثون ألفا من الرجال ولكن جيش لي كان أكثر عدداً وأشد بأساً؛ وتبين أن خير وسيلة لرد لي عن وجهته أن يبادر ماكيلان بالزحف على رتشمند لا أن يتراجع ويتباطأ كما فعل
ولما يئس الرئيس منه في هذا السبيل أرسل إليه يدعوه لحماية العاصمة، ولكنه أبى أن يطيع حتى هذا الأمر وكتب يقول إنه سيجيبه إلى ذلك (إذا رأى الظروف تسمح به) وكان ذلك في شهر أغسطس، ولقد عاد الرئيس فكتب إليه يطلب إليه القدوم بكل ما في وسعه من سرعة وأبرق إليه القائد هاليك يستحثه ولكنه لم يأبه بذلك كله ولم يصل إلا بعد شهر من هذه الدعوة. . .
وكان أمراً طبيعياً أن تنزل الهزيمة بالقائد بوب وأن تبيت وشنجطون معر ضة للسقوط؛ ولقد عاود الذعر هذه المدينة على
نحو ما حدث غداة الهزيمة في معركة بول رن، بل لقد كان الموقف يومئذ أشد هولا؛ إذ اختلفت وجهات النظر في مجلس الوزراء واحتدم الجدل في المجلس التشريعي، وارتفعت الأصوات بطلب عقد الصلح مع الجنوبيين، الأمر الذي خيف منه أن يؤدي إلى انحلال العزائم. . . ولكن لنكولن وحده بقي على عزمه وثباته يعالج الموقف بالصبر والحزم ويهيب بالرجال ألا يتخاذلوا وينكصوا على أعقابهم. . .
ولقد كان للناس من هذا الصبر والثبات مثل ما يكون من النصر في معركة، وبذلك تضاءل فزعهم وعادت إليهم الثقة ووقفوا إلى جانب رجلهم
ثم إن الرئيس ضم عدداً من الجيوش بعضها إلى بعض وجعل منها جيشاً جديداً وضعه تحت قيادة ماكليلان، وطلب إليه أن يقابل لي بهذا العدد الهائل الذي بلغ مائتي ألف، فلم يفعل ماكليلان كما طلب الرئيس فأصاب أهل الشمال هزيمة أخرى في شهر سبتمبر
وأخيراً التحم جيش ماكليلان وجيش لي في معكرة عنيفة هي معكرة انتيتام، فلم ترجح كفة أحدهما، ولكن لي اضطر أن يوقف الزحف، بل اضطر أن يعبر نهر بوتوماك الذي كان على أبواب العاصمة، متراجعاً بذلك عنها، فكان على ماكليلان ألا يضيع هذه الفرصة فيتعقب الجيش المتراجع ويعركه في تراجعه ويوقع به هزيمة تفت في عضده، ولكنه قعد دون ذلك على رغم إلحاح الرئيس عليه أن يفعل، وراح يطلب المدد من جديد. . . وأصدر الرئيس إليه أمراً أن يسير في أثر الجيش المتراجع ولكن دون جدوى
ولقد بلغ من استهتار العدو بقوة الشماليين أن عبر أحد القواد الجنوبيين النهر بجنده وسار حتى اقترب من وشنجطون وألحق بأهل الشمال هزيمة منكرة، وأحاط بجيش ماكليلان، ولولا قلة عدد جنوده لأدى هجومه إلى كارثة ليس بعدها كارثة
على أن ماكليلان قد أساء إلى نفسه قبل كل شيء، فلقد فقد منزلته عند الناس، وبعد أن كان اللوم يوجه أول الأمر إلى الرئيس وحكومته أصبح يوجه إلى هذا القائد الذي أضاع كثيراً من الفرص بجموده. . . وراح الناس يتهمونه بأنه يفعل ذلك لغرض في نفسه، وهكذا أخذ يتضاءل شأنه حتى هان أمره على
الناس وتأنى الرئيس أن يعزله ليبحث عن قائد غيره. . .
وربما أُخِذَ على الرئيس طول صبره على ماكليلان ومصانعته زمناً على الرغم من تطاوله في غير مبرر؛ وبذلك يكون الرئيس هو الملوم في ضياع الفرص أو يكون على الأقل شريكاً لماكليلان فيما هو خليق به من اللوم؛ ولكن الرئيس لم يكن غراً، فهو يعلم أن كثيراً من جنود ماكليلان مفتونون به، يخلعون عليه من صفات العبقرية ومن معاني البطولة ما لا يتهيأ لقائد غيره. وكذلك كان لماكليلان أول الأمر في قلوب الناس من غير الجند مكانة عظيمة، وإذاً فلم يكن من الحكمة في شيء أن يقف الرئيس منه موقف البغض والنفور فيؤدي موقفه هذا إلى فتنة في وقت أن كانت البلاد أحوج ما تكون إلى الاتحاد ولم الشمل
على أن لنكولن كان بمصانعته ماكليلان على هذا النحو يظهره على حقيقته ويكشف للناس عن مواطن ضعفه، بينما كان هو يبهرهم بقوة صبره، تلك الخلة التي كان لها أعظم الأثر في إنقاذ البلاد من الخطر في تلك الأيام العصيبة، وأي صبر هو أعظم من هذا الصبر في زمن توالت فيه على الرئيس المهموم والشدائد؟
لقد كان إبراهام يتلقى الأنباء عن عدد القتلى والجرحى وهو أكثر الناس إشفاقاً وجزعاً، ولقد كان يسأل عن العدد من الفريقين المتحاربين لا من فريقه فحسب فيحزن لهؤلاء جميعاً، كأبناء أمة واحدة
ولقد كان الرئيس يذرف الدمع على ما يصيب رجاله في تلك الحرب الهائلة. ذهب ذات مرة إلى مقر أحد الجيوش فلعلم بموت صديق له كان من جلسائه في سبرنجفيلد، فأسرع إلى العودة مضطرباً يداه على صدره كأنما يمسكه أن يتصدع، وعيناه تفيضان، وعلى وجهه شحوب وكدرة، وإنه ليسير بين الجنود لا يلتفت إلى تحياتهم فلا يردها من شدة الغم وتكاد لا تقوى على حمله رجلاه. .
وفي تلك الأيام كان لا يفتأ يقرأ شكسبير، ففي مآسيه صدى لنفسه الحزينة. على أن عينيه تقعان ذات مرة على تسأل أم ولهى تقول: (لقد سمعتك أيها الأب الكاردينال تقول إننا سنرى ونعرف أصدقاءنا في السماء. ولئن كان هذا حقاً فلسوف
أرى ابني ثانية) . فانظر إلى الرجل يضع الكتاب ويكب بوجهه على كفيه فيملأهما من روافد دمعه. . .
ذلك هو الرجل الذي كان يقوم على شؤون هاتيك الحرب. فلله ما أقسى الأيام! إن فؤاده ليكتوي بنارها كلها؛ وإنه ليحس كل ضربة أو طعنة تصيب كل رجل غيره من الرجال، ولكن عليه أن يحمل الأهوال، وإلا فمن يحملها كما يحمل من الأبطال؟ (يتبع)

