إنك تتناول أدق المباحث الاجتماعية التي شغلت وما زالت تشغل المفكرين في كل عصر وفي كل بلاد، تتناولها وتخوض غمارها معتكفاً على موضع السر في ثقافتك العربية، مستنيراً بأضواء الكتاب الحق وحكمة من اهتدوا قبلك في هذا الشرق النير، فكانت عبادتهم فلسفة، وكانت صلواتهم استغراقاً وتفكيراً
كثير من مجددي الإنشاء في هذا الزمان ينحرفون عن ثقافتهم وغرائزهم القومية، فينتحلون مذاهب كتاب الغرب وأساليبهم، أما أنت فمن الفئة القليلة الآخذة بروح الشرق لأحياء الشرق، النافخة في الأحفاد أرواح أجدادهم
قرأت لك في منارة العرب الوهاجة، في (الرسالة) ، ما تتحف به العالم العربي من طرائف وبدائع، فأيقنت أنك من الكتاب العالميين الذي يستخدمون آياتهم من الألهام، ويستجلون الحقائق من قلب الحياة الخفاق، وما أقل من ينحنون على أنفسهم في هذه البلاد حين يكتبون! وما أكثر من يستطبعون الرواسم وينقلون مقلدين مشوهين!
بين ما نشرته لك (الرسالة) قطعة (رؤيا في السماء) وقفت عندها مأخوذاً بروعتها، فأردت أن أنقلها إلى اللغة الفرنسية لنشرها في مجلة أدبية في باريس، وقد ترجمتها فجاءت بما أبقيت لها من أسلوبك الفخم دليلاً على استقلال لغة العرب عن كل هذه الأساليب التي ينتحيها أكثر كتابنا مأخوذة عن الأسلوب الغربي، وعلى تفرد بيانها بهذا الإيجاز المعجز وفيه سر سحرها وبهائها
إن في مقالك من الدفاع عن حق الحياة وواجبات الحياة ما يعزز الوحي الذي أنزل على عيسى ومحمد (عليهما السلام) تحت سماء الشرق، فلم ينفذ الغربيون إلى كنهه في مبادئ المسيحية إذ ذهبوا منها في مسألة التبتل مذهباً أتى به الحواري بولس متأثراً بفلسفة الرومان وضائقة أزمنة الاضطهاد، لذلك ترى الأمم الغربية
عندما تقف واجفة من تناقص النسل تهب إلى معالجة الأخطار المحدقة بها متوسلة بنظريات الكفاح والتفوق على الأمم المجاورة، فهي ترمي طغمات الأطفال فيالق للجهاد في ساحات الحروب من أجل المال، وكتلاً من لحم تعصرها الآلات عصراً فتتدفق بدمائها رحيقاً تتجرعه المدنية سماً زعافاً
إن الغربيين ليفوتهم أن يحاربوا أعداء الأسرة والنسل بالمبادئ الروحية تتناول ما وراء هذه الحياة. وما أذكر مما قرأت لكتاب الغرب انهم شعروا بالأبوة كما شعرت بها أنت مخترقة حجاب الموت لتتجلى عند هدفها الأسمى في عالم الخلود
إن الأدب الغربي يقف بالأبوة عند نهاية الشطر الفاني من الحياة، فهو يرى الأرحام تدفع بالأجنة للقبور لا للأبد، لذلك أردت ألا يفوته ما أتيت به في مقالك الرائع من دعوة هي أقوى ما يتوسل به داع إلى حق الله في تناسل عبادة. وقد ترجمت هذا المقال لا مباهاة بروح الشرق العربية التي تهب من كل سطر فيه فحسب، بل لأنشر أيضاً في الغرب ما استوحته عبقريتك الشرقية من مبادئ الهداية الخالدة
إن هذا الحديث الذي أنطقت به أبا خالد وشيخه أبا ربيعة، لخير ما ابتكرته الآداب العالمية في هذا المطلب، وهذه الرؤى التي تقبض على الروح وترفعها قسراً إلى عالم الخفاء لتبسط من الحق أمام المتطلعين إلى ما وراء المادة ما يشعرون به في قرارة نفوسهم وينكرها عليهم عقلهم المنتبه المحلل الغارق في لجج الزائلات من قوة ومال ودول وجنود وحروب
غير أنني قبل أن أعلق على مقالك بما لا أرى بداً من إيراده بالفرنسية، أجدني مضطراً لإيضاح وجيز لا أراك تضن به، فان في ختام مقالك ما يفسح للفكر مجالاً للذهاب مذاهب تختلف اختلافاً بيناً عند النتيجة التي ترمي إليها
قلت: إن أبا ربيعة وقف في آخر حلمه تمر به طغمة الخالدين وتلقى إليه بكلمة (المشئوم) حتى مر غلام هو آخرهم فقال له: (كنا نرفع عملك في أعمال المجاهدين في سبيل الله، ثم ماتت امرأتك وتحزنت على ما فاتك من القيام بحقها، فرفعنا عملك درجة أخرى، ثم أمرنا الليلة أن نضع عملك مع الخالفين الذين فروا وجبنوا) فهل لك أيها الأستاذ الكبير أن تأتينا بإيضاح عما رآه الحق
للمعضل الذي هو فيه، فجرى إلى معمله، وكان نضده قد تغطى بقوارير مكسورة وزجاجات مهجورة تبعثرت جميعها عليه فكانت شواهد على ما كان فيه رجلنا من ترك ويأس. ومد يده إلى قمطر فأخرج منه قبابه. لقد كان ضل الطريق واليوم اهتدى اليه، وعما قريب يثبت أن نيدم مخطئ ضال. وتمطى يملأ رئتيه وسمعهما، ثم زفر زفرة طويلة أبدلته من ضيق سعة ومن أزمة فرجا. ومع أنه لم يكن أثبت أن ما بدا له هو التفسير الحق لصفير الهواء، إلا أنه وثق بالذي ارتآه وثوقاً آثر معه أن يستعجل الغبطة والسرور. ونظر إلى القبابات وابتسم وقال: (كل القبابات التي استخدمتها فيما سبق كانت لها رقبة واسعة استلزمت حرارة كثيرة وتسخيناً طويلاً لتسيح ويتم ختمها. وهذه الحرارة الكثيرة تطرد الهواء من القبابة قبل لحامها، فلا عجب إذن أن يندفع الهواء فيها إذا فض اللحام)
وارتأى أن ما قاله نيدم عن إغلاء القبابات الملحومة في الماء وإفساده مرونة ما بداخلها من الهواء كلام هراء. ولكن أنى له بإثبات ذلك؟ أنى له بختم القبابة دون أن يطرد هواءها؟ وجاء شيطانه يوسوس إليه، فأخذ قبابة أخرى فوضع بها بذراً وملأ بعضها بالماء، وأدار رقبتها في اللهب الشديد حتى ساحت وضاقت حتى كادت تلتحم إلا ثقباً صغيراً ضيقاً يصل بينها وبين هواء الجو. عندئذ برد القبابة؛ حتى إذا تمت برودتها قال: (إن الهواء بداخلها لا بد أن يكون مثله بخارجها. ثم جاء بلهب صغير سلطه على الثقب الباقي وهو كعين الإبرة فسده في لمحة دون أن ينطرد من هواء القبابة شيء. فلما اطمأن إلى ذلك وضع القبابة في الغلاية وأخذ يرقبها ساعة، وبينا هي تتأرجح وترقص في الماء كان هو ينشد الشعر ويترنم بالغناء. ثم نحاها أياماً، وفي ذات صباح جاء ليفتحها وهو واثق مما سيكون، فأشعل شمعة وأدناها من فم القبابة، وفي حذر شديد كسر فاها فسمع صفيراً، إلا أن لهب الشمع لم ينجذب إلى القبابة في هذه المرة بل مال عنها، دليلاً على أن مرونة الهواء داخلها أكثر من مرونته خارجها!
فكل هذا الغلي لم يفسد مرونة الهواء، بل على النقيض قد زاد مرونة، تلك المرونة التي قال نيدم بضرورتها لتلك القوة النباتية العجيبة. وأخرج اسبلنزانى من المرق القطرة فالقطرة، وعبثا حاول أن يجد فيها من الأحياء شيئاً برغم ازدياد مرونة
الهواء. وأعاد التجربة فالتجربة بتلك المثابرة التي عرفناها عن (لوفن هوك) ، وكسر قبابات وكب المرق على صدر قميصه ووسخ يديه، ولكنه لم يخرج على غير تلك النتيجة التي سلفت
- ٥ - انتصر اسبلنزانى فصاح بتجاربه ليسمع أوروبا، فتردد صداه شرقاً وغرباً، وسمعه نيدم وبيفون فجلسا على أنقاض نظريتهما البالية ينعيان أطلالها في كآبة ظاهرة وحزن باد. وما كان لهما مندوحة من هذا، وقد أفسدها عليهما هذا الطلياني بحقيقة واضحة بسيطة. فلما اطمأن على الذي كان، جلس يكتب. وبمقدار براعته في المعمل كان بارعاً في المكتب، وعلى حسن جلاده بالقباب والعدس، كان يحسن الجلاد بالقرطاس والقلم، على شريطة أن يكون قد اطمأن إلى أن حقائقه العلمية قد سبقت فغلبت في الصراع خصيمه، وهذا ما كان، فهو في هذا الوقت كان قد اطمأن إلى انصراع نيدم، وإلى ضياع نظريته الفكهة التي تنشئ الشيء من لا شيء. وكان اطمأن إلى أن الحيوانات جميعاً - حتى تلك الحيوانات الصغيرة - لا تأتي إلا من حيوانات مثلها عاشت من قبلها، وإلى أن هذه المكروبات الصغيرة تظل طيلة حياتها مكروبات من النوع الذي كانته آباؤها، فإذا هي أنتجت كان نتاجها من جنسها؛ كذلك الحمار في حياته لا يستحيل جملاً، وهو لا يأتي إلا عن حمار، فإذا ولد فإنما يلد حماراً
وصاح اسبلنزانى يقول: (واختصاراً قد ثبت أن نيدم مخطئ، وقد أثبت فوق هذا أن في علم الأحياء نظاماً وقانوناً، كما أن في علم الأفلاك قانون ونظاماً) ثم أخذ يصف ما تكون حال هذا العلم لو أن نيدم لم يجد من يراقبه ويحاسبه، إذن لعشنا في اختبال وارتياع من نزق هذه (القوة النباتية) المتقلبة الهوجاء تلك القوة التي إن هي شاءت أخرجت من الشيء ضفدعة، وإن هي شاءت أخرجت منه كلباً؛ أو هي تخرج منه اليوم فيلاً، وغداً عنكبوتاً؛ أو تخرج منه في الصباح حوتاً سابحاً، وفي الظهر بقرة حلوباً، وفي المساء إنساناً ناطقاً
قضى على نيدم، وقضى على قوته النباتية، وأصبح الإنسان يستمرئ العيش، ويستنشق الهواء في أمان وسلام، فلا تروعه تلك القوة الرهيبة اللعينة التي كان يتخيلها مخبوءة في هذا الركن ووراء ذلك الحائط تنتهز الفرصة لتحيله فيلاً أو تخلق منه غولاً
وسرى اسماسبلنزانى في جامعات أوروبا يسطع كالماس، ويتألق كالنجم. وأيقنت جماعاتها العلمية بأنه عالم العصر الأوحد وكتبإليه فريدريك الأكبر طويلة، وبيمينه أمضى براءه تعيينه عضواً في أكاديمية برلين. وماريا تريزا النمسا وعدوة فريدريك اللدودة، نافست هذا الملك العظيم في تكريم هذا العالم الكبير، فنفسته، وذلك أنها عرضت عليه أن يكون أستاذاً في جامعة بافيا العتيقة بلمباردي إليه رسلها من عظام مستشاريها فجاءوه في حفل ضخم، وموكب فخم، مثقلين بكتب ملكية، وأختام امبراطورية، يتوسلون إليه في قبول المنصب عسى أن تجد جامعتهم فيه منقذها من السوء الذي هي فيه، ورافعها من الدرك الذي هبطت إليه. وجرت بينه وبينهم مناقشات، وجرت مباحثات ومساومات، في الأجر الذي يتقاضاه اسبلنزانى، فقد كان دائماً يحسن جمع المال كلما أمكنته الفرصة. وانتهت تلك الأحاديث بقبوله أستاذية التاريخ الطبيعي بالجامعة، وبتنصيبه أميناً لمتحف التاريخ الطبيعي في بافيا كذلك
وذهب إلى متحف بافيا فوجده خاوياً خالياً. فشمر عن ساعده، وأخذ يحاضر في كل ما هب ودب، ويلقى دروساً في الجمهور يضمنها تجارب كبيرة هائلة يجريها على سمعهم وأبصارهم فهالت الناس وراعتهم، لأن النجاح كان يأتيها دائماً من حذق يديه، وأراد أن يملأ متحفه الخالي فأرسل إلى هنا وإلى هناك في طلب مجموعات من حيوانات عجيبة ونباتات غريبة وطيور لا يعرفها القوم. وذهب هو بنفسه إلى الجبال فتسلقها على خطورة مرتقاها، ورجع منها بركائز كثيرة وخامات غالية. وذهب إلى البحار يصطاد قروشها المفترسة، وإلى الغاب يقتنص من ذوات الريش كل ذات لون بهيج. ذهب كل مذهب ليس من اليسير تحقيقه، وضرب كل مضرب ليس من الهين تصديقه، وكل هذا في سبيل الجمع لمتحفه، وفي سبيل التخفف من ذلك النشاط الجم وتلك الطاقة الصخابة التي امتلأ بها جلده فخرجت به عما وسم العرف به العلماء من طمأنينة وهدوء
وفي الفترات التي تخللت هذا التجميع هذا التدريس، كان ينفلت إلى معمله بأمراقه ومجاهره فيغلقه على نفسه، ويجري فيه التجارب الطويلة ليزيد في إثبات أن الأحياء الصغيرة تنصاع
لقوانين الطبيعة انصياع الخيل والفيلة والرجال لها. ووضع قطرات من أحسيته وهي تموج بالمكروب على قطع من الزجاج المنبسط، ونفخ فيها من دخان تبغه، ثم أسرع فنظر إليها بعدسته، ثم ضحك ملء فيه عندما رآها تتهارب لتتقى أثر دخانه، وأطلق عليها شرراً كهربائياً، وعجب لما رآها تطيش وتميد، ثم تتمطى وتموت سريعاً
قال اسبلنزانى: (إن بذور هذه الأخبار الدقيقة أو بيضها قد يختلف عن بيض الدجاج أو بيض الضفدع أو بيض السمك، وهذه الأحياء نفسها قد تصمد للماء الغالي في قباباتي المختومة، ولكن عدا هذا فهي يقيناً لا تختلف عن سائر الحيوانات) . ولم يكد أن ينطق بهذا اليقين حتى عاد يسترد ما انفلت به من أنفاسه
فذات يوم وقد انفرد في معمله قال لنفسه: (كل حيوان على ظهر هذه الأرض لا بد له من الهواء ليحيا، وإذن فلأتبين حيوانية هذه الأحياء الصغيرة فأضعها في فراغ خلو من الهواء وأرقبها وهي تموت) . وببراعة بينة مط بالنار من أنبوب الزجاج السميك أنبوباً شعرياً رفيعاً كما كان يصنع (لوفن هوك) وغمس أنبوبة منها في مرق يعج بتلك الأحياء، فصعد فيها منه شيء. وأساح أحد طرفيها في النار فسده، ووصل الطرف الآخر المفتوح بمضخة قوية لتفريغ الهواء، وشغلها، ولصق عدسته بجدار أنبوبة الزجاج الرفيع، وأخذ يصوب بصره إلى تلك الأذرع الدقيقة التي منحها الله لتلك الأحياء لتجدف بها في الماء، وضل يرقب من ساعة لأخرى عله يجد في حركتها المنتظمة الهادئة ميدانا وطيشانا، وأخذ يتربص الفناء بتلك الأحياء، ولكن المضخة ظلت في دورانها، وظلت الأحياء في جريانها وروغانها متناسية صاحبنا العالم ومضخته البديعة، متجاهلة هذا الهواء الذي يقول بلزومه لحياة الأحياء. وعاشت أياماً. وعاشت أسابيع. وأعاد اسبلنزانى تجربته المرة بعد المرة. هذا غريب!. هذا محال. لا يعيش حي بلا هواء، كيف تتنفس هذه الأحياء. وكتب إلى صديقه (بونيت) مستغرباً: -
(إن طبيعة هذه الحيوانات مدهشة. فإنها تعيش في الفراغ مثل عيشها في الهواء، وتنشط في هذا نشاطها في ذلك، فهي
تخلفاً وجبنا في أبي ربيعة. فهل استحق هذا الشيخ نعته بالمشئوم لأنه، وقد استهوته عظة رفيقه، إلى على نفسه أن (يحول المرأة التي كانت في قلبه إلى صلاة) فأراد قتل تذكارها بالوفاء لله دون الوفاء لها في قبرها. أم كان ذلك لأنه قرر التبتل بعدها فلا يأخذ من بنات حواء من تقوم مقامها
إن من ينظر إلى حديث الشيخين ويأخذ بما ورد في القصة وفي ختامها ليقف مخيراً محتاراً بين السببين، وليس غير الأستاذ الكبير من يزيل هذا الإبهام فيأتي بمقال عن مسألة لها مكانها بين العقد الاجتماعية، فيقول لنا ما إذا كان المثل الأعلى في العلاقة الزوجية محبة الشخصية في الأنوثة أم محبة الأنوثة، في الشخصية
إسكندرية

