١ ترددت خلال العام الماضى دعوة لأحياء ذكرى المؤرخ الفيلسوف ابن خلدون لمناسبة انقضاء ستمائة عام على مولده، فاستجابت دوائر التفكير والأدب فى جميع البلاد العربية لهذه الدعوة الكريمة، وأقيمت عدة حفلات علمية للاشادة بذكره وخالد آثاره، ولا سيما فى تونس مسقط رأسه ومطلع مجده، وفى مصر مقام شيخوخته ومثوى رفاته؛ وحفلت المجلات والصحف حينا بمختلف البحوث عنه. ولكن ناحية من حياة المفكر الكبير لم تلق كبير عناية، تلك هى حقبة مقامه بمصر، وصلته بها، وأثره فيها؛ وهذا ما نريد أن نعنى به فى هذا الفصل تحية لذكرى المؤرخ والفيلسوف الاجتماعى الأشهر.
غادر ولى الدين عبد الرحمن بن خلدون تونس فى منتصف شعبان سنة ٧٨٤ هـ (أكتوبر سنة ١٣٨٢م)، فوصل ثغر الاسكندرية فى يوم عيد الفطر بعد رحلة بحرية شاقة، ويقول ابن خلدون فى (تعريفه) عن نفسه، أنه قدم إلى مصر لينتظم منها فى ركب الحاج، وانه لبث بالاسكندرية شهرا يهيئ العدة لذلك، ولكن لم يتح له يومئذ أن يحقق هذه الغاية، فقصد الى القاهرة، وكان قضاء الفريضة حجته الظاهرة فى مغادرة تونس، واستئذان سلطانها أبى العباس فى السفر الى المشرق. ولكن ما يقصه ابن خلدون من الحوادث قبل ذلك يدل على أن مغادرته لتونس كانت فرارا؛ وكانت خشية من بطش سلطانها، وغدر بلاطها. وكان ابن خلدون قد انفق نحو ربع قرن فى خوض غمار السياسة ودسائس القصور، وتقلب فى خدمة معظم
سلاطين المغرب والاندلس، وذاق نعم الرياسة ومحن النقمة مرارا، وعانى مرارة السجن والأسر وخطر الهلاك غير مرة. ولم تهدأ نفسه المضطرمة بشغف المغامرة والنضال والدس الا فى كهولته، يوم أعيته الحيل، وغلبته الأرزاء والمحن، وفقد عطف معظم القصور التى تقلب فيها، وأضحى يتبرم بقضاء تلك المهام السلطانية التى كان يتخذ قضاءها وسيلة للنفوذ والرياسة. عندئذ عافت نفسه غمر السياسة ودسائس القصر، فارتد فى أواخر سنة ٧٧٦هـ، الى قلعة نائية منعزلة بناحية أولاد عريف بالمغرب الأوسط؛ وهنالك انقطع للبحث والتأليف مدى أربعة أعوام، وأخذ فى كتابة تاريخه الضخم، وأنجز منه مقدمته الشهيرة وعدة مجلدات أخرى. ثم رأى أن يقصد الى تونس ليستكمل مراجعه فى مكاتبها، وكانت بينه وبين سلطانها وحشة؛ فاستأمنه وحصل على رضائه؛ وغادر مقامه النائى الى تونس فوصل اليها فى شعبان سنة ٧٨٠. وهنالك اشتغل باتمام مؤلفه بتكليف السلطان ورعايته حتى أتمه ورفعه الى السلطان، ومدحه يومئذ بقصيدة طويلة أوردها فى (تعريفه). وكان ذلك لنحو عامين من مقدمه إلى تونس (٧٨٢ - ١٣٨٠م).
وهنا ألقى ابن خلدون نفسه فى معترك جديد من الدسائس، وقصده رجال البطانة بالكيد والسعاية لدى السلطان، وأغروه أكثر من مرة باستصحابه الى غزواته ومهامه الخطرة، فخشى ابن خلدون عاقبة السعاية، ولم يجد فى تونس ما كان ينشده من هدوء وسكينة، فانتهز فرصة وجود السلطان فى تونس، ووجود سفينة مصرية فى مرساها تقصد الاسكندرية، فألح على السلطان فى الاذن له بالسفر لقضاء الحج، وركب البحر بمفرده تاركا اسرته فى تونس، فوصل الاسكندرية كما قدمنا فى يوم عيد الفطر سنة ٧٨٤.
كان مقدم ابن خلدون الى مصر اذا، نوعا من الفرار وخيفة البطش والمحنة، ولم يكن قضاء الفريضة قصده المباشر، بل كانت حجته الظاهرة. وكان يرجو بلا ريب أن يقضى بقية أيامه بمصر فى هدوء
ودعة، وأن ينعم بذلك الاستقرار الذى لم تهيئه له بالمغرب حياة النضال والمغامرة. وكان يومئذ فى الثانية والخمسين من عمره، ولكنه كان وافر النشاط والقوة، يتطلع دائما إلى مراتب النفوذ والعزة؛ وكانت القاهرة يومئذ موئل التفكير الاسلامى فى المشرق والمغرب، ولبلاطها شهرة واسعة فى حماية العلوم والآداب، فكان يرجو أن ينال قسطه من هذه العناية والحماية. ووصل ابن خلدون الى القاهرة فى أول ذى القعدة سنة ٨٤ - نوفمبر سنة ١٣٨٢؛ فبهرته ضخامتها وعظمتها وبهاؤها كما بهرت سلفه ومواطنه الرحالة ابن بطوطة قبل ذلك بنصف قرن وكما بهرت على كر العصور كل من رآها من أعلام المشرق والمغرب. ولا غرو فان المؤرخ لم ير بالمغرب سوى تلك المدن الصخرية المتواضعة، ولم ير بالأندلس حيث قضا ردحا من الزمن، مدينة فى عظمة القاهرة وروعتها. وهو يهتف للقاهرة أثر مقدمه ويحييها بحماسة تنم عن عميق إعجابه وسحره وتأثره، ويصفها فى تلك الفقرة الرنانة: (فرأيت حاضرة الدنيا، وبستان العالم، ومحشر الأمم، ومدرج الذر من البشر، وايوان الأسلام، وكرسى الملك؛ تلوح القصور والأواوين فى جوه. وتزهو الخوانق والمدارس والكواكب بآفاقه، وتضىء البدور والكواكب من علمائه؛ قد مثل بشاطئ النيل نهر، ومدفع مياه السماء، يسقيه العلل والنهل سيحه، ويجبى اليهم الثمرات والخيرات ثجة؛ ومررت فى سكك المدينة تغص بزحام المارة، وأسواقها تزخر بالنعم. . .)
ولم يكن ابن خلدون نكرة فى مصر. فقد كان المجتمع القاهرى يعرف الكثير عن شخصه وسيرته؛ وكانت نسخ من مؤلفه الضخم ولا سيما مقدمته الشهيرة قد ذاعت قبل ذلك بقليل فى مصر وغيرها من بلدان المشرق، وأعجبت دوائر العلم والتفكير والأدب بطرافة مقدمته وجدتها وروعة مباحثها. فلم يكد يحل بالقاهرة حتى أقبل عليه العلماء والطلاب من كل صوب. يقول ابن خلدون فى كبرياء وتواضع معا: (وأنثال على طلبة العلم بها يلتمسون الإفادة مع قلة البضاعة، ولم يوسعونى عذرا) وهذا ما تشير اليه التراجم المصرية؛ فيقول أبو المحاسن بن تغرى بردى فى ترجمته لابن خلدون: (واستوطن القاهرة وتصدر للأقراء بالجامع الأزهر مدة، واشتغل وأفاد) ويقول السخاوى: (وتلقاه أهلها (أى أهل
مصر) وأكرموه وأكثروا ملازمته والتردد عليه، بل تصدر للأقراء بالجامع الأزهر مدة. . .). جلس ابن خلدون للتدريس بالأزهر، والظاهر أنه كان يدرس الحديث والفقه المالكى، ويشرح نظرياته فى العمران والعصبية وأسس الملك ونشأة الدول؛ وغيرها مما عرض اليه فى مقدمته. وكانت هذه الدروس خير أعلان عن غزير علمه، وشائق بحثه، وساخر بيانه. وكان ابن خلدون محدثا، بارعا رائع المحاضرة، يخلب لباب سامعيه بمنطقه وذلاقته. وهذا ما يحدثنا به جماعة من أعلام التفكير والأدب المصريين الذى سمعوه أو درسوا عليه؛ ومنهم المؤرخ الكبير تقى الدين المقريزى الذى سمعه ودرس عليه فتى وكذا الحافظ ابن حجر؛ فقد درس عليه وانتفع بعلمه ووصفه بقوله: (وكان لسنا فصيحا، حسن الترسل وسط النظم؛ مع معرفة تامة بالأمور خصوصا متعلقات المملكة) ونقل السخاوى عن الجمال البشيشى أنه (كان فصيحا مفوها جميل الصورة) وعن الركراكى (أن محاضرته اليها المنتهى).
وهكذا استطاع ابن خلدون لأول مقدمه أن يخلب الباب المجتمع القاهرى، وأن يستثير إعجابه وتقديره؛ ولكن صفاء الأفق من حوله لم يدم طويلا كما سنرى، وفى أثناء ذلك اتصل ابن خلدون بأمير من أمراء البلاط يدعى علاء الدين الطنبغا الجوانى، فشمله برعايته، وساعده على التقرب من السلطان والاتصال به. وكان السلطان يومئذ الظاهر برقوق؛ وقد ولى الملك قبيل مقدم ابن خلدون بأيام قلائل (أواخر رمضان سنة ٧٨٤ )، فأكرم وفادة المؤرخ واهتم بأمره؛ يقول ابن خلدون: (فأبر مقامى. وآنس الغربة ووفر الجراية من صدقاته، شأنه مع أهل العلم) وبدا تحققت أمنية المؤرخ من الاستقرار والمقام الهادئ فى ظل أمير يحميه ويكفل رزقه، ولم يمض قليل على ذلك حتى خلا منصب للتدريس بالمدرسة (القمحية) بجوار جامع عمرو وهى من مدارس المالكية فعينه السلطان فيه. ويعنى ابن خلدون فى تعريفه، بوصف مجلسه الأول فى هذا المعهد:
" البقية على صفحة ٣١"
"بقية المنشور على صفحة ١٦"
فقد شهده جمهرة من الأكابر أرسلهم السلطان لشهوده؛ والتفوا حول المؤرخ. والقى ابن خلدون فى ذلك الحفل خطابا بليغا، يحرص على ايراده بنصه. وقد تكلم فيه بعد الديباجة عن فضل العلماء فى شد أزر الدولة الاسلامية. وعن تغلب الدول. ثم اشاد بما لدى السلاطين المصرية من فضل فى نصرة الاسلام، واعزازه، ومن همم فى إنشاء المساجد والمدارس، ورعاية العلم والعلماء والقضاة، ثم دعا للملك الظاهر، وأشاد بعزمه وعدله وعقله؛ وعطف بعدئذ على نفسه، وما أوليه من شرف المنصب فى تلك العبارة الشعرية: (ولما سبحت فى اللج الأزرق، وخطوت من أفق المغرب الى أفق المشرق، حيث نهر النهار ينصب من صفحة المشرق، وشجرة الملك التى اعتز بها الاسلام تهتز فى دوحه المعرق، وأزهار الفنون يسقط علينا من غصنه المورق. . أولونى عناية وتشريفا، وغمرونى إحسانا ومعروفا، واوسعوا همتى إيضاحا ونكرتى تعريفا، ثم أهلونى للقيام بوظيفة السادة المالكية بهذا الوقف الشريف. . . إلخ)
النقل ممنوع "للبحث بقية"

