الرجوع إلى البحثالذهاب لعدد هذه المقالة العدد السادسالرجوع إلى "الرسالة"

ابن خلدون فى مصر

Share

٢ وانه لمنظر شائق ذلك الذى يقدمه الينا ابن خلدون عن مجلسه فى  ذلك اليوم ومن حوله العلماء والأكابر يشهدون الدرس الأول  لذلك المفكر المبدع. وهو يحرص على تدوينه كما يحرص على تدوين  الأثر الذى يعتقد أنه أحدثه اذ يقول: (وانفض ذلك المجلس  وقد شيعتنى العيون بالتجلة والوقار). وفى ذلك ما يدل على ما كان  يشعر به ابن خلدون من كبرياء وثقة من أنه كان شخصية ممتازة  تجب احاطتها بمظاهر خاصة من التكريم والرعاية. ثم كانت الخطوة  الثانية فى ظفره بمناصب الدولة، وتعيينه قاضيا لقضاة المالكية فى  اواخر جمادى الآخرة سنة ٧٨٦ (أغسطس ١٣٨٤م) مكان  القاضى المعزول جمال الدين بن خير السكندرى. وكان ارتفاعه  الى هذا المنصب الذى هو رابع أربعة تعتبر من أهم مناصب الدولة  إيذانا بوثوب العاصفة من حوله، واضطرام تلك الخصومات التى  كدرت صفو مقامه، وادالت نفوذه، واقتلعته من المنصب غير  مرة. يقول ابن خلدون فى سخرية: (وأقمت على الاشتغال بالعلم  وتدريسه الى أن سخط السلطان قاضى المالكية يومئذ فى نزعة من  النزعات الملوكية. فعزله واستدعانى للولاية فى مجلسه وبين أمرائه.  فتفاديت من ذلك، وابى الا مضاءه) . وقد عرف ابن خلدون  هذه (النزعات الملوكية)، وعرف انها تبطن من الشر والنقم فى  معظم الأحيان أكثر مما تسبغ من العطف والنعم. ولكنه يريد أن  نفهم أن ارتفاعه الى منصب القضاء لم يكن نزعة ملوكية فقط. وانما  اختاره السلطان كما يقول (تأهيلا لمكانه وتنويها بذكره).  ونستطيع أن نقدر أن ولاية ابن خلدون لخطة القضاء لم تكن  حادثا عاديا، فقد كان أجنبيا. وكان تقدمه فى حظوة السلطان،  وفى نيل الناصب سريعا. وكانت مناصب التدريس والقضاء دائما

مطمح جمهرة الفقهاء والعلماء المحليين؛ ولم يكن مما يحسن وقعه لديهم  أن يفوز بها الاجانب الوافدون دونهم. واذا فقد تولى العلامة  المغربى منصبه فى جو يشوبه كدر الخصومة والحسد. وجلس بمجلس  الحكم فى المدرسة الصالحية بحى بين القصرين، فلم يمض سوى قليل  حتى ظهرت من حوله بوادر الحقد والسعاية ويقول لنا ابن خلدون  فى سبب هذه العاصفة التى ثارت حول توليه القضاء، كلاما طويلا  عما كان يسود القضاء المصرى يومئذ من فساد واضطراب، وما يطبع  الأحكام من غرض وهوى، وعما كان عليه معظم القضاة والمفتين  والكتاب والشهود من جهل وفساد فى الذمة؛ وانه حاول اقامة  العدل الصارم المنزه عن كل شائبة، وقمع الفساد بحزم وشدة،  وسحق كل سعاية. وغرض: (فقمت فى ذلك المقام المحمود،  ووفيت عهد الله فى إقامة رسوم الحق وتحرى العدالة. . . .  لا تأخذنى فى الله لومة. ولا يرغبنى عنه جاه ولا سطوة، مسويا  بين الخصمين، آخذ الحق الضعيف من الحكمين، معرضا عن  الشفاعات والوسائل من الجانبين، جانحا الى التثبت فى سماع  البينات، والنظرة فى عدالة المنتصبين  لتحمل الشهادات؛ فقد كان البر  منهم مختلطا بالفاجر، والطيب متلبسا بالخبيث، والحكام ممسكون  عن انتقادهم فيتجاوزون عما يظهر عليهم من هناتهم. لما يموهون  به من الاعتصام بأهل الشوكة، فان غالبهم مختلطون بالأمراء،

معلمون للقرآن وأئمة للصلوات، يلبسون عليهم بالعدالة فيضنون بهم  الخير، ويقسمون الحظ من الجاه فى تزكيتهم عند القضاة، والتوسل  لهم، فاعضل داؤهم، وفشت المفاسد بالتزوير والتدليس بين الناس  منهم؛ ووقفت على بعضها فعاقبت فيه بموجب العقاب، ومؤلم  النكال. . .)  ثم يعدد نواحى الفساد التى شهدها، وجد فى  إصلاحها وقمعها، وكيف مضى فى سبيله (من الصرامة وقوة  الشكيمة) وكيف احتقر شفاعات الأعيان والأكابر خلافا لما  اصطلح عليه زملاؤه القضاة من قبولها، حتى ثار عليه السخط من  كل ناحية، وسلقته جميع الألسن وكثرت فى حقه السعاية لدى البلاط. وهذا التعليل الذى يقدمه لنا ابن خلدون عن سبب الحفيظة  عليه، واضطرام الخصومة حوله، معقول يحمل طابع الصراحة  والصدق. بل هذا ما تسلم به التراجم المصرية المعاصرة والقريبة من  عصره. فيقول ابو المحاسن مثلا مشيرا الى ولايته للقضاء: (فباشره  بحرمة وافرة، وعظمة زايدة، وحمدت سيرته، ودفع رسائل أكابر  الدولة، وشفاعات الاعيان، فاخذوا فى التكلم فى أمره. . .)  ويقول ابن حجرو السخاوى(فتنكر (أى بن خلدون) للناس بحيث  لم يقم لأحد من القضاة لما دخلوا للسلام عليه، مع اعتذاره لمن عيبه عليه

فى الجملة، وفتك فى كثير من أعيان الموقعين والشهود، وصار يعزر  بالصفع، وشبهة الزج، فاذا غضب على إنسان، قال زجوه  فيصفع حتى تحمر رقبته) وفيما ينقل السخاوى قصد الى التعريض  والانتقاص، وسنرى أنه شديد الوطأة على ابن خلدون يشتد فى  نقده وتجريحه؛ ولكن فى قوله ما يؤيد أن ابن خلدون كان يصدر  فى قضائه عن نزاهة وحزم وصرامة؛ بل هو يشهد لابن خلدون  بذلك صراحة، حينما يقول عنه فى موضع آخر: (ولم يشتهر عنه  فى منصبه الا الصيانة. .)

انقضت العاصفة على ابن خلدون اذا لأشهر قلائل من ولايته  وكثر السعى فى حقه والاغراء به حتى (أظلم الجو بينه وبين أهل  الدولة) على حد تعبيره، وفقد حظوته وما كان يتمتع به من عطف  ومؤازرة. واصابته فى ذلك الحين نكبة أخرى هى هلاك زوجه  وولده وماله. وكان منذ مقدمه ينتظر لحاق اسرته به؛ ولكن  سلطان تونس حجزها عن السفر ليرغمه بذلك على العودة الى تونس  فتوسل الى السلطان الظاهر ان يشفع لديه فى تخلية سبيل  اسرته به، ففعل، وأطلق سراح الأسرة وركبت البحر الى مصر.  ويروى لنا ابن خلدون نبأ الفاجعة فى قوله: (ووافق ذلك مصابى  بالأهل والولد. وصلوا من المغرب فى السفين، فأصابها قاصف  من الريح، فغرقت، وذهب الموجود والسكن والمولود؛ فعظم المصاب  والجزع، ورجح الزهد، واعتزمت على الخروج عن المنصب)  ولم يمض سوى قليل حتى أقيل المؤرخ من منصب القضاء، أو بعبارة  أخرى، حتى عزل. بيد انه يريد أن نفهم أن هذا العزل جاء محققا  لرغبته اذ يقول: (وشملتنى نعمة السلطان أيده الله فى النظر بعين  الرحمة، وتخلية سبيلى من هذه العهدة التى لم أطق حملها، ولا عرفت  فيما زعموا مصطلحها، فردها الى صاحبها الأول وأنشطنى من  عقالها؛ فانطلقت حميد الأثرة مشيعا من الكافة بالأسف والدعاء  وحميد الثناء، تلحظنى العيون بالرحمة، وتتناجى الآمال فى العودة)  والخلاصة أن ابن خلدون يؤكد لنا ان عزله كان نتيجة التحامل  والحقد والسعاية فقط، وأنه أثار استياء وأسفا فى المجتمع القاهرى،  وانه غادر منصبه موفور الكرامة والهيبة. بيد اننا سنرى، حسبما يشير فى  قوله المتقدم، انه كان يرمى بجهل الأحكام والاجراءات وانه لم يكن بذلك  أهلا لتولى القضاء، وانه كان مشغوفا بالمنصب، أشد ما يكون حرصا عليه.  وكان عزل ابن خلدون عن منصب القضاء لأول مرة فى السابع  من جمادى الأولى سنة ٧٨٧ هـ (يوليه ١٣٨٥م) ، أعفى لنحو عام  فقط من ولايته، فانقطع الى الدرس والتأليف كرة أخرى.  على أن هذا العزل لم يكن إيذانا بسخط السلطان ونقمته؛ فقد  لبث ابن خلدون فى منصب التدريس بالقمحية؛ ولم يمض سوى

قليل حتى عينه السلطان أيضا لتدريس الفقه المالكى بمدرسته الجديدة  التى أنشأها فى حى بين القصرين (المدرسة الظاهرية البرقوقية).  واحتفل ابن خلدون كعادته بالدرس الأول، وألقى خطابا بليغا  يدعو فيه للسلطان، ويعتذر عن قصوره فى تواضع ظريف. وشغل  بالدرس فى المعهدين حتى كان موسم الحج عام تسعة وثمانين، فاعتزم  عندئذ اداء الفريضة، وأذن له السلطان وغمره بعطائه، وغادر  القاهرة فى منتصف شعبان؛ وقصد الى الحجاز بطريق البحر؛ ثم  عاد بعد أداء الفريضة، بطريق البحر أيضا حتى القصير؛ ثم أخترق  الصعيد بطريق النيل، فوصل القاهرة فى جمادى الأولى سنة تسعين (٧٩٠ هـ) ؛ وقصد السلطان توا وأخبره بأنه دعا له فى الأماكن  المقدسة، فتلقاه بالعطف والرعاية. ثم خلا كرسى الحديث بمدرسة  صرغتمش 1 فولاه السلطان اياه بدلا من تدريس الفقه بالمدرسة  السلطانية؛ وجلس للتدريس فيها فى المحرم سنة إحدى وتسعين،  وألقى خطاب الافتتاح كعادته فى حفل فخم، وأعلن أنه قد قرر  للقراءة فى هذا الدرس كتاب الموطأ للامام مالك؛  ويعرفنا ابن خلدون بموضوع درسه الأول فى ذلك اليوم، فقد تكلم فيه عن  مالك ونشأته وحياته وكيفية ذيوع مذهبه، ثم يقول لنا فى كبريائه  المعهود: (وانقض ذلك المجلس، وقد لاحظتنى بالتجلة والوقار  العيون، واستشرت اهليتى للمناصب القلوب، وأخلص النجا فى ذلك  الخاصة والجمهور) .

"النقل ممنوع" "البحث بقية"

اشترك في نشرتنا البريدية