بعد وفاة ابن خلدون بأكثر من قرن، وضع نيكولو ميكافيللي المؤرخ والسياسي الإيطالي(2) كتاباً يتبوأ فى التفكير الغربي مكانة كتلك التى تتبوأها مقدمة ابن خلدون فى التفكير الإسلامي. ذلك هو كتاب (الأمير) Liprncipe ،وهو كأثر ابن خلدون قطعة بديعة من التفكير السياسي والاجتماعي، تمتاز بكثير من القوة والطرافة والابتكار الفائق. وإذا لم يك بين الأثرين كثير من أوجه الشبه المادي، فان بينهما كثيراً من أوجه الشبه المعنوي، وبين الذهنين بالأخص مشابهة قوية من حيث الظروف والبيئة التى تكون كل فيها، ومن حيث فهمه للتاريخ والظواهر الاجتماعية، ومن حيث قوة العرض والاستدلال بشواهد التاريخ.
ونستطيع أن نرجع كثيرا من أسباب هذه المشابهة بين المفكرين العظيمين إلى تماثل عجيب فى العصر والظروف السياسية والاجتماعية التى عاش كل منهما فيها. فقد كانت الإمارات والجمهوريات الإيطالية التى عاش ميكافيللي فى ظلها تعرض فى إيطاليا نفس الصور والأوضاع السياسية التى تعرضها الممالك المغربية أيام ابن خلدون، من حيث اضطرام المنافسات والخصومات فيما بينها، وطموح كل منها إلى افتتاح الاخرى، وتقلب إماراتها ورياساتها بين عصبة
من الزعماء والمتغلبين. وقد اتصل ميكافيللي بهذه الدول، وقضى عصرا فى خدمة إحداها وهي وطنه فلورنسا (فيرنتزا) وانتدب لمهام سياسية مختلفة؛ واستطاع أن يدرس عن كثب كثيرا من الحوادث والتطورات السياسية التى تعاقبت فى عصره، وان يجعل من هذا الدرس مادة لتأملاته عن الدولة والأمير، كما جعل ابن خلدون من الحوادث التى عاصرها واشترك فيها مادة لدرسه وتأملاته.
على أن المفكر المسلم أغزر مادة وأوسع آفاقا من المفكر الايطالي. ذلك أن ابن خلدون يتخذ من المجتمع كله وما يعرض فيه من الظواهر مادة لدرسه، ويحاول أن يفهم هذه الظواهر وأن يعللها على ضوء التاريخ، وأن يرتب على سيرها وتفاعلها قوانين اجتماعية عامة. ولكن ميكافيللي يدرس الدولة فقط، أو يدرس أنواعا معينة من الدول، هى التى يعرضها التاريخ اليوناني والروماني القديم، وتاريخ إيطاليا فى عصره، ويدرس شخصية الأمير أو المتغلب الذى يحكم الدولة، وما يلحق بها من الخلال الحسنة أو السيئة، وما يعرض لها من وسائل الحكم. وهذه الدراسة المحدودة المدى تكون جزءا صغيرا فقط من دراسة ابن خلدون الشاسعة، وهو الفصل الثالث من الكتاب الأول من المقدمة، وهو الذى يدرس فيه أحوال الدولة العامة والملك والمراتب السلطانية. وحتى فى هذا المدى المحدود يتفوق ابن خلدون على ميكافيللي تفوقا عظيما. ويبتدع هنا نظرية العصبية، ونظرية إعمار الدول، ويتناول خواص الدولة من الناحية الاجتماعية وإن كان ميكافيللي من جهة أخرى يتفوق على ابن خلدون فى سلاسة المنطق، ودقة العرض والتدليل، ورواء الأسلوب.
كتب ميكافيللي كتابه (الأمير) سنة 1513 وأهداه إلى لورنزو دى مديتشي (الأفخم) أمير فلورنسا، وهو يشير إلى غرضه من وضع كتابه فى قوله للأمير فى خطاب الإهداء: (ومع أني أعتبر هذا المؤلف غير خليق بمطالعة محياك، فإني اعتمد جل الاعتماد على عطفك ورقتك فى قبوله، فلست أستطيع فى إهدائك خيراً من أن اقدم إليك فرصة لتفهم فى أقصر الأوقات كل ما عرفته خلال أعوام طويلة، وفي غمار من المتاعب والأخطار) وفي قوله: (فتناول يا ذا الفخامة هذه الهدية الصغيرة بنفس الروح الذى
أرسلها به ،وإنك اذا قرأته بامعان وتأمل، تعرف خالص رغبتى فى ان تظفر بهذه العظمة التى يمنى بها حسن الطالع وتمنى بها خلالك" (1) واذن فقد اراد مكيافيللى أن يقدم بكتابه "الأمير" مرشدا لامراء عصره يرشدهم الى امثل طرق الحكم ، وامثل الوسائل لسيادة الشعوب التى يحكمونها . ومكيافيللى يستمد آراءه ونظرياته من حوادث التاريخ القديم ، وبالاخص من حوادث عصره التى شهدها وخبرها ، ويرتب عليها احكاما وقواعد عامة ، كما يرتب ابن خلدون مثل هذه الاحكام والقواعد على دراسته للمجتمع . ويبسط مكيافيللى دراسته فى بحوث موجزة ويبدأ بالحديث عن أنواع الامارات ، ووسائل اكتسابها ، وعن الوسائل التى تحكم بها المدن او الامارات التى كانت تعيش فى ظل قوانينها قبل ان تغلب ، وعن الامارات التى تقوم بالفتح وكفايات الامير الشخصية ، وعن تلك التى تغنم على يد آخرين او بطريق الحظ ، او تلك التى تغنم بالغدر والخيانة ، وعن الامارات المدنية والدينية ، وعن انواع الجيوش والجنود المرتزقة ، وما يجب ان يعرفه الامير عن فن الحرب . ثم يتناول بعد ذلك شخصية الامير ، وما يحمد فيه من الخلال وما يذم ، وعن الكرم والشح ، والرأفة والقسوة وعن الطريقة التى يجب ان يحفظ بها الامراء وعودهم ، وعما يجب عليهم لتجنب بغض الشعب واحتقاره ، وما يجب عليهم لاكتساب الشهرة ، والمجد ، وأخيرا يتحدث عن حجاب الامير "سكرتارية" وعن وجوب تجنب الملق ، وعن الاسباب التى فقد بها أمراء ايطاليادو لهم، وعما يمكن أن يؤديه حسن الطالع فى سير الشئون البشرية ، ثم يختتم بالحث على تحرير ايطاليا من نير الاجانب أو غزوات البرابرة كما يسميهم
تلك هى المباحث التى جعلها ميكافيللي قوام فلسفته عن الدولة والأمير. ويبدو بالأخص مما كتبه عن (الأمير) انه يعالج موضوعا عالجه المفكرون المسلمون قبل ابن خلدون بعصور طويلة، هو موضوع (السياسة الملكية) وهو موضوع يجري منذ القرن الثالث الهجري فى التفكير الإسلامي مع بحث أو علم خاص هو علم السياسة على نحو ما بينا فى فصل سابق. وقد رأينا مما تقدم أن (السياسة) كانت تفهم عند العرب فى العصور الأولى بمعنى ضيق جدا هو شرح الخلال الحسنة التى يجب أن يتصف بها الأمير، والعيوب التى يجب أن يبرأ منها لكي يصلح لرآسة الدولة وتبوىء الملك؛ ولكي يستطيع الحكم بأهلية وكفاية. ثم توسع المفكرون المسلمون فى فنهم معنى (السياسة) وقسموها إلى عدة أنواع؛ وتناولوا
(السياسة الملكية) من الناحية الفقهية وكذا من الناحية الإدارية وبحثوا مركز الأمير من الناحية الشرعية وتحدثوا عن الخطط السلطانية، وظاهر ما يتناوله المفكر الإيطالي من خواص الأمير وخلاله وواجباته هو ضرب مما تناوله المفكرون المسلمون منذ أواخر القرن الثالث الهجري. من ذلك ما كتبه ابن قتيبة فى كتاب (عيون الأخبار) والماوردي فى كتاب (الأحكام السلطانية) والطرطوشي فى كتاب (سراج الملوك) والغزالي فى كتاب (التبر المسبوك)، ثم ابن الطقطقي فى كتاب (الآداب السلطانية). وهو موضوع تناوله ابن خلدون فيما تناوله من أحوال الدول العامة والملك، إذ يتحدث هنا عن حقيقة الملك وأصنافه، وعن معنى الخلافة والامامة، وعن مختلف المذاهب والآراء فى حكم الإمامة ثم عن الخطط السلطانية(1)، وحديثه فى ذلك يمتاز عن حديث أسلافه بما يتخلل بحثه وتدليله من الملاحظات والتأملات الاجتماعية التى لم يوفق إليها باحث قبله.
على أن مكيافيللي يمتاز فى بحثه بروح عملية جافة. وبينما يتحدث المفكرون المسلمون عن الأمير أو الحاكم كما يجب أن يكون، وعن خلاله المثلى كما يجب أن تكون، إذا بالمفكر الإيطالي ينظر إلى الأمير الأمثل نظرة عملية محضة. فيصفه كما هو فى الواقع،
ويتصور خلاله المثلى فيما هو حادث بالفعل، ويرتب تدليله ونتائجه على ما أحرز الأمير وأحرزت خلاله من النجاح أو الفشل دون تأثر بما إذا كانت هذه الصور والخلال تتفق مع مبادئ الأخلاق المثلى كما فهمت خلال العصور. ومن هنا تستمد فلسفة مكيافيللي لونها القاتم، وتوصم آراؤه ونظرياته السياسية بتلك الصرامة والقسوة والخبث التى جعلتها حتى عصرنا مضرب الأمثال للسياسة الغادرة التى لا ضمير لها ولا وازع، والتي جردت من كل نزاهة وعفة، وتغاضت عن كل المثل الإنسانية والأخلاقية. وإلى القارئ بعض نماذج من تلك الآراء التى طبعت فلسفة مكيافيللي، وأمير الأمثل بذلك الطابع الأسود: يتبع
