الرجوع إلى البحثالذهاب لعدد هذه المقالة العدد الخامسالرجوع إلى "الرسالة"

اسكندر يقتل صديقه

Share

اسكندر العظيم يثبت عرشه وسلطانه وهيبته وكبرياءه  فى مقدونية واليونان، ثم يتوجه تلقاء آسيا.

الفريقان من اليونان والفرس يلتقيان على نهر (كرانيكوس)  الصغير عام أربع وثلاثين وثلاثمائة، فيتاح لإسكندر  أول فتح فى آسيا، وتخضع له المدائن حتى سرديس، فقد  دانت له آسيا الصغرى كلها.

ثم يتقدم صوب الجنوب، فيجتاز طوروس ويسير تلقاء  الشام. واذا جيش دارا، الجيش اللهام الذى لا يغلب من قلة  رابض فى طريقه. وفى سهل إسوس الضيق بين الجبال والبحر  تزدحم مئات الألوف فى المعترك، ويسقط فى البحار مائة الف  من الفرس، ويفر دار أو ينهب معسكره، وتؤسر أمه وزوجه  وابنتاه. . فانظر اسكندر قد قهر (الملك الأعظم) ملك الفرس الذين  طالما فخر اليونان بأنهم احتملوا صدمتهم، وردوهم عن بلادهم !!

يتقدم الفاتح العظيم فيقهر مدن الشام، وتقاومه صور  وتتحدى جبروته وسلطانه، ثم تخر أمامه بعد حصار سبعة اشهر،  فيقتل منهم ثمانية آلاف، ويؤسر ثلاثون ألفا فيباعون عبيدا،  ويصلب على القلاع ألفان عبرة ونكالا! ذلكم اسكندر  الفاتح العظيم، وذلكم جزاء من يقف فى سبيله!

ويفتح اسكندر مصر عام اثنتين وثلاثين وثلاثمائة،  ويرفع نسبه الى أمون. ثم يجمع جنده ويسير الى العدو  الأكبر الملك الأعظم. يجتاز الفرات ودجلة الى حيث يعسكر  دارا. وهنالكم على مقربة من أطلال نينوى العظيمة التى تندب  مجد آشور الغابر، وعلى سبعين ميلا الى الشمال والغرب من  مدينة اربيل، ليس بعيدا من ملتقى عبد الله بن على العباسى،  ومروان بن محمد خاتمة الخلفاء الأمويين، حيث سقطت دولة  وقامت دولة! هنالك تراءى الجمعان، وعسكر اسكندر تجاه دارا،

ويشير (برمينيو) على الفاتح المقدونى أن يهاجم عدوه ليلا،  فيأبى مجد اسكندر وكبرياؤه، فيقول له: (أنا لا أسرق النصر).  ثم يلتقي الجمعان، وتدور الدائرة على دارا وجنوده، فيفر  صوب المشرق. ارأيت بابل العظيمة مدينة السحر والعلم؟  ها هى تفتح أبوابها لاسكندر ويباركه كهنتها. ويطوى الملك  الشاب المراحل الى سوس واصطخر حاضرتى الفرس،  لا يصمد لمدينة الا فتحها، ولا يعمد لجيش الا مزقه.

تمتد الفتوح والآمال والنشوة والكبرياء باسكندر الى  ما وراء النهر فى طريقه شطر الهند، بعد أن طارد دارا حتى  عثر به فى الطريق قتيلا.

اسكندر العظيم فى مدينة سمرقند عام سبع وعشرين  وثلاثمائة. قد طوى المراحل والممالك ما بين مقدونية ونهر  سيحون. ينعم هنالك بالشباب والظفر والملك الفسيح،  والكنوز التى لا تحصى، والجند الذى لا يعد اسكندر الآن  أعظم ملك فى العالم كله.

ويدعو أصحابه وقواده الى مأدبة فى سمرقند، فيأكلون  ثم تدور الكأس حتى يثمل القوم أو يكادون، ثم تترع للملك  المظفر كؤوس من الاطراء والاعجاب والاجلال والاكبار،  ويغلو المتملقون المعجبون فيرفعونه فوق الأبطال جميعا.  ويدعون أن أعماله المعجزة لا تكون الا عن نسب آلهى، بل  يرفعونه الى مستوى الآلهة كهرقل. ويشارك الملك الشاب  فى اعظام مآثره والاعجاب بها، ثم لا يقنع بما فعل، فيجعل  لنفسه ما نال أبوه من ظفر آخر عهده، ويغض من فيليب  وان كان أباه!.

يسخط المقدونيون من الزراية ببطلهم القديم، ولكنهم  لا ينبسون. و(كليتوس) رابض ينظر الى اسكندر ومادحيه  ساخطا محملقا. كليتوس أحد قائدي الفرسان، كليتوس الصديق  القديم أخو (لانيس) حاضنة اسكندر التى قتل اثنان من أبنائها  تحت رايته، كليتوس الذى نجى اسكندر فى معركة كرانيكوس

حين أبصر أحد الفرس يهوى بسيفه الى الملك من خلفه فسارع كالبرق فضرب السيف فقده دون رأس الملك.  كليتوس هذا لم يستطع صبرا على الغض من فيليب! قال كليتوس:  ما لهؤلاء المادحين يضعون أقدار الغابرين ليرفعوا عليها مجد  الحاضرين؟ ان فيليب كان عظيما! ثم تأخذه الحدة فيقول:  (ليست مآثره دون مآثر ابنه! لا، ان مآثره لأعظم. فقد  خلق الرجل لنفسه ملكا وجيشا. وانما صلت أيها الملك بما  أورثك فيليب من ملك ممهد وجند مدرب. انما ظفرت بفضل  هؤلاء المقدونيين الذين تحقرهم اليوم وتقدم الفرس عليهم.  الم تقتل برمنيون العظيم ؟

هاج الحاضرون وقذفوا كليتوس بالجدل والتوبيخ. وثار ثائر اسكندر الفتى الفاتح الذى سخر ملك مصر وبابل  وأشور وفارس، اذ قرعت أذنه لأول مرة نبأه ناقد يعترض  كلامه ويرد عليه دعواه. غضب اسكندر وصاح بكليتوس  يزجره ويجادله، وانحاز الحاضرون للملك المعجب بنفسه،  وكليتوس كالأسد يزمجر ويرد الكلمة بمثلها، ثم ينتفض قائما  ويصيح مادا يده الى الملك: (اذكر أن حياتك دين لهذه اليد  التى نجتك يوم كرانيكوس! وأصغ لصوت الحق الصراح،  أو تجنب دعوة الأحرار الى مأدبتك، واختص العبيد بصحبتك!

اهتاج اسكندر لموقف كليتوس ولذكرى كرنيكوس  وبرمنيون، فنهض يتحسس خنجره، فاذا الخنجر بعيد قد نحاه  أحد الحاضرين. فينادى الحرس مغضبا هائجا ويأمر أن ينفخ  فى الصور ايذانا للجند، فما أطاع أحد أمر الملك الهائج النشوان،  وتقدم نحوه بطليموس (وبردكاس) القائدان الكبيران فأحاطا  به وأمسكا يده برفق يسكنان ثورته، ويكسران حدته، ويحيط  آخرون بكليتوس يخرجونه من البهو، فيأبى أن يخرج فيعترف  بأنه أساء واعتدى. ويقول اسكندر: (وا أسفاه! إن قوادى  قد غلونى كما فعل بسوس بدارا. وانما لى من الملك اسمه ويتقدم اسكندر تلقاء كليتوس، ولا يجرؤ القواد أن يقفوه  قسرا، ثم ينقض كالصاعقة فينتزع حربة من أحد الجند فيغمدها  فى صدر كليتوس الصديق القديم!

يرتاع الحاضرون. ويفيق اسكندر من نشوته وثورته

وعنجهيته، فيفتح عينيه فاذا كليتوس طريح يضطرب فى دمه.

خرج اسكندر من البهو يعدو الى فراشه، فارتمى عليه ثلاثة  أيام لا يأكل ولا يشرب، يبكي بدموع عزت على الخطوب  الشداد، وغلت فى الحوادث السود. ويتمادى به البكاء، وكلما  كفكف دمعه تمثل له صديقه طعينا بيده، ويلعن نفسه نادما،  ويهتف باسم كليتوس وأخته لانيس، ثم يقول : ويلى ! أنا الغادر  الكنود . لقد جزيت كليتوس ولانيس شرا بما أحسنا الى.  لست بعد اليوم جديرا بالحياة.

ويجتمع اليه صحبه يعزونه. ويسوغون ما عمل، فلا يزداد  الا حزنا واكتئابا وندما وأسفا، ويجتمع الجند المقدونيون  فيجمعون على أن كليتوس قتل بحقه، وأنه ينبغى ألا يدفن،  فيغضب اسكندر ويقول: كلا ! انه سيدفن بأمرى . ويأتى الكهنة  فيقولون: ان الملك لم يقتل صديقه بيده، ولكنها نقمة من الاله  (ديونسوس) أجراها على يد الملك انتقاما لنفسه بما حرم القربان  فى هذه المأدبة . ثم يأتى الفيلسوف (أنكشر خوس) فيقول:  أيها الملك ان الذى أنت فيه لعجز. وانك أيها الملك العظيم  والفاتح القاهر لجدير بأن تحل وتحرم وتحق وتبطل بارادتك  لا أن تخضع للقوانين التى سنها الناس . ثم يأتى كلستنوس  الفيلسوف فيجهد أن يهون على الاسكندر ما فعل .

فارق اسكندر مضجعه بقلب كليم اجابة لنصحائه وإجابة  لواجبه فى هذه البلاد النائية . ولكنى أحسب الجرح قد ذهب  مع اسكندر الى قبره !

اسكندر العظيم لم يعظم عليه مطلب، ولا بعدت على همته  غاية، ولا ثبتت فى طريقه دولة، ولا وهن قلبه فى سلم ولا  حرب، ولكن اسكندر الفاتح القاهر، والملك المسلط، لم يحتمل  وخزة واحدة من وخزات الضمير، فخر كالطفل يبكى ويتململ،  وكاد يبخع نفسه فرارا من الندم!

ان عذاب الضمير هو العذاب الأكبر، ولكن لا يعرفه  الا ذوو الضمائر، وقليل ما هم!

لله در كليتوس! لقد ذهب مثلا فى الوفاء، وأين فى  الدنيا الأوفياء؟

ولله در كليتوس صريع الوفاء! ولله در اسكندر صريع  الوجدان !؟

اشترك في نشرتنا البريدية