يوم نستقبل الربيع نذكر الخمائل على ضفاف النيل وهى ترسل نسماتها البليلة الندية، والطير جاثمة فوق غصونها تشدو بأغانيها الجميلة الشجية، ومن خلال أشجارها تجرى جداول تدفقت فيها المياه العذبة الروية. . اليوم الذى تستجيب فيه العين والأذن للزهر وللطير وللماء، لا ننسى انه اليوم الذى ذوت فيه زهرة أرجة ناضرة، وانقطع صوت لين حنون، وجف فى مجراه ماء عذب دفيق: ففى مثل هذا اليوم استوفى إسماعيل صبرى ظمء حياته
فهلا يجمل بنا اليوم، يوم تمضى على وفاته عشر سنوات أن نذكره ولو بهذه الاجمالة الموجزة؟
لا نريد أن نترجم حياة صبرى وإن كانت خطيرة، فقد تدرج فى وظائف الحكومة حتى شارف ذروتها، ذلك لأن هذه المناصب الرفيعة، وإن أحلت صاحبها فى حياته مقاماً محموداً، أهون على الناس من أن تبعثهم على أن يحفلوا بأمره بعد أن بت ما كان يصلهم به من أسباب الحياة، هذا إلى أن مراد القول أضيق من أن يستفيض لترجمة شاملة وافية نتبين منها ما تركته أطوار حياته من آثار وندوب فى هذا الجانب الروحى الذى يمس النفس الإنسانية فيصل بين أجزائها وإن اختلف ما يحفها من عهود وبيئات.
استقبل صبرى حياته, فى أوائل النصف الثانى من القرن
الماضى, وقد تجمعت عدة جهود أدبية وقامت فيما يشبه الثورة: فبعثت طائفة من معاجم اللغة وأسفار الأدب ودواوين الشعر من خزائنها وطبعت، وأخذت الصحف الأدبية تنشأ وتعمل لتقويم اللغة وإحياء الأدب العربى، وأعيدت البعوث إلى أوربا بعد أن وقف إرسالها أيام عباس وسعيد، وأقيمت نظارة المعارف وعهد إليها بأمور التعليم وأنشئت دار الكتب ومدرسة المعلمين، وظهرت مسارح التمثيل والموسيقى والغناء وغير هذا مما لم يكن إلا ناحية من نواحى الثورة الاجتماعية التى أقامها الخديوى إسماعيل يوم رسم لمصر خطة الاتجاه إلى أوربا واقتباس حضارتها الجديدة
فى هذه البيئة التى يدب النشاط فى جنباتها فيبتعث الملكات الهامدة، بدأ صبرى يقرأ الشعر ويحبه، وأخذ ينعم النظر فيه ويحاول أن يقلده، حتى استقامت له وهو فى السادسة عشرة بضعة قصائد فى مدح الخديوى وتهنئته نشرتها له مجلة (روضة المدارس المصرية) التى أنشأها جماعة من صفوة الكتاب البارزين إذ ذاك. وكانت هذه الأشعار مجرد تقليد واضح فى أغراضها ومعانيها وأساليبها لمن سبقه من شعراء عصره كالبارودى وعبد الله فكرى، وإن ظهرت عليها حيناً مسحة رقيقة من روحه وشخصيته.
ولكن هذه البيئة الأدبية النشيطة لم يقتصر أثرها على توجيه صبرى إلى الأدب وإذكاء ميله إلى الشعر، بل حببت إليه قراءة الشعر العربى القديم من ناحية، وحثته على قراءة الأدب الفرنسى منذ أرسل إلى فرنسا ليدرس الحقوق فى جامعة إكس من ناحية أخرى. فقرأ الشعر العربى وتذوقه وأحب منه بوجه خاص شعر البحترى، ذلك أن صبري، كما وصفه الدكتور هيكل (ابن بلد) والبحترى كما قال حافظ إبراهيم (يأخذ قارئ شعره بالحضن) وقرأ الأدب الفرنسى وصادف فيه جمالاً يرضى عاطفته؛ وسيولة تروى شعوره. وبهذا تأثر شعر صبرى ببعض مميزات الشعر العربى حيناً، وببعض مميزات الشعر الفرنسى حيناً. وببعض مميزات حيناً. ولكن ما مدى هذا التأثير فى أطواره الادبية، وما هى مظاهره فى نتاجه الشعرى؟ هذا سؤال يتناول ناحية خطيرة فى دراسة الشاعر، وأنا لا أملك الآن ما يؤهلنى لبحثها فى دقة وتحقيق. ولكنى أرانى ملزماً بأن أعرض لها ولو فى هذه الصورة التى أعرف أنها ليست دقيقة كل الدقة، وليست شاملة كل الشمول.
حين نقرأ هذه الأشعار القليلة التى خلفها صبرى نرى أنفسنا أمام طائفتين متمايزتين من الشعر، تشتركان فى صفاء الديباجة ورواء الأسلوب بوجه عام، وتختلفان فى الشعور الذى صدرتا عنه، وفى العاطفة التى أوحت بهما، وفى المعانى التى تدوران عليها. وقد يضعف هذا الاختلاف حيناً وقد يشتد حينا آخر اشتداداَ يحملنا على أن نزعم أننا لا نقرأ شاعراً واحداً وإنما نقرأ شاعرين مختلفين. وليس فى هذا ما يدهشنا، فصبرى قد عاش ما يقارب سبعين عاماً، مرت عليه أثناءها عهود الشباب والرجولة والكهولة، حاملة أراءها وأفكارها، وخواطرها وخلجاتها، وآلامها ولذاتها، وتنقلت حياته أثناءها بين هذه الآراء المتضاربة التى يمتلئ بها العقل تبعاً لما يتغذى به من ألوان الثقافة المختلفة، وبين هذه الاحساسات المتباينة التى يجيش بها القلب تبعاً لما يعرض له من مناسبات وملابسات.
فأما الطائفة الأولى من شعره فهى التى أنشأها بين العشرين والأربعين وأكثرها قصائد فى مدح أو تهنئة إسماعيل وتوفيق وعباس، وفى هذه الأشعار نرى أثر الشعر العربى ظاهراً واضحاً، ونرى أثر البحترى وحده، على وجه الدقة، عميقاً بارزا، إلى حد يبيح لك أن تشرك شعريهما فى مميزات واحدة. خذ مثلا قصيدته فى تهنئة الخديوى بحلول شهر رمضان ومطلعها: بعلاك يختال الزمان تبختراً * وبقدرك الأسمى يتيه تكبراً
وقارنها بكثير من مدائح البحترى تجد أن صبرى قد تأثر فيها بالبحترى تأثراً هو أشد من تقليد شاعر لشاعر، وهو أقرب إلى حلول روح شاعر فى جسم شاعر آخر. ولكن، وعلى رغم هذا كله، فان هذا الأثر تناول الديباجة وحدها فأكسبها جزالة وسهولة فى مفرداتها وتراكيبها، من غير أن يمتد إلى المعانى فينتج منها شيئا جديداً قيما، وذلك لأن البحترى، وهو الوشيجة التى تصل صبرى بالأدب العربى، قل أن نظفر فى شعره بكثير من المعانى المبتكرة، وقل أن نحب فيه غير متانة الأسلوب وسلاسته. تأثر فى هذا الطور الأدبى، بين العشرين والأربعين بالشعر العربى وحده، فأين كان الشعر الفرنسى؟ أليس من الشذوذ أن نرى صبرى قد ذهب إلى فرنسا قبل أن يبلغ العشرين من عمره، وبدأ إذ ذاك يقرأ الآداب الفرنسية ويتذوقها ويشدوها ثم لا نكاد نظفر فى شعره أثناء هذا العهد بأثر قوى لهذا الشعر الفرنسى بل ولا لأى مظهر من مظاهر الحياة الأوربية؟ ولكن يظهر أن صبرى قد أوتى، إلى جانب حواسه المرهفة، ذاكرة قوية مكنته من أن يختزن فيها ما يعرض له حتى يتمثله فى تؤدة
وأناة وحتى ينتجه مكتمل النمو مستوفى النضوج.
ونحن لا نفترض هذه الموهبة ولا نتكلف التماسها، وإنما يحملنا على الاطمئنان إليها أننا نجد فيها تعليلا لهذا الاضطراب الذى يغشى أطوار حياته الأدبية. فقد قضى صبرى شبابه وشعره يكاد يقتصر على المدح وما إلى المدح مما تنفر منه نفس الشباب، ولا تكاد تبين فيه إثارة من هذه العواطف التى يحفل بها الصدر فى ربيع الحياة، بينما تفتحت شاعريته الجائشة وأخذ يتغنى بأناشيد الحب والهوى أثناء الكهولة التى تنطفئ فيها عواطف الشباب الفياضة. ذلك لأن ذاكرته القوية قد استطاعت أن تحتفظ بهذه الاحساسات الفتية التى اختلفت عليها أثناء شبيبته، حتى تفجرت بعد ذلك شعراً ثميراً لا تشوبه فجاجة الحس ولا غضاضة العاطفة.
ولهذا ظهر أثر الشعر الفرنسى فى هذه الأشعار التى تغنى فيها بالعاطفة الإنسانية التى يسمونها الحب أو العطف أو الوداد وناجى فيها الله وتخوف وتشوف إلى الممات، وشاد بمجد وطنه واستنهض أبناءه إلى استعادة الماضى المجيد. فى هذه القصائد والمقطوعات، التى كتبت أسمه فى ثبت الخالدين، ظهر أثر الشعر الفرنسى بارزاً شاملا: بارزاً حتى يكاد يخفى وراءه كل أثر للشعر العربى، شاملا فلا يقتصر على الديباجة وحدها، ولا على المعانى وحدها، وإنما ينال الأسلوب فيضفى عليه جمالا ورواء، ويتعداه إلى الفكرة فيمزجها بروح غريبة لم يألفها الشعر العربى من قبل.
وهل ترى فى الشعر العربى مثالا لهذه القطع التى أنشدها فى الحب؟ كلا! فالشاعر العربى الغزل لا يرى فى المرأة الا (أنثى) جميلة الوجه دقيقة القسمات، مهفهفة القوام رشيقة الأعطاف، رخيمة الصوت شيقة الحديث، يهصر صدرها ضما ويشبع ثغرها تقبيلا، وهى تتهافت وجداً وتتهالك هياما! والغزل فى الشعر العربى يضيق عن أن يستفيض لجميع وجوه الجمال الإنسانى، وينصب على ناحية الجمال الجسمى وحده، فيصفه جملة أو تفصيلا، سواء كان الغزل عذريا أو إباحياً أو متكلفاً. أما شعر صبرى فى الحب فيختلف عن هذا الغزل العربى فى صلته بالمرأة، إذ يتسامى عن الجمال المادى إلى الجمال المعنوى فى أرحب آفاقه وأشمل معانيه. فلا تستخفنا فيه هذه العيون والخدود، والصدور والنهود، والملاسة والرشاقة، والتقبيل والضم، والتأود والتثنى، والتأوه والأنين وإنما نهتف فيه بالمثل الأعلى للمرأة فى أفتن جمالها، وأذكى فؤادها، وأنبل روحها.
وأنى لأشعر حين أقرأ قصيدته (تمثال جمال) أنى أنظر إلى صورة فنية رائعة، فلا أميز بين هذه المرأة التى يهتف بها الشاعر، وبين هذه المرأة التى يتخذها المصور رمزاً لمعنى من المعانى الإنسانية كالألم أو الأمل أو الحنان! بل أنى لأحس حين أرتلها أن قلبى قد صفا مما به من شره وأنانية وغرور وكبرياء، وأن صدرى قد انطفأت فيه جذوات الحقد والحسد والغيرة والطماح، وأن فؤادى قد غمر الخشوع والإيمان ما يغشاه من شك وضلال: أشعر أنى قد سموت من الأرض إلى السماء!
ولم لا وصبرى قد امتزجت فيه الروحية بالجمال؟ ألم ينشأ على ضفاف هذا النيل الذى أوحى إلى الإنسانية أن تبتكر ديناً وإيمانا، ألم يلابس الحياة الأوربية وما تضفيه من فتنة وجمال؟ وبهذا استجاب للروحية المصرية وتمثل الجمال الأوربى، وبهذا اجتمعت فيه مصر بروحيتها وأوربا بجمالها، وبهذا كان نتاجه الشعرى مزاجاً من الروحية فى معانيه ومن الجمال فى أساليبه.
وشعره فى الحب، بعد هذا، سمح وديع رضى: لا يفطر القلب أسى، ولا يرسل من العين دمعاً، ولا يبعث من الصدر أنيناً، ولكنه لا يشيع فى المرء غبطة فى الحياة ورغبة فى متاعها ولا يغرى بالإسراف والتوفر على لذاتها، وإنما يجمع فى شعره لوعة غير مسرفة، ومتعة غير غالية، ذلك لأن صبرى لم يكن لاهياً ولا عابثاً ولم يكن كئيباً ولا محزوناً، وإنما كان سمح الذوق، وديع الخلق، رضى النفس، فما كان يذعن قلبه لامرأة واحدة تأسره وتطغى عليه، وما كان ماجناً فى حبه سادراً، ولا متهتكا فى لهوه مستهتراً، وإنما كان ينشد المرأة التى تشبع القلب ولا تتخمه، وتروى الفؤاد ولا تغرقه، وترضى الشعور ولا تقسو عليه.
وهذه الدعة التى تميز بها فى حبه، تشيع كذلك فى شعره فى مناجاة الله، وازدراء الدنيا، واستشفاف ما فى الحياة الأخرى. فهو لم يكن ناسكا فى الدنيا زاهداً فى لذاتها، ولم يكن مفتوناً بالحياة متوفرا على متاعها، وإنما كان ينال من هذا فى قصد ويأخذ من ذلك فى اعتدال، فإذا أسرف فى حبه للحياة واستمتاعه بلذاتها الرخيصة، ذكر الدنيا وما فيها من نكر وخداع وضلال، وذكر ما بعدها من حساب وعقاب وثواب، فاستعجل الموت وراحة القبر حيناً، وناجى الله وأمل فيه حينا.
ولكن صبرى الوادع الهادئ كان إذا تحدث عن وطنه جاشت الحماسة فى أنحاء صدره , وفاضت الحرارة فى سياق
شعره، فمثلت الوطن بجلاله وروعته، وأشعرت المصرى بمجده وكرامته، وأذكت نار الوطنية فى فؤاده، وألهبت فيه عاطفة التضحية فى سبيل بلاده
وهو فى شعره يستلهم العاطفة ويستوحيها. كانت تختلف عليه غير السياسة وأحداثها فلا يحفل بها، وتتوالى أمامه الكوارث والخطوب فلا يأبه بها، وتتراكب فى عينيه شؤون الحياة وأمورها، وتزدحم بخيراتها وشرورها، وتغص بلذاتها ومنغصاتها، فلا تسترعى منه حاسة ولا تستثير فى نفسه عاطفة، بينما يجيش وجدانه وتهتز عواطفه عند موت طفل، أو فراق صديق، أو قراءة كتاب، أو وقفة عند سفح الأهرام. هذه الحوادث التى تمر بنا فلا نلتفت إليها كانت تثير شاعرية صبرى بهذه المقطوعات التى تمس النفس الإنسانية فى أعمق حواسها وأدق مشاعرها. وهذه هى مهمة الفن: يفتح العين المغمضة، ويذكى الحاسة المطفأة، ويبعث العاطفة الهامدة، ويحيى موات القلوب، حتى يشركنا لحظ مما فاتنا من اللذات السامية التى قصرت على النفوس الموهوبة. وهل نرى بهجة الحياة إلا بعين المصور، وهل نستمع إلى أنغامها إلا بإذن الموسيقي، وهل نحس الحق والجمال إلا بقلب الشاعر؟ وأى شعر أرفع من شعر صبرى الذى (فاضت به) العاطفة من غير أن تتكلفه أو تكره عليه؟ وأى شعر أنضج من شعر صبرى الذى كان يؤمن بشيطانه ولا يعصى له أمراً، فيستوحيه الشعر ولا يستجديه؟ وأى شعر أسمى من شعر صبرى الذى تشيع فيه هذه المرارة وهذا الحنين، فيذيب فى الصدر أطماع الحياة وآثامها، ويسمو بالنفس عن متعها الخسيسة الهينة، إلى المستوى الإنسانى حيث يستحيل البغض حباً، والقسوة حناناً، والأثرة إيثارا، والتناحر وداداً، والصراع عناقا. . .
إلى جانب هذا النضوج فى روح صبرى، نذوق جمالا فى أسلوبه يملك على المرء نفسه حين يتلوه، ويحمله على أن يرتله مرة بعد مرة وعلى أن يذكره آونة بعد آونة، فلا يزداد الشعر إلا عذوبة وصفاء تزيد المرء لذة ومتاعاً، ويخيل إلى المرء أنه أمام وجه جميل، كلما أطال النظر إليه، ازداد رغبة فيه وحباً له. وهكذا يقاس نضوج الفن: يزداد المرء بالصورة إعجابا كلما أنعم النظر فيها، ويزداد حنيناً إلى الموسيقى كلما أطال الاستماع إليها، ويزداد فتنة بالشعر كلما أكثر ترديده وترتيله. وكيف لا يكون شعر صبرى جميلا وقد استقاه من ينابيع فياضة بالجمال: تأثر بشعر البحترى الذى امتزجت فيه الجزالة بالسهولة، وتأثر بالشعر
الفرنسى الذى يفيض سيولة ورواء : ويتجاوب الحانا وأنغاما, وهو قبل هذا قد أوتى أذنا دقيقة تجيد انتقاء المفردات, وتحسن الاستماع الى اتساق العبارات ( وتحس نبو الوتر ). وصبرى
كان مولعاً بالموسيقى، مفتوناً بالغناء، وكان متصلا بمن عاصروه من الموسيقيين والمغنيين، وأمدهم بكثير من المقطوعات الغنائية الشعبية، ومن أجملها (قدك يا أمير الأغصان) (الفجر لاح يا تجار النوم) . وكانت تستخفه عذوبة الحديث وبلاغة الإلقاء ولهذا كان كثير التبديل والنقد لشعره، وكان يبذل فى صياغته جهداً ناصباً، حتى إذا استقام له البيت أو البيتان أو الأربعة أهملها ثم نسيها، فلم يبق لنا من شعره إلا القليل.
هذه سوانح تخطر لى عندما أتلو شعر صبرى الذى لم تتطرق إليه البداوة العربية التى تغشى غيره من شعرائنا، أكتبها لنذكر صبرى (أستاذ الشعراء) الذى صبغ الشعر العربى الحديث بطابع نلمس آثاره فى شوقى وحافظ.

