الرجوع إلى البحثالذهاب لعدد هذه المقالة العدد 699الرجوع إلى "الثقافة"

الأدب السياسى

Share

إذا كان المؤرخ المتمكن من مادته لا يغفل في دراساته التاريخية من  تأثير الأدب في حياة الأمم ، والرابطة بينه وبين ما يقع فيها من أحداث ، وما يقع لها من تطور . بل إنه إذا رجع إلى الآثار الأدبية ليصل على هداها إلى معرفة وقائع التاريخ على حقيقتها ، فإننا نجد من الناحية الأخرى أن الناقد المتمكن كذلك من مادته ، يحاول أن يفهم أدب أية أمة من الأمم في أى عصر من العصور على هدى أوضاع تلك الأمة السياسية والاجتماعية والاقتصادية في ذلك العصر . وإذا تبينا صواب كل من ذلك المؤرخ وذلك الأدب فما ذهب إليه ، تجلت لنا تلك الحقيقة البالغة الأهمية التي تناولناها بالشرح في مقالات سابقة ، وهي أن الأدب والسياسة يؤثر كل منهما في الآخر ويتأثر به ، ودراسة كل منهما في حاجة إلى دراسة ذلك التأثير وذلك التأثر معا دون عزل أحدهما عن الآخر . ولا يغيب عن البال أن هذا التفاعل يحدث بينهما في نطاق التفاعل العام ، ويتأثر به ويؤثر فيه بدوره . ولم يعد يخفى اليوم على أولى العلم والبصيرة أن الوصول إلى أية حقيقة لا يكون من طريق عزل الموضوع محل الدرس عن سواه ، والنظر إليه على حدة كأنه شئ قائم بذاته لا يدركه تطور أو تغير ، بل يكون من طريق التسليم بوحدة الموضوع وما حوله من ملابسات ، وتطور كل منهما نتيجة لتأثره بالآخر وتأثيره فيه .

ننتهى مما تقدم إلى أن الأدب على اختلاف ألوانه متصل بالسياسة صلة لا تنفصم . وقد تتجلي هذه الصلة حتى ليكاد يبدو أن الأدب والسياسة مندمج كل منهما في الآخر تمام الاندماج ، وقد تخفى حتى ليبدو ألا صلة بينهما . ففي الحالة الأولى يتناول الأدب الموضوعات السياسية تناولا مباشرا ، وتكون الصلة بينهما واضحة لا تحتاج إلى تعليق . وفي الحالة الثانية يساير الأدب السياسة متأثر بها ومؤثرا فيها على الرغم من تناوله موضوعات منقطعة الصلة في الظاهر بالشئون السياسية . وبيان ذلك يحتاج إلى شرح نجمله فيما يلي : السياسة هي ما يوضع للحكم من نظم وأوضاع وتدابير تكفل استتبابه ، وتري إلى توفير أمن المجتمع واطراد تقدمه . وإذا نحن رجعنا إلى مختلف الحكومات في مختلف العصور ، وجدنا بعضها يقوم على الاستبداد ، ويقف في سبيل كل تقدم . ووجدنا بعضها الآخر على نقيض ذلك .

والأدب لم ينحرف هو أيضا في ماضيه وحاضره عن أحد هذين الاتجاهين ، فهو إما رجعى يحول دون تقدم مجتمعه ، وإما متحرر من أوضاع ماضيه وحاضره . عامل على دفع مجتمعه إلي الأمام . وأولهما يعين الحكومة المستبدة على مزاولة استبدادها واستبعادها بما يبثه في العقول من المعتقدات والقيم السقيمة العتيقة ، وما يبثه في الصدور من الأهواء الملتوية التي تميت الأنفه والشجاعة وإباء الضيم . وثانهما

يتحدى الأوضاع البالية التي تمد في أمد الاستبداد والاستعباد ، وحاول تفويض أركانها ، ويبصر مجتمعه بحقوقه ويستقره إلى استخلاصها من مغتصبها واللدود عنها ، ويبث فيه من المعتقدات والحوالج ما يعينه على بلوغ رشده السياسى

وإليك شعر الغزل مثلا لما تقول ، فقد تقرأ قصيدة غزلية لا ترى صلة بينها وبين السياسة ، ولكنك إذا أبعدت مرمى نظرتك تجد أن ناظمها لم يتخلص من تأثير وضع مجتمعه السياسى ، وأنه انغمس في معترك السياسة بإتخاذه اتجاهها الرجعى أو التقدمى . فهو إذا تذرع في تلك القصيدة بالذلة والمسكنة لاستمالة حبيبته ، وردد الزفرات ، وسكب العبرات ، واستسلم لشجنه ولوعته، واستراح آخر الأمر إلى اليأس من محبوبته ، كان من مناصرى الاتجاه الرجعى ، لأن مثل هذا الشعر يوطد أركان الاستبداد بتسويغ الاستكانة والاستسلام ، وهو إذا عد الحب في شعره نبعا للأمل ، وحافزا للعمل ، ومشاركة للحوالج النبيلة وتعاونا على بناء حياة سعيدة ، كان من مؤيدي الاتجاه النقدى ، لأن مثل هذا الشعر يبني مجتمعا سليما قويا يتعذر على الاستبداد أن ينشب أظفاره فيه ، ونسوق مثلا آخر فنقول : إن أدب الطبيعة يكون رجعيا إذا تغنى بسحر المشاهد الطبيعية ، وأغرى الناس بالهروب من صخب الحياة إلى الخلاء ، حيث الهدوء يعيد إلى النفس هدوءها . والخلوة تستثير الخيال المبدع . فيستعيض الإنسان عن مشقة الحياة بترويح النفس ، وخلو البال ، ويستبدل بالمتع الروحية متع المدنية الرخيصة . . أما الأدب الذي يعد الخروج إلي الطبيعة نزهة تجدد النشاط وتفتق الذهن وتستنهض الهمة ، وتبعث في النفس القدرة على الكفاح ، فهو أدب تقدمى كما هو ظاهر . . وليس مقصدنا ألا يخرج الأدب عن الحدود الضيقة لتلك المعاني التي أوردناها ، فقد يغرب الأدب في معانيه ، ويتوخي أبعد الرامى ، ولكن الحكم عليه لا يكون إلا بعد الرجوع إلى قصد مبدعه من ناحية ، وأثره في نفس المطلع عليه من ناحية اخرى . . وهكذا ننتهي إلى ما بدأناه من أن الأدب يتأثر بتيارات عصره الفكرية والسياسية ويؤثر فيها حتى ولو بدا أنه منقطع الصلة بها .

ومن السذاجة التسليم بصحة قول القائلين إن الأدب أجل من أن يوزن بميزان الفائدة أو المنفعة ، فمصدره الوحى والإلهام ، وميدانه الأوهام والأحلام ، ولا يجوز سؤال

الكاتب الأديب عن هدفه فهو يكتب الأدب للأدب مجردا عن أية غاية . . " إن هذا القول مرفوض بداهة ، فما لا خير فيه لا قيمة له ، والذي لا يسأل ولا يحاسب هو المعتوه لا الأديب ، والناس الذين يتقبلون هذا القول ويرددونه هم ممن يستهويهم الإغراب والإبهام ، أو ممن يرددون ما يسمعون كالببغاء .

وإذا رجعنا إلى تاريخ الأدب العربي ، وامتحناه في عصر الجاهلية ، نجد أن الشعر وهو أهم ألوانه يكاد لا يعنى إلا بالمشكلات القبلية . وقد رأى الأستاذ أحمد الشايب في كتابه " تاريخ الشعر السياسى " أن الشعر الجاهلى وثيق الصلة السياسة منذ وجود القبيلة ، على أساس أن القبيلة صورة مصغرة للدولة ، ومما جاء في الكتاب المذكور عن ذلك الشعر : " إنه إما فخر بها ، أى بالقبيلة ، أو هجاء لأعدائها ، ورثاء لقتلاها في الحروب ، أو هو فخر وهجاء ورثاء موجه إلى شخص ، ولكن بواعثه قبلية عامة تعود إلى العبرة .

لذلك نجده جدالا حول انتصار أو هزيمة ، ونجد الرثاء وعيدا وتهديدا أكثر مما هو بكاء على القتيل ، والوصف بعثا على الانتقام ، وإثارة للحمية الجاهلية . وقد رأي الأستاذ المؤلف في ألوان الأدب الجاهلي الأخرى كالخطابة والرسائل والقصص مزيجا من الأدب والسياسة . وإذا كان بعضها يتناول مواضيع شخصية ، فإن مراميه البعيدة تتعدى القصد الظاهر القريب إلى الأهداف السياسية البعيدة . ويتأكد هذا المعنى إذا تتبعنا الأدب العربي بعد ظهور الإسلام ورأينا كيف أنه دخل المعارك السياسية الحامية التي دارت حول مختلف المذاهب والمعتقدات والأغراض ، والتي تعددت وتشعبت على توالى العصور . لقد كانت قصيدة مشتعلة واحدة يومئذ كفيلة بأن تشعل الحروب ، وتزعزع العروش ، وتفجر الدماء ، وكانت قصيدة رزينة أخرى كفيلة بأن تطيب النفوس ، وتقر الأعين ، وتحقن الدماء كان هذا شأن الأدب السياسى المباشر ، أما الأدب الذي يعده الناس غير سياسى فقد كان له الأثر العميق في سياسة ذلك العصر . فقد تأثر في صدر الإسلام أبلغ التأثر بفتوة الدولة الإسلامية المتحفزة للظهور ، وتهدج لتلك الصفات السامية التي غرسها الدين الحنيف الجديد في نفوس شعوبه . فإذا مختلف ألوان الأدب من مديح وغزل وفخر ورثاء ووصف تتضح بالروح الجديد المتوثب ، وإذا بها تمد ذلك

الروح بقوة جديدة ، وتوطد أركان الدولة الناشئة ، وتمكن الصفات السامية من نفوس شعوبها التي أفلحت في بناء أضخم دولة عرفها التاريخ في أقصر مدة من الزمان .

ولكن الأدب العربي لعب نقيض هذا الدور السياسي حين بلغ اتساع الدولة الإسلامية مداه ، وأخذ ركبها المتقدم ينكص على أعقابه . فقد تأثر ذلك الأدب بالانحلال الذي بدت بوادره في العصر العباسى المتأخر ، وظهر اثره في موضوعات ذلك العصر الأدبية ومعانيها وأسلوبها . ثم لم يلبث أن ساعد على تقوية الروح الانحلالية وسرعة تفشيها بتصويره كل مظهر من مظاهر التدهور تصويرا يغري الناس بالإقبال على اللهو والهزل والفساد . وهكذا لعب الأدب دورا سياسيا رئيسيا في بناء دولة الإسلام الكبرى ، وفي تصديع أركانها على السواء .

ونظرة أخرى إلى تاريخ الأدب الغربى تلقى ضوءا جديدا على علاقته بالسياسة . فأقدم ما نعرفه من آيات ذلك الأدب الملحمتان المعروفتان بالإلياذة والأوديسة ، ومن العلوم أن هاتين الملحمتين تضمنتا من الوقائع والمعتقدات والمعاني ما نشأ وتطور متأثرا بأوضاع اليونان القديمة . وظروفها في ذلك العصر ، ويعلم حتى تلاميذ المدارس الثانوية الملتحقون بالقسم الأدبي ، أن آراء أفلاطون وأرسطو السياسية ، وما قرراه من مذاهب ، كان لها الأثر الأكبر في نهضة أوربا ، مقتبس أو متأثر بالملحمتين المذكورتين ، واستتبع الركود السياسى الذي ساد البلاد الأوربية بعد ذلك ركودا في الأدب . ثم افتتحت أوربا نهضتها في مستهل العصر الحديث بتلك الملحمة المسماة " أغنية رولان " وهى كذلك من الشعر السياسى الذي تأثر ببوادر النهضة الحديثة وأثر فيها ، وظل الأدب يساير في تلك البلاد أوضاعها السياسية ويعكسها في شعره ونثره . فينضح حينا بالروح الإقطاعى . ثم يمر بعد ذلك عن ميول البورجوازية التي ظهرت في أوربا بعد عهد الإقطاع ، ويعود في النهاية فيتأثر بخوالج الشعوب التي بدأت تستيقظ وتشعر بمرارة الآلام ، وحلاوة الآمال ، وكان في هذه الأحوال جميعها أقوي دعامة للنهضة الأوربية التي تأثر بها .

بعد أن تبينا أثر الآداب البليغ في قيام الحضارات وانهيارها ، تنتهي إلى أهم ناحية تعنينا من هذا المقال ، وهى الناحية الخاصة بأدبنا المصري الحديث ، ومدى نجاحه في تأدية رسالته السياسية . نزل أدبنا الحديث ، منظومه ومنثوره ، ميدان السياسة منذ أيام البارودي ، وازداد توغلا في ذلك الميدان بعد

الاحتلال البريطانى ، وأطلق الناس على ما نتناول منه الموضوعات السياسية تناولا مباشرا اسم " الأدب الوطني ولسنا ننكر أن قصائد شعرائنا المعروفين الوطنية ، ومقالات ادبائنا السياسية أيدت نورتنا على الاستعمار بعض التأييد ، ولكنها لم تؤد رسالتها على الوجه الاكمل ، ولعل سبب ذلك يرجع إلى أنها تناولت الموضوعات السياسية تناولا عاما ، وردت المعاني الدارجة الدائرة على أفواه العامة في الطرقات ، بدل الكشف عن مفاتيح الاستعمار الخافية على أفراد الشعب وإبرازها في صورها السليمة مفصلة حتى تزيد الشعب إدراكا لما يناله من خسف ، وما يصيبه من أذى في مصالحه وحقوقه وكرامته ؛ وأكبر الظن أن هذا الضعف الذي اعتور ادبنا السياسي يعود على الأغلب إلى ما صادف ثورتنا الوطنية من ظروف غير ملائمة أضعفت حيويتها ، وحالت إلى اليوم دون تحقيق أهدافها ، ولا يغيب عن أحد أن النشاط بدأ يدب اليوم في أوصال حركتنا الاستقلالية ، فتاججت حماسة شبابنا وشبتنا تأججا لا عهد لما يمثله من قبل وازداد وعيهم الوطني  ازديادا يبشر بنهضة أدبية حية جديرة به كفيلة بإطراد رقيه .

وليس معنى ما تقدم أن نطمئن إلى مستقبل نهضتنا ، فنترك الأمور تجري في مجراها دون أن نسعى إلى السيطرة عليها وتوجيهها . لان كل نهضة تسرع في خطاها أو تبطئ على قدر ما يسديه إليها المضطلعون بها من تنظيم وتوجيه وارشاد ، ومن واجب كل بصير بأهمية نهضتنا الأدبية وصلتها الناجية بالنهضة العامة أن يبصر غيره بذلك حتى جم هذا الوعي والإدراك ، فيتهيأ الجو الملائم لظهور الأدب الحى المجدى .

ومن الواضح أن ما ذكرناه عن الادب السياسي يشمل الأدب الذي لا يتناول الموضوعات السياسية . فإن هذا يحتاج كذلك إلى العناية به ، والأخذ بيده ؛ ويكفي أن نتصفح ما تخرجه مطابعنا من ألوانه لنعرف مدى ضعفه وقصوره عن تأدية الرسالة المرجوة منه . فهو على الاغلب يغرى بالأنحلال الخلقى . أو يدعو إلي التخاذل واليأس ، أو يعزل قارئه عن الحياة بدل حثه على الاهتمام بها وتشجيعه على احتمال أعبائها . وإذا قيل بعد ذلك إن الأديب حر في اختيار موضوعه وأسلوبه دون ما نظر إلى أثر أدبه في أمته وفي الإنسانية جمعاء ، فردنا على ذلك القول أننا لن نقدم على تحطيم قلم مثل هذا الأديب عنوة ، ولكننا أحرار كذلك في كشف سوءات أدبه ، والتنديد بها ، والأمعان في ازدرائها .

اشترك في نشرتنا البريدية