الرجوع إلى البحثالذهاب لعدد هذه المقالة العدد 41الرجوع إلى "الرسالة"

الألوان والصور فى شعر ابن الرومي

Share

الشعر تمثيل وتصوير، قبل أن يكون لفظا منمقا وكلاما مزوقا، وكما تعجبنا دقة الراسم حينما يبرز الأضواء والظلال، والألوان والشكول، لصورة من الصور، فكذلك تعجبنا يقظة حواس الشاعر حين يصور لنا فى منظومه وأبياته ما يرسمه الراسم بريشته وألوانه وحين يبدي لنا الشاعر حور العيون، وسحر الجفون، وحمرة الخدود، وبروز النهود، بتمثيل وتصوير لا بريشة وألوان، كلا الفنانين ممثل للحقيقة إلا أن الراسم يصوغها شكولا وألوانا، والشاعر ينقلها شعورا ووجدانا

قد يجتمع - وهذا نادر - للراسم خيال الشاعر، وللشاعر دقة الراسم، فإن كل شيء من ذلك فقد استوى كل منهما على عرش الفن - فأي الرجلين كان ابن الرومي؟

كان ابن الرمي رساما فنانا، ومصورا ماهرا، مرهف الحواس شديد التأثر بالطبيعة كأن أعصابه أسلاك كهرباء وعينيه عدسة الكاميرا ينطبع عليها مختلف المناظر والصور. وكأن أذنه - ميكرفون - موكل بالتقاط دقيق الأصوات وجليلها. وكان ابن الرومي أيضا شاعرا مطبوعا واسع الخيال، خصب الشعور، مشبوب العاطفة. ولئن حق لأبى العلاء أن نسميه شاعر الفلاسفة وفيلسوف الشعراء. فمن حق ابن الرومي ان يكون شاعر المصورين ومصور الشعراء لأن فى شعره دقة المصور وتعدد الوانه، وروعة خيال الشاعر وسمو عواطفه. وهو حين يصف قينة شادية، يستهويك من شعره عاطفة مشبوبة وخيال خصب، ثم تصوير دقيق وإتقان للألوان الطبيعية.

وقينة إن منحت رؤيتها ... رضيت مسموعها ومنظرها

شمس من الحسن فى معصفرة ... ضاهت بلون لها معصفرها

في وجنات تحمر من خجل ... كأن ورد الربيع حمرها

وللمشاهد الطبيعية الفاتنة، ومجالي الربيع الموقنة، لوحات ساحرة فى شعر ابن الرومي ونحب أن نعرض عليك لوحة من هذه اللوحات لترى صدق قولنا. قال يصف روضة

وجادها من سحابة ديم     ورد أنوارها وعصفرها

وساق من حولها جداولها    فشق أنهارها وفجرها

فارتدت الماء من جوانبها     فزانها ربنا ونضرها

أمامها بركة مرخمة             ترضى إذ ما رأيت مرمرها

أعارها البحر من جداوله     لجا غزير المياه أخضرها

أفلا ترى انك فى كل بيت، حيال زهرة تقطفها، وريحانة تنشقها، وبركة إطارها من مرمر ومياهها أشبه بمياه بحر اخضر؟

ثم إن حاسة اللون عند ابن الرومي حاسة زاكية متوفرة: وهي فى شعره بمنزلة علبة الألوان عند الرسام. لا تقوم صورة إلا بها، ولا تأخذ حظها من الحياة والحركة إلا بأصباغها. فحين يصف لك الكأس تترقرق فيها الخمر لا يشبهها بحصباء من الدر على ارض من الذهب، وإنما يوكل بها حاسة اللون الزاكية اليقظة فلا تكاد تعرض إلا للونها البراق وشعاعها الخفاق. وقد يكون حظ ابن الرومي من تألق الخمرة ولهيبها. أكبر من حظ أبى نواس من نشوتها ودبيبها

صفراء تنتحل الزجاجة لونها ... فتخال ذوب التبر حشو أديمها

لطفت فقد كادت تكون مشاعة ... فى الجو مثل شعاعها ونسيمها

ولقد عرض قوس قزح لعيون الشعراء ما عرض، فلم نر شاعرا قبل ابن الرومي أو بعده استطاع أن يصور ألوانه الطبيعية فى أبياته تصوير الرسام له فى لوحته وألوانه، فأنت تحت سحاب مطرز بالألوان، مرصع الأردان ما دامت تقرأ له هذه الأبيات

وقد نشرت أيدي الجنوب مطارفا ... من الجو دكنا والحواشي على الأرض

يطرزها قوس السحاب بأخضر ... على احمر فى اصفر اثر مبيض

كأذيال خود أقبلت فى غلائل ... مصبغة والبعض اقصر من بعض

واحب أن تلتفت إلى البيتين الأخيرين فإن فيهما من جودة التصوير ومهارة تثبيت الألوان ما يعجز عنهما شاعر غيره.

وابن الرومي حين يصف القيان الشوادي والجواري الفواتن يدرن الكؤس ويملكن النفوس، ويبرز لنا أعضاءهن عضوا عضوا ويعرض علينا أجسامهن عرضا، حتى لا تفوتنا بضاضة الإهاب ولا شفافة الثياب

من جوار كأنهم جوار ... يتسللن من حياة عذاب

لابسات من الشفوف لبوسا ... كالهواء الرقيق أو كالسراب

فترى الماء ثم والنار والآ ... ل بتلك الابشار والأسلاب

وكما كانت حاسة اللون اليقظة تصور اختلاف الوان الطبيعة وتباين شكولها فلا تفوتها خافقة أو بارقة. كذلك كانت أذنه السامعة المرهفة تلتقط أدق الأصوات وأخفى النغمات. وهو حين يصف لنا صوت المغنية وحيد، لا يصف غنائها فحسب، بل ينقل لنا بأذنه الحساسة رقيق نغماتها ولطيف نبراتها وعذوبة صوتها نقلا يشبه نقل الميكرفون.

مد فى شأو صوتها نفس كا ... ف كأنفاس عاشقيها مديد

وارق الدلال والغنج منه ... وبراه الشجا فكاد يبيد!

فنراه يموت طورا ويحيى ... مستلذ بسيطه والنشيد

فيه وشى وفيه حلى من النغ ... م مصوغ يختال فيه القصيد

ما هذا شعر! إن هو إلا حاك يحكى واسطوانة تغنى

ولو أردنا أن نعرض عليك أشعاره فى وصف الأقزام والمحدودين لحسبت نفسك أمام شريط سينمائي تطالعك فيه هذه الصور المضحكة. ولكن من الخير أن تكتفي بصورة واحدة من هذا الشريط وهي صورة الأحدب

قصرت أخادعه وطال قذاله     فكأنه متربص أن يصفعا وكأنما صفعت قفاه مرة          وأحس ثانية لها فتجمعا فقد شخص لناظر القارئ وفى هذين البيتين صورة طبق الأصل للأحدب يعجز عن تصويرها أمهر المصورين.

وجملة القول فى شعره انه كان تعرض له الصورة أيا كان نوعها فلا يصورها بحاسة واحدة وانما يوكل بها حواسه كلها، فترسم عينه أشكالها وألوانها وأضوائها وظلالها ولمحاتها وخلجاتها، وتنظم أذنه صوتها وجرسها، وينقل الأنف عرفها وريحانها، واللمس وقعها وأثرها، أي أن جميع حواسه تنهض فى تصوير هذه الصورة حتى تبرزها موفورة الحظ من الحياة، وفى هذه الأبيات يصف فيها شمس الأصيل وهى تجنح عن روضة، غنى عن الشرح

وقد رنقت شمس الأصيل ونفضت ... على الأفق الغربى ورسا مزعزعا

ولاحظت النوار وهى مريضة ... وقد وضعت خدا على الأرض اضرعا

وقد ضربت فى خضرة الروض صفرة ... من الشمس فاخضر اخضرارا مشعشعا

وأذكى نسيم الروض ريعان ظله ... وغنى مغنى الطير فيه فسجعا

وغرد ربعي الذباب خلاله ... كما حثحث النشوان صنجا مشرعا

لئن حفل شعر أبى تمام والبحترى بالكنايات الظريفة والاستعارات الطريفة، فأبن الرومى فى الشعر التصويرى الملون نسيج وحده حلب

اشترك في نشرتنا البريدية