لا تظن أيها القارئ الكريم أني سأحدثك عن سبب هذه الكذبة، ولا متى وأين وجدت؟ فذلك بالمؤرخ اجدر، ولا عن مدى أثرها فى نفوس من وقعوا فى حبائلها: أخير هو أم شر؟ أجميل أم قبيح؟ أنافع أم ضار؟ فذلك بعالم الأخلاق أو النفس أليق. إنما أحدثك بلسان أديب، رأى رأي العين قنيصة من قنائص هذه الكذبة، على غير علم منه أنها قنيصة، وإنما أردت أن اطرف بها القراء؛ لأنها كما سيرون طريفة حقاً، محكمة فى نسجها احكاماً، حتى لقد بدت - وهي الباطل المزخرف - كأروع ما يكون الحق، ومثلت مع أديب شاعر لم يتسرب إلى قلبه الشك فى صدقها؛ ولعل ذلك إلى أن الأديب خلق أطهر الناس فطرة، وأنقاهم سريرة ... ضحك الأديب المكذوب عليه مع من ضحكوا على هذه الاكذوبة، وربما كان أكثرهم إغراقا فى الضحك، ذلك أنه وقف من أصحابها موقف جاد من هازلين، متفرج على ممثلين: صادق مع كاذبين
طرحت إحدى المجلات الشهرية المصرية على الشعراء مسابقة أدبية، ذات جوائز مادية، وأنتهى موعد التقديم، وترقب كل شاعر وأديب نتيجته، كما يترقب المساهم فى بعض الأنصبة نصيبه . . وفي ذات ليلة من ليالي أبريل، فكر ثلاثة من الأصدقاء فى أن يكذبوا ((كذبة أبريل)) ولم يطل التفكير؛ فقد كانوا مساهمين فى هذه المسابقة الأدبية، فلماذا لا تكون المسابقة هى مادة الكذبة؟ ولماذا لا يكون أحد المتسابقين غيرهم موضوعها؟ ولماذا لا يكون ذلك الأحد صديقا لهم، اشتهر فيهم بالحلم، فيأمنوا عاقبة ما تحدثه الكذبة فى صدره؟ وأخيرا لماذا لا يتلهون بهذه الأكذوبة ويقطعون بها وبالحديث عنها فترة الانتظار، انتظار النتيجة الممل اختمرت الفكرة، لكن بقي أن تصقل بصقل الدهاء، وترتب حوادثها تباعا، ويشذب ما عساه ينتأ فيها من شبه وظنون،
ويبعد عنه ما عساه ينبه قوة الملاحظة التى ستغرق فى حلم من الأكذوبة لذيذ ..
تولى أحد المتآمرين سرد حوادث الكذبة كما ستقع، وتولى الآخر الاعتراض، وتولى الثالث الرد، وهكذا تبادلوا الأسئلة والأجوبة والنقد والتمحيص، حتى أقر الجميع متانة صقلها، قوة سبكها، ثم تعاهدوا على أن يتكاتموا سرها حتى على أنفسهم ليضمنوا لها النجاح والتوفيق.
ابتدأت الخطوة الأولى من التنفيذ بكتابة خطاب إلى هذا الصديق المتسابق بخط صاحب المجلة الزائف، ولكن مع كثير من التقليد، وبخاصة الامضاء. وهذه صورة من الخطاب!
((فلان. . . تحية. . . وبعد فيسر صاحب الامضاء أن يبشركم بالفوز فى مضمار المسابقة. والمجلة تهنئكم به، وتطلب اليكم أن ترسلوا صورتكم الشمسية لتصدر بها قصيدتكم المحلية فى ميعاد لا يتجاوز ٢٨ الجاري. . والسلام))
ألصق الخطاب، وكتب عليه عنوان صاحبه، وسلم إلى بريد القطار الذى يؤم القاهرة أو بعبارة أدق وضع فى صندوق بريد المحطة طمعاً فى أن يصل إلى القاهرة خطأ فتعيده تلك إلى مكتب البريد الذى يوصله إلى صاحبنا، حتى إذا نظر إلى الخطاب لا يشك فى أنه صادر من موطن المجلة - كلف أحد المتآمرين أن يرقب عن كثب مصير الخطاب حين يصل القطار - تنبه البريد إلى هذه الخطأة فأرسل الخطاب إلى مكتب بريد البلد قبل أن يصفر القطار، وذلك ما لم يكن فى حساب المتآمرين؛ وسرعان ما تلافوا ذلك بأن تطوع أحدهم بحمل الخطاب من مكتب البريد إلى حيث توضع خطابات صاحبنا على مكتبه، وتولى حراسته حتى لا ينظر فيه غير صاحبه خشية أن يدرك بوساطة خاتم البريد أنه مصدر من البلد نفسه، لأنه سينظر إليه بعين فاحصة فتنكشف العصا كما يقولون، لا كما سينظر إليه صاحب الخطاب بعين اللهف على ما فيه. . . هل صاحبنا فى وقت تعود فيه أن يتسلم بريده، فأبرقت أسارير جهته، حين وقعت عينه على ذلك الخطاب، وأنت أدرى كم يكون سرورك حين تقع عينك على خطاب، ولو كان ظاهره فيه الرحمة وباطنه من قبله العذاب. . . تناول صاحبنا الخطاب بيد مرتعشة، رعشة الفرح أو الإشفاق لا أدري! ومزق الغلاف ونظر فى سطور الخطاب نظرة سريعة وإذا بالبشرى، بشرى الفوز فى مضمار المسابقة يفوح عبيرها؛
فيملأ انفه ويسري منه إلى أعصاب المخ والقلب سريان البرق، فيصدر فى غير وعي، إشارات الفرح وإمارات الانتصار، غير ناظر إلى خاتم البريد، ولا ممعن فى النظر إلى السطور الزائفة . . . ((أعطني عقلك!)) لا نظر ولا انتظار، ولا هدوء ولا قرار، على مثل ذلك النبأ السار . . .
اغتنم حارس الخطاب هذه النشوة من صاحبنا فأختلس الغلاف وأخفاه حتى لا يعيد النظر إلى الخاتم بعد زوال السكرة، ورجوع الفكرة، ثم أظهر الحارس الفرح بفرح أخيه، وتناول الخطاب من يده، وأخذ يطوف به على بقية الإخوان، مبشرا من لم يتآمر منهم بنجاح صاحبهم، ومن تأمر بنجاح مؤامرتهم . . أرأيت كيف تدبر المؤامرات وتحكم التلفيقات؟ ألم يصدق المثل القائل ((كذب مرصوف، ولا صدق مندوف)) وهنا اقترح المتآمرون على صاحبهم أن يدفع ثمن هذه البشرى ((حفلة سمر أخوية مسائية تقام فى بيته)) وأيد هذا الاقتراح سائر الاخوان فلم يسعه إزاء هذا الاجماع إلا أن يوافق بعد تردد لم يطل مداه إذ بخسوا له هذا الثمن (بمبلغ زهيد يشتري به فاكهة، وتقام حول مائدتها حفلة تكريم، للشاعر العظيم)، ودفع صاحب الثمن لأحد المتآمرين الذى تطوع بأن يقوم عنه بمهمة شراء الفاكهة، وأنه سيتبرع هو الآخر بنصف هذا الثمن، حبا وكرامة - ألتفت ذهن الشاعر إذن إلى الصورة الشمسية، ورأى أن ما عنده من الصور لا يصلح لمثل هذا التفوق فقرر أن يحضر صوراً جديدة تكون أنقى وأجمل. وتواردت فى ذهنه هذه الاسئلة: من ذلك المصور الماهر الذى سيحظى بشرف تصوير حامل قصب السبق فى مضمار أدبي؟ من أي المدن القريبة يستحضرها؟ أي القطر يستقله إلى المدينة؟ متى يسافر؟ كيف يحصل على أجازة من عمله؟. . .
بعد لأي قرر السفر غدا - ولكن اخوانه المتآمرين كانوا قد قروا أن تكون هذه الاكذوبة مداعبة ظريفة ليس أكثر، فرسموا خطتهم على لا يكون سفر، ولا يكون ما وراء السفر من مشاق ونفقات، ولا ما وراء ارسال الصورة الشمسية إلى صاحب المجلة مما تعلم، وما لا تعلم. . . كان ذلك وأكثر منه سيحدث لو لم يقرر للمداعبة أن تكون ظريفة غير قاسية: لذلك قرروا أن تكون حفلة السمر فى مساء ذلك اليوم، وأن يفاجأ صاحبنا بأكذوبة أبريل بعد ما عساه أن يقال، من خطب
ومقطوعات وأزجال، فى حفلة كلها أدباء أبطال
قضى الشاعر يومه غير محسوب من عمره كما يقولون: أحلام شهية، وأمال طلية، وشرف ومجد، وصيت لا يحد، ذهل حتى عن نفسه، وأختلط عليه يومه بأمسه، يخاطبه مخاطبة فيجيب (نعم) حيث الجواب (لا) يجيب (لا) حيث الجواب (نعم)، وقد يكتفي بإيماءة من رأسه تصلح للنفي والاثبات، وتؤدي معنى لا ونعم، وما إن فرغ من عمله حتى رأى نفسه فى حجرة الاستقبال فى بيته، ينظم وينسق، ويرتب وينمق، ثم فى حجرة المائدة يكللها بالازهار لأنها ستحظى بتكريم فائز المضمار. . . دقت الساعة تسعا، فدقت (سماعة) الباب وإذا الطارق إخوانه المحتفلون، أخذ يحييهم، فيهنئون، ثم دعاهم إلى المائدة، فطفقوا يأكلون
جلس الشاعر على مقعد التكريم، ولأول مرة يفوز بهذا المقعد فأحس الخيلاء تتمشى فى نفسه، وخواطر العظمة تجيش فى صدره، انبرى الخطباء أمام المنصة، يقولون ما سمعته مرارا حول موائد التكريم، حديث معاد، لا يحرف ولا يزيد، وكان الخطباء بين اثنين: جاد منسجم فى جده، وهازل غارق فى هزله. والشاعر ترتسم على وجهه ألوان متعاقبة متأثرة بما يقال، فهو خجل حين يفيض المدح، متواضع حين يغلو الاعجاب، مبتسم حين تشرق الدعابة، ضاحك حين تدوي النكتة، مزهو يذكر السبق فى المضمار، ثمل حين تدار كأس الانتصار؛ انتهى الخطباء من كلماتهم، ولم يبق غير واحد من المتآمرين اعتذر بأن كلمته قصيرة فاترة، قد يفوح شذاها إن جعلت مسك الختام
وهنا قام الشاعر المكرم، يؤم المنصة، متئد الخطى فى دلال، مصعر الخد من جلال، ولم لا؟ ألم يكن المجلى فى حلبة الفرسان؟ ألم يفز بالقدح المعلى فى الرهان؟ ألم يشر أو سيشار إليه بالبنان؟ ألم يصرع - وهو الشاعر الناشئ، والأديب الحديث - فحول الشعراء، وقدامى الأدباء فى الميدان؟ أخذ أمام المنصة يجول ويصول ويهز جوانبها تارة بالشعر المصقول، وأخرى بالنثر المعسول، يخلع على الخطباء أبهج الحلل، ويقلدهم أنصع الدرر؛ حتى ملأ السمع، وأثلج الصدر، وأفعم القلب؛ وأخيرا جلس كما قام بين عاصفة من الهتاف والتصفيق. .
قام صاحب مسك الختام، وألقى فى أول كلمته ما يناسب المقام، ثم ... ثم ماذا؟. ثم استجمع قواه، وشد من أعصابه
كما يتجمع من يهم بالقاء قنبلة داوية، وأراد أن يلقيها كلمة صريحة فلم تطوع له نفسه أن يقذف بها صديقا أعز عليه من نفسه، ولكنه أرسلها مبهمة تأخذ النفس فى استجلائها رويداً رويداً فتأنس لها ولا تنفر منها نفورا كبيراً. . إذن ماذا قال؟ قال! (ألما يزل فى ابريل، ذلك الشهر الطويل، شهر الكذب والتضليل) وسكت. . . هنا ذهبت نفوس المحتفلين غير المتآمرين وأولهم الشاعر فى تأويل ذلك الذى قيل كل مذهب، وأخذ الشك يدب إلى يقينهم، رويدا رويدا، كما يدب غسق الليل إلى وضح النهار حين الغروب،. . ولكن مازال فى الافق بصيص من نور، وفي النفس ذبالة من أمل، لقد اطفأه ظرف الخطاب (أنسيت الخطاب المزيف؟) الذى عرض على الجميع بين الدهشة والاستغراب، فوجدوا أن خاتم البريد هو لمكتب البلد الذى به صاحبنا، غير أنه ختم به مرتين ذلك الخطاب الذى لم يحظ بركوب القطار. . . وإذن كان ظرف الخطاب، هو فصل الخطاب، قطعت به (جهيزة قول كل خطيب) وصاح الجميع فى نفس وأحد، أبريل. . . أبريل، كذبة أبريل! لقد مثلت أجود تمثيل، فكانت كذبة رائعة محكمة، وكانت مفاجأة لذيذة متعة. فهل كانت كذلك فى نفس شاعرنا الكريم؟ الجواب والمعنى فى بطن الشاعر كما يقولون. فوجئ صاحبنا بكذبة أبريل، وأنت أدرى ما يحوم حول المفاجآت من تكبير وتهليل.
أفاق الشاعر من حلم لذيذ، دام من الثامنة صباحاً إلى العاشرة مساء، على صوت قذيفة هذه المفاجأة الصارخة، وأنهار فى لحظة واحدة من الواقع ما بناه الخيال والوهم من صروح فى ساعات وغار البشر فى ظلام العبوس، ودفنت النشوة فى وجوم الدهشة، وأرسل صاحبنا قهقهة عالية عصبية؛ أمن الغيظ أو الكذب أو الغفلة؟ لا أدري! ملأ السامرون حجرة السمر بصوت مزيج من التصفيق الأنتصار، وضجيج الدهشة، وصياح الأنكار، وضوضاء الفرح، ونشيج الأمل.
فكيف كان موقف شاعرنا؟ تكلف وسط هذا الموج الصاخب أن يظهر بمظهر الرجل الثابت الذى يقابل الخطوب بابتسام. والأكاذيب بابتسام، وهتف من أعماق نفسه (ألا لعنة الله على الماجنين، وأخذ يسلي نفسه بما حضره من حكم الشعراء، بمثل قول أبي العلاء.
فظن بسائر الاخوان شراً ... ولا تأمن على سر فؤادا
فلو خبرتهم الجوزاء خبرى لما طلعت مخافة أن تكادا
هنا أحس زعيم المؤتمرين أن تلك المفاجأة - مهما يكن من شئ - قاسية شديدة، فأخذ يلطف حرارتها، ويخفض من شدتها بما قال مخاطبا الشاعر: لا يكن فى نفسك يا أستاذ أثر من كذبة أبريل، فوالله ما تدري. لعل ذلك فأل جليل، فتطلع علينا فى غرة مايو الجميل المجلة النزيهة. وفيها لك تاج واكليل.
حسن! وما رأيك فى أن ذلك الشاعر الموتور. هو صاحب تلك السطور؟
