ولدت فى آخر القرن السابع عشر سنة ١٦٩٧. وماتت فى آخر القرن الثامن عشر سنة ١٧٨٠، وجمعت لنفسها من مزايا هذين العصرين، ما جعلها أبرع الناس أدبا وأشد الناس شكا، وأوسع الناس أملا، وأقتم الناس يأسا، وأظهر الناس فرحا، وأعمق الناس حزنا. ولكنى أنسيت أن أسميها، وقد كان يجب أن أبدأ بتسميتها هذا الحديث. فهى مارى دى فيشى شمبرند Marie de Vichy Champrond التى يعرفها تاريخ الآداب الفرنسية باسم مدام دى ديفاند . Madame du Deffand .
كان مولدها ونشأتها فى هذه السنين القاتمة التى ختمت حكم لويس الرابع عشر. وأدركها اليتم طفلة فارسلت الى دير من هذه الأديرة التى كان يرسل اليها بنات الأغنياء. وكانت أسرتها عريقة فى الشرف والنبل، متقدمة فى خدمة الدولة. محتفظة بمكانة رفيعة بين أشراف الأقاليم. وكانت هذه الأسرة من أشراف بورجونى، Bourgogne وأهل هذا الاقليم من فرنسا معروفون بالنشاط القوى وحدة الذهن، وذلاقة اللسان، وحب الحياة، وإيثار ما تقدمه الى الناس من لذات. فلم يطل مقام هذه الصبية فى ديرها الارستقراطى حتى ظهر من حديثها وسيرتها ما أقلق الاسرة، وأقلق رئيسة الدير. ويجب أن يكون هذا الذى ظهر من سيرتها وحديثها خطيراً جداً. فلم تكن أسر الأشراف لتقلق من شيء يسير. ولم يكن أهل الاديرة ليضيقوا الا بالشيء الذى لا يطاق. ذلك بأن حياة الناس فى ذلك العصر كان قد أخذها الفساد الخلقي، من جميع نواحيها، حتى استهانوا بكل شيء، وتجافوا عما لم يكن يتجافى الناس عنه الا فى مشقة وعنف. وحسبك أن تعلم أن الأديرة كانت قد استحالت فى ذلك العصر الى قصور فخمه يلهو فيها من أبناء الأشراف وبناتهم من لم تسمح له ظروف الحياة بالعمل فى السياسة أو فى الجيش، ومن لم تتح لهن ظروف الحياة أن يظفرن بالزوج. وكان بنات الأشراف خاصة يتخذن من هذه الأديرة دورا للعبث واللهو، يسترن ذلك بستار رقيق من اسم الدين. ولم يكن ليتحرجن من استقبال الزائرين والزائرات، ولا من اقامة الحفلات الراقصة، بل كان الرقص والموسيقى جزأين أساسيين من برنامج التعليم الذى كان يلقى اليهن فيها: فاذا استطاعت صبيتنا هذه أن تزعج اسرتها،
ورئيسة الدير بما أظهرت فى سيرتها وأحاديثها من خروج على التقاليد، فيجب أن تكون قد أتت أمراً عظيما. وهى قد أتت أمراً عظيما حقا، فقد كانت تجادل فى الدين ولما تبلغ الثانية عشرة، وكان جدالها هذا خطرا مخيفا. لأنها كانت تنكر أصول الدين انكارا. وقد استعانت الأسرة ورئيسة الدير على جحود هذه الصبية بعظيم من عظماء الكنيسة وخطيب من أبرع الخطباء فى عصره وهو ماسيون Massillon فدعى هذا الحبر للقاء هذه الطفلة ومحاورتها، فلما رآها سمع لها وتحدث اليها وانصرف عنها يائسا وهو يقول انها لظريفة. فلما سألته رئيسة الدير عما تصنع لردها الى طريق الحق أطال الصمت ثم قال: ضعى فى يدها كتابا من أرخص كتب الدين، ثم لم يزد على ذلك شيئا. وذكرت الصبية حين تقدمت بها السن حوارها مع هذا الحبر العظيم، فقالت: ان عقلى قد أضطرب أمام عقله، وقالت أنى لم أذعن لحجته وانما أذعنت لجلاله؛ ومعنى ذلك أن الخصمين التقيا فلم يقنع أحد منهما صاحبه. ولكن أكبر كل منهما فلما بلغت هذه الفتاة العشرين أو جاوزتها قليلا، زوجت من رجل شريف، عظيم الخطر، من حكام الأقاليم. ولكنها لم تكد تقضى معه أشهراً حتى أنكرته وضاقت به وكرهت عشرته كرهاً شديداً. وكانت تقول عنه انه يبذل أقصى ما يستطيع ليسؤك ويصرفك عنه. على أنها قد أقنعته بالرحلة الى باريس. ولم تكد تصل الى هذه المدينة وتستقر فيها حتى اندفعت فى حياة اللهو والعبث، اندفاعاً لفت اليها الناس، وجعلها موضوع الأحاديث فى هذه المدينة الباسمة اللاهية. وكان لويس الرابع عشر قد مات، وكان أمر الدولة الى الوصى الذى أقيم على الملك، الصبى لويس الخامس عشر. وكان هذا الوصى صاحب لهو لا حد له، وصاحب مجون وعبث لا حد لهما أيضاً. وكان الناس قد ساروا سيرته كأنما أرادوا أن يعوضوا ما فاتهم فى تلك الأيام الحزينة التى ختمت حكم الملك الشيخ، وما أسرع ما اتصلت صاحبتنا بقصر الوصى واشتركت فيما أقام فيه من حفلات، ثم اتصلت بالوصى نفسه، وأصبحت له خليلة ولكن حبه لها لم يتجاوز خمسة عشر يوماً. على انها قد ربحت من هذا الحب القصير ستة آلاف من الجنيهات الفرنسية، تصرف لها فى كل عام ما امتدت لها الحياة. وأسرفت صاحبتنا فى اللهو حتى أنكرها أصحاب اللهو من أهل باريس، وحتى ساءت الصلة بينها وبين زوجها، فافترقا دهراً ثم كان بينهما صلح لم يطل، وعادا الى الفرقة. ثم كان بينهما صلح آخر، قوامه أن يلتقيا على الغداء والعشاء. والا يعيشا معاً، ولكن هذا الصلح نفسه لم يتصل أيضاً، ففرق بينهما وعاد الرجل الى قصره فى الأقاليم وأقبلت هى على لهوها فى باريس لا تدع
فناً من فنون العبث الا أخذت منه بحظ عظيم، على أنها لم تكد تجاوز الثلاثين حتى تبينت أن ما هى فيه من الأمر باطل كله، وحتى سئمت اللهو وعافته، وأخذت تحس انصراف الناس عنها. فآوت الى أخ لها قسيس أقامت عنده دهراً ثم انصرفت عنه الى أخ آخر لها فى الأقاليم، ثم عادت مرة أخرى الى باريس. واتصلت بقصر من قصور الأشراف كان يؤوى أكبر من تعرفهم فرنسا وأوروبا من الأباء والفلاسفة، وأصحاب الفن، وفى هذا القصر ظهرت قيمتها الأبية، واستكشفت براعتها فى الحديث وتبين الذين عاشروها أنها امرأة ليست كغيرها من النساء، بل ليست ككثير من الرجال، وانما تمتاز بقلب ذكي، وعقل قوى، ولسان فصيح عذب، ومهارة فى تصريف الحديث لا تبلغ الاعجاب وحده، ولكنها تبلغ اعجاز المحدثين مهما تكن منزلتهم، ومن ذلك الوقت أخذ أمر هذه المرأة يعظم. وشأنها يرتفع، لا من حيث أنها امرأة جميلة خلابة. تحب اللهو وتسرف فيه، فقد كانت فى ذلك الوقت قد بدأت تقصر عن اللهو وتعرى أفراس الصبى ورواحله، كما يقول زهير، بل من حيث أنها امرأة أديبة أريبة يستطيع أن يستمتع بحديثها، وعشرتها، وبراعتها ذوو العقول. وقد آثرتها صاحبة القصر إيثارا عظيماً حتى لم تكن تصبر على فراقها، وأحبها فولتير وكلّف بها منتسكيو وأطاف بها أعلام الأب والفلسفة من الفرنسيين يستبقون الى مودتها، وما هى الا أن تتخذ لنفسها دارا فى باريس وتدعو اليها أصدقائها هؤلاء من الأباء والعلماء والفلاسفة يسمرون عندها يوم الأربعاء من كل أسبوع. ثم تضيق هذه الدار بمن يقصد اليها من رجال فرنسا وأوروبا على اختلافهم فتتحول عنها الى دار أخرى رحبة تستأجرها فى دير من هذه الأديرة الارستقراطية فى باريس. وفى هذه الدار التى استأجرتها كانت تقيم قبلها مدام دى منتسبان خليلة لويس الرابع عشر، تلك التى ملأت حياة الملك العظيم لذة واثماً، وكلفت رجال الدين من حوله مشقة وجهدا، والتى كانت تؤوى الى هذا الدير من حين الى حين تستغفر الله من خطاياها وتضرع اليه فى الوقت نفسه أن يحفظ عليها هذه الخطايا. أقامت صاحبتنا فى هذه الدار ونظمت استقبالها لأعلام فرنسا مرتين فى الأسبوع يتناولون عندها العشاء ويسمرون الى قريب من آخر الليل، ويتحدثون فيما شئت من أدب وعلم، ومن فلسفة وفن، ومن سياسة وحرب. ولكنها لم تكن تحب أن تشارك الأباء والعلماء والفلاسفة فيما كان يجرى بينهم من حوار؛ لأنها كانت تكره الأب والعلم، وكانت تكره الفلسفة خاصة
وتضيق بها ضيقاً شديداً، وكانت تعنى بأشخاص زائريها أكثر مما تعنى بما كان عندهم من علم، أو أدب، أو فلسفة. كانت مسرفة فى الشك وكان اسرافها فى الشك يصرفها عما كان يكلف به الناس فى عصرها من هذه الفلسفة الحرة الغالية التى كانت تعمل فى الهدم أكثر مما كانت تعمل فى البناء. وتتقدم السن بصاحبتنا وقد مات زوجها وأصبحت حرة حتى أمام القانون، وقد جدت بتنظيم حياتها وانصرفت عن اللهو والمجون الى حياة الجد ولذة الحديث والسمر، ولكنها على ذلك اتخذت لها خليلاً عاشت معه عيشة الأزواج، لم تكن تحبه ولكنها لم تكن تكرهه، انما كانت تستعين به على احتمال الحياة، كما كانت تستعين بكل شئ على احتمال الحياة، فقلما عرف تاريخ الآداب امرأة ضاقت بالحياة كما ضاقت بها هذه المرأة، بل قلّما عرف تاريخ الآداب رجلاً ضاق بالحياة كما ضاقت بها هذه المرأة. كانت متشائمة كأشد ما يكون التشاؤم، وكانت تردد هذه الكلمة التى تقربها من أبى العلاء: ان شر من ابتلينا به من الشقاء، انما هو الحياة. وكانت تستعين باسرافها فى المجون والعبث، ثم فى الجد والانتاج الأبى على احتمال الحياة، ولعلها لم تله، ولم تعبث ولم تجد الا لتنسى الحياة وتنصرف عن نفسها. فقد كانت تكره العزلة وتخافها خوفاً شديداً، فكانت تسهر الليل، ولا تنام الا قليلاً فى النهار، وتنفق وقتها قارئة أو لاهية أو مستقبلة. ولا تكاد تبلغ الخمسين من عمرها حتى يتم الله محنته لها، وحتى يأخذها الشقاء من كل وجه، فهذا حجاب رقيق يلقى شيئاً فشيئاً بينها وبين النور، ثم يتكاثف هذا الحجاب قليلاً قليلاً، وهى تحس ذلك وتجزع له وتلجأ الى الأطباء والسحرة، والمشعوذين، فلا تجد عند أحد منهم شيئاً. والحجاب يتكاثف ويتكاثف، حتى يستحيل الى سور صفيق يقطع كل سبب بينها وبين الضوء واذا هى عمياء. أفتظن ذلك قد غير من سيرتها أو اضطرها الى شيء من القصد والاعتدال، ليس من شك فى أنها قد حزنت لذلك حزناً عميقاً ولكنه حزن أضيف الى حزن. حفظته فى أعماق نفسها ولم تظهر منه للناس شيئاً. انما كتبت الى بعض أصدقائها من أعلام الأب والسياسة تنبؤهم بهذه الكارثة فمنهم من رق لها كفولتير، ومنهم من عبث بها كمنتسكيو، وكلهم قد مضى فى اكبارها، والاختلاف اليها، لم يغير من سيرته شيئا كما لم تغير هى من سيرتها شيئا. فظلت مائدتها تقام يوم الاثنين والأربعاء من كل أسبوع، وظلت تختلف الى الأوبرا والملاعب، وتشترك فى الحفلات كما كانت تفعل من قبل. واتخذت
" البقية على صفحة ٤٠ "
" بقية المنشور على صفحة 6 "
رفيقة فتاة من أهل الأقاليم ولدت فى أسرة شريفة ولكن مولدها لم يكن شرعيا، وكانت هذه الفتاة مدموازيل لسبيناس ذكية بارعة الذكاء، حساسة قوية الحس، مثقفة واسعة الثقافة، وكانت المودة بينها وبين سيدتها قوية متينة، دامت عشر سنين لم يكدر صفوها مكدر. ثم لاحظت صاحبة الدار أن زوارها أو فريقا منهم إذا انصرفوا عنها لم يخرجوا، وانما أتموا سمرهم عند الفتاة، فغاظها ذلك وكانت القطيعة بين الصديقتين، ولكنها لم تكن قطيعة مألوفة إنما كانت حدثا من أحداث العصر فى باريس، انقسم له الأباء والفلاسفة انقساما عظيما، تعصب بعضهم للشيخة وتعصب بعضهم للفتاة، وكانت كثرة الفلاسفة وعلى رأسهم ' أنصار الفتاة وكانت الأرستقراطية المعتدلة والمحافظة من أنصار الشيخة.
ثم استأنفت الحياة المنظمة طريقها عند صاحبتنا، واتخذت الفتاة لها ناديا أو صالونا أدبيا واشتدت المنافسة بين هاتين المرأتين. وصاحبتنا الآن فى الثامنة والستين من عمرها قد فقدت البصر منذ ثمان عشر عاما، وعظمت مكانتها فى أوروبا حتى لم يكن عظيم من الأوروبيين يزور باريس ألا رأى حقا عليه لنفسه ولمكانته أن يلقاها ويتحدث إليها. وفي أكتوبر من هذه السنة1765 زار باريس رجل من عظماء الإنجليز هو هوراس ولبول horace walpole كان أبوه روبير ولبول robert walpole وزيرا وكان هو عضوا فى البرلمان. فلما مات أبوه ترك السياسة، وانصرف إلى الأب والفن، وكان فى الخمسين من عمره. ولم ير هذا الرجل بدا من أن يزور صاحبتنا هذه ويغشي ناديها كما كان يغشي أندية الأب والسياسة كلها فى باريس. فلما رأى هذه الشيخة أنكرها، وكتب إلى صديق له يصفها بأنها عجوز عمياء فاجرة العقل. على أن وقتا قصيرا لم يمض على هذه الزيارة حتى تغير الأمر بين هذا الإنجليزي وهذه الفرنسية، وتكررت الزيارة فوقع الإنجليزي من نفس هذه المرأة موقعا غريبا رد إليها الشاب بل رد إليها الصبي فأحبته. وأنا أعني بهذه الكلمة معناها. أحبته وقد أشرفت على السبعين ولم يرفض هو هذا الحب. ومن المحقق انه لم يلق هذا الحب بمثله، ولكنه أضمر لهذه المرأة مودة قوية صادقة لم تغيرها الأيام واظهر بها إعجابا لا حد له. واتصلت أسباب المودة والحب بينهما ما أقام فى باريس، فلما رجع إلى لندرة اتصلت بينهما الكتابة،
وكان يأتى إلى باريس من حين إلى حين ليرى حبيبته أو ليرى عاشقته، أو ليرى يتيمته، كماكانت تسمي نفسها، فقد كانت تسمي نفسها يتيمه وتسميه هو وصياً. وكان هو يسميها ابنته الصغيرة. وكان الحنان بينهما كأقوى ما عرف الناس من الحنان بين المحبين. وكانت نتيجة هذا الحب أربع مجلدات نشرت بعد موتها وفيها ثمانمائة من الرسائل التى اتصلت بينهما. وهي آيات من آيات الأب الفرنسي لا أكثر ولا أقل، فيها تصوير لهذه العواطف النادرة، الشاذة، التى لم يألفها الناس والتي تملأ قلوبهم مع ذلك رحمة وبرا، وإشفاقا، وعطفا. وما رأيك فى هذه الضريرة التى نيفت على السبعين والتي تكتب لصاحبها رسائل حب وغرام كرسائل الفتيات اللاتي لم يتجاوزن العشرين. على أن صاحبها كان إنجليزيا، ومعنى ذلك انه كان يخاف السخرية، والمزاح، وكانت الرقابة مضروبة على الرسائل فى إنجلترا ذلك الوقت. فكان صاحبنا مروعا دائما يخشى أن تفض رسائل صاحبته، وأن يعرف ما فيها من هذا الحب الغريب، فيتندر الناس به فى القصر وفي الأندية. فكان يرد صاحبته إلى القصد فى تصوير عواطفها الحارة، وكانت هى تخاصمه فى ذلك، وكان الأمر يفسد بينهما أحيانا، ولكنه لا يلبث أن يعود إلى خير ماكان. وانقطعت رسائله عنها مرة فكتبت إليه: يظهر انك لا تريد أن تظهرني من أمرك على شيء، فاحذر أيها الوصي أن تصبر على ذلك فاني خليقة إن فعلت أن أرسل إليك سكرتيري وأن أكلفه الإسراع إلى لندرة وآمره أن يلزمك وأن يرسل إلي بأنبائك، وأن يعلن إلى الناس جميعا وفي كل مكان أني يتيمتك، وأنك وصيي، وأني أحبك، وأن يهيأ لي عندك مكانا فالحق به، وأعلن إلى الناس جميعا ما بيننا، لا أخاف فضيحة مهما تكن، فاختر لنفسك بين الفضيحة والكتابة إلي. ولعلها كانت فى بعض الوقت تذعن وتطيع، وترد نفسها إلى القصد ثم تثور فترسل نفسها على سجيتها وتطلق حبها صريحا حراً. وكذلك عاشت هذه المرأة خمسة عشر عاما، استرد قلبها فيها شبابه كله وتبينت هى وتبين هو وتبين الناس فى عصرهما، ومن بعدهما أن ما اندفعت فيه هذه المرأة من العبث واللهو، ومن المجون والفساد، ثم من الجد الخصب والنشاط المنتج، كل ذلك لم يكن إلا ضيقا بالحياة وافتقاداً لهذا النور الذى يحببها إلى النفس. وهو الحب، ومصارعة لهذا العدو الفاتك وهو اليأس، فلما بلغت السبعين أو كادت تبلغها ظفرت بالحب عند هذا الإنجليزي، وظفرت به من غير طريقه كما كان يقول المعاصرون، فان العيون هى أوضح طرق الحب إلى النفوس، ولكن الحب قد يسلك إلى النفوس طريق الآذان كما قال شاعرنا القديم. وأكبر
الظن أن صوت هذا الإنجليزي هو الذى حمل الحب إلى نفس هذه الفرنسية فثبته فيها تثبيتا.
وفى سنة 1780 ماتت هذه المرأة وكتبت قبل موتها بقليل جدا إلى صاحبها كتابا تنبؤه فيه بقرب آخرتها. وتنبؤه بأنها لا تأسف لفراق الحياة، لأنها لا ترى فى الحياة خيراً بعد أن كتب إليها أن لا تلقاه. وتنصح له بأن يستمتع بالحياة ما استطاع، وتنبؤه بانه سيحزن عليها، فليس من اليسير أن يتعزى الناس عمن كان يؤثرهم بالحب. فلما أتمت إملاء كتابها هم سكرتيرها الشيخ أن يقرأه عليها كعادته، فلم يستطع لأنه كان يقطع قراءته بالبكاء. هنالك أحست هذه المرأة المتشائمة اليائسة التى أسرفت فى سوء الظن بالناس؛ أحست أن هذا السكرتير لم يكن يعمل عندها ليعيش. فقالت له بصوت خافت فيه نغمة الموت، وفيه مع ذلك نغمة الرضى والغبطة أكنت تحبنى إذا؟
هذه صورة من صور هذه المرأة وهي من غير شك أشد هذه الصور اتصالا بالنفوس، وتأثيرا بالقلوب. ولكن لهذه المرأة صورا أخرى عظيمة الخطر جدا فى حياة الأب الفرنسي. فقد كانت ناقدة، ولها فى أدباء فرنسا، وفي كبار أدبائها خاصة آراء قيمة تثير الإعجاب لرقتها ولبراعة الصياغة التى كانت تعلن فيها. كانتتؤثر فولتير، وكانت تضيق بروسو فانظر إلى هذه الجملة البديعة التى تنقد فيها أسلوب جان جان: (إن لروسو حظا من الوضوح، ولكنه وضوح البرق، وله حظمن الحرارة ولكنها حرارة الحمى).
واتصلت هذه المرأة بأصحاب السياسة، واتصلت بالعظماء والأشراف وكانت منهم، وقد كتبت إليهم وتلقت منهم الكتب وقد صورتهم وصوروها، فهذه ناحية أخرى من حياتها لها أثرها فى توضيح التاريخ السياسي والاجتماعي لفرنسا فى القرن الثامن عشر وقبل الثورة الفرنسية الكبرى.
وبعد فلعل أحسن ما كتب عن هذه المرأة إلى الآن فصلان كتبهما سانت بوف فى أحاديث الاثنين تستطيع أن تقرأ أحدهما فى الجزء الأول، وثانيهما فى الجزء الرابع عشر، فان أردت الإيجاز المقنع فاقرأ الفصل الذى نشر عنها فى (مجلة العالمين) أول أغسطس، فان أبيت أن تتكلف القراءة أو تشق على نفسك بالبحث فقدر هذا الوصف الذى كان يصفها به فولتير، وفكر فيه فانه يعطيك منها صورة قوية، تملأ نفسك رحمة وإعجابا. فقد كان فولتير يسميها: (الضريرة المبصرة).
