((إن ينفق المرء وقته في الليل، تحت نافذة، ومن وراء حجاب، ولا يعمل شيئاً إلا أن يفكر في امرأة، أمر حاوله بلا ريب كل إنسان في هذه الحياة)). والحق أنه من السخف أن تجد رجلاً رزيناً يسير في الطريق نهاراً رافع الرأس، يحمل من وقت إلى آخر، إذا ما جاء الليل على ارتكاب الحماقة تحت تأثير الجوي والأفكار التي تحملها الخفافيش؛ فيذهب ليلاً ويتربص تحت نافذة، بينما لا يشعر إنسان بأمره، وليس لعمله أي معنى، إذ ربما كانت السيدة المنشودة تحلم في مثل هذا الوقت بأوراق
((اليانصيب، أو تحلم برجل آخر؛ أو يعمد إلى تلاوة نظم بوشكين تحت الأشجار، بينما لا يصغي إليه إنسان سوى الليل. . . والله شهيد على إنه ليس ثمة حياة أكثر خزياً وإثماً من حياة رجل عاشق!))
دونت هذه الأسطر فيما مضى حين كنت أعتقد من الضروري أن أسطر على الورق بعض مشاعرى ، في مذكرة عتيقة ذات غلاف أحمر، وقد مرّ على ذلك زمن طويل، وكنت يومئذ في العشرين؛ وكنت ألاحظ كثيراً من الأشياء المختلفة التي لا أتنازل اليوم بالالتفات إليها. وكنت أحب السياحة في العربة من مدينة إلى أخرى ، فكنت أحفظ أسماء نسيت أصحابها ، وأدون في مذكرتي بكل عناية ما أقف عليه في الفنادق العتيقة، محطات أسفاري؛ ففي فندق ((الوردة البيضاء)) كانت هناك آنسة خادمة تدعى فالي، وكانت تتعلم الفرنسية خفية؛ وسمعت صاحب حانة ليلية في الطريق الأعظم يتحدث عن الإمبراطور فرانز يوسف، ويقول أنه مرّ وهو فتى من هذا الطريق في عربة تجرها
أربعة جياد؛ وفي بلدة صغيرة تحف بشوارعها الأشجار وتتدلى أغصانها ذابلة، وتأتي إليها أصوات الأجراس خافتة من وراء التل كأنما تأتي إليها من أجراس البلدة المجاورة، كانت هِرَرة هزيلات تجوب طرقاتها يوم الخميس المقدس، وثمة رجل في فناء داره يشمر عن ساعديه ويحتسى النبيذ الأحمر ويقرأ في جريدة عتيقة، وهو كئيب كأنه متسول ترك هنالك جيش الإمبراطور؛ وترى فوق التل أطلال كنيسة متهدمة تنعى حظها، وعن بعد مجرى نهر يترقرق بين القصب القصير؛ ففي تلك البلدة كنت أطوف ذات مساء، غريباً لا يعرفني أحد، لأن سائقي احتسى من الشراب أكثر مما يجب، وأبى قطعاً أن يواصل السير في ذلك الحلك الذي يغمر كل شيء.
والحق أنى لست أذكر بعد اسم تلك البلدة ، ولابد أنها تقع في ناحية من شمال المجر، فقد كان لها قنطرة مغطاة ودار بلدية ذات تماثيل للقديسين. وكان المطعم يسمى ((الفندق الأرجواني)) فذهبت أتمشى وحيداً غريباً ، لأن سائقي أبى إلا أن يتسلل هذا المساء إلى مكان معين، وأذكر أني اخترقت حديقة صغيرة؛ وكان ثمة في المقهى الصغير محصلة تقرأ جريدة مصورة وهي تعتمد رأسها بيديها اللتين تغوصان في شعرها المتهدل ووراء باب مدهون باللون الأبيض يبدو فناء صغير يجلس فيه بعض الموظفين فى صديريات سود وهم يدخنون ((السيكار)) إلى جانب الكؤوس الصغيرة؛ وكنت تسمع عن بعد شخصاً لعله طالب ينفخ فى مزمار، ويغنى تلك الأنشودة التى أولها: ((إذا ما ابتعدت يا حبيبتى)) فقلت لنفسى: أجل توجد هنا أيضاً قلوب، وتوجد عواطف. . . وكان ذلك المساء ربيع ، وربما كان الطالب المذكور قد رسب في الامتحان
وكانت الحديقة تمتد جانباً فى قفر مطبق، يذكرك بقفر فناء المحكوم عليهم، ولابد أنها تكون فى العصر منتجع الشيوخ، والضباط أو ذوى المعاشات، يفكرون في موتاهم أو في خليلاتهن القديمات؛ وكانت أشجار الصنوبر التي ترتفع فوق كل مقعد هزيلة محزنة كأنها حياة تصرمت وانطفأت في غمار السل؛ وكان يعمر هذه المقاعد أحذية عتيقة وسترات خرجت عن الثرى، وفوق الحصى الصغير الذي يغطي الممشى، ترسم العصى
الباهتة التي ربما كانت في شبابها أيادي مظلات، خطوطاً ذاهلة
جلست على مقعد، وأخذت أفكر في شتى الأمور المحزنة: في نساء البلدة المسكينات اللاتي يرتدين أثواباً شديدة الحفيف ويبكين أكثر مما يضحكن، وفي الرجال الحزانى الذين يتجملون توقعاً لرؤية الأميرة الحسناء، ولن تأتي الأميرة قط، وفي المحادثات العقيمة التي تدور حول المائدة المقفرة أو في السرير المضني لمعرفة من هو أغنى إنسان في البلدة؟ وفي الشهر القادم ستأتي فرقة تمثيلية إلى ((الفندق الأرجواى)) . . . وكثيراً ما يعرف الأزواج أن لزوجاتهن عاشقاً!
آه، تباً لحياة البلدة الصغيرة من حياة محزنة ذات رائحة كرائحة كسرات الخبز؛ وفيها يضج المرء بالضحك، ولكنه لا يستطيع أن يتناول فيها عشاءه. رباه، إن النساء هنا لا يتكلفن العناية بالنظافة، إذ يستوى ذلك عند الرجال.
شعرت أنني جد تعس، إذ قضى على أن أضيع وقتي في تلك النزهة الحقيرة المحزنة في البلدة الصغيرة، بدلاً من أن أجلس فى مقهى فخم في مسكولك أو كأساً أو بودابست.
وكانت نغمات المزمار قد انقطعت حيناً، ولكنها عادت فدوت في الحديقة ذاتها. وإذن فقد كان الموسيقي الفتى موجوداً هنالك؛ وكان يقوم في ركن المكان الى جانب الحاجز منزل عتيق له نوافذ صغيرة جداً ، حتى لا يتسنى لغير رأس امرأة رشيق جداً وهزيل جداً أن يبرز منها
وكانت النجوم مزورة لا تسطع في ذلك المساء المظلم، وربما لم تك ثمة نجوم فوق تلك البلدة الموحشة. وكان هنالك مصباح زيتى ينشر ضوءه، ويتأمل ذات اليمين وذات الشمال وجلاً كأنما يخشى أن يقيم رجال المطافئ احتفالهم في تلك الليلة، وعلى بعد تقوم منازل ضيقة، لا يعمل ساكنوها بلا ريب شيئاً طول حياتهم إلا أن يقتصدوا وأن يبكوا، ولا يفكر نساؤها منذ العشرين فى شىء سوى غسل الثياب
وكان صاحب المزمار يعزف أنشودة محزنة تحت الأشجار، ولا ريب أنه كان يقصد بعزفه ما وراء الحاجز، وربما كانت لأنشودته صبغة غرامية ، وربما كان مؤلفها الشاعر المتوفى يحيى فيها القمر أو الصبية ذات العينين البراقتين؟ بيد أننى لم آنس
فيها شيئا غير الذلة والمرارة والفقر ، والسلوة الوحيدة لفتى مسكين من القرية ... رباه ، وكنت قد عرفت يومئذ خادمات فرنسيات .
وأخذت الموسيقى تنحدر إلى الأنين شيئاً فشيئاً، وكانت الأنشودة تضرع تضرع السائل، إلى سيدة لا تريد - وربما كانت أيضاً حمقاء آثمة - أن تصغى من فوق الحاجز إلى اعتراف فتى، لعله فى ظروف أفضل كان يصلح أن يكون فارساً في ملعب، أو حاجباً في حانة ليلية في بودابست يلقى على الغانيات أجوبة ساخرة. . . كان المزمار يئن كالهرة المريضة، وكأنك ترى وجهاً شاحباً لفتى تعس لا يملك من المال ما يمكنه من التلهى بلعبة ((الخشب)) (لعبة مجربة قومية) ، وكان البؤس المؤلم الساحق والثياب الخلقة، والمستقبل الذي ينذر بما هو أشنع، كلها تبكى فى الأنشودة، ذلك المستقبل الذى ربما استجابت فيه السيدة الخفية إلى التضرع، وأتت للفتى البائس بعدة أولاد لا خير فيهم
نهضت من مكانى وسرت لأبحث عن ذلك الفتى الذى يعزف بمزماره بين الأدغال وقد كان حدثاً ذا محيا حزين بائس، وربما كان كاتب مسجل فى البلدة؛ وكان مكشوف الرأس، وشعره الأشقر كث منفوش قائم كالمسامير
فقلت له بمنتهى الخشونة: عد الى منزلك، ولا تسمم هواء هذه الحديقة؛ ألا تشعر بالخزى إذ تذل نفسك على هذا النحو من أجل امرأة؟
ثم هرولت فأيقظت سائقى من سباته ؛ وفى الليلة نفسها غادرت البلدة الصغيرة ، التى شعرت فيها بمثل ذلك الأسى من جراء عازف سخيف.

