الرجوع إلى البحثالذهاب لعدد هذه المقالة العدد 36الرجوع إلى "الرسالة"

الاحسان

Share

لا أطيل على القارئ، فإنى أريد بالإحسان التصدق على  الفقراء، ومعونة الضعفاء والمرضى، ولست أرى لفظا أدل على  المعنى من الاحسان، وان لم يرضه المتشددون فى الألفاظ

ربما كانت فضيلة الأحسان من أكثر الفضائل تقلبا مع  الزمان، وتغيرا في افهام الناس، فكم بين ما كان يفهمه حاتم  الطائى من نحر الجزور وانهابها الناس، وبين ما وضع من النظم  الحديثة للأحسان من فروق ومباينات !

فنظام المعيشة من قديم ينتج غنيا مفرط الغنى، وفقيرا مفرط  الفقر، كما ينتج:  

أعمى وأعشى ثم ذا         بصر وزرقاء اليمامه

فذوو السعادة يَضْحكُو    ن وغيرهم يبكى ندامه

ولم يخلق للآن نظام يعدم هذه الفروق أو يقلها من غير  أن يستتبع خطرا أعظم، وداء أعضل.

فاهتدى الناس لتلطيف هذه الفروق الى المناداة بالكرم  والفخر به، ولست أدرى أكان اول من نادى به الاغنياء  اتقاء لخطر الفقراء، ام الفقراء تعطيفا لقلوب الأغنياء

وأتت الأديان تدعو إلى الأخُوَة، وخاصة بين أهل  الدين الواحد، وتجعل من مستلزمات هذه الأخّوة عطف الغنى  على الفقير وإشراكه فى جزء من ماله، واستتبع ذلك وجود  الاديار فى النصرانية والتكايا فى الإسلام

وكما أنتجت النظم معونة للفقراء وسدا لحاجات المعوزين  أنتجت عند بعض الناس تراخيا في العمل، وميلا الى الكسل  واتخاذ الاستجداء حرفة، والتكدى صناعة.

وكثرت جيوش الفقراء فلم تكف النزعات الدينية لسد  حاجاتهم، فتدخلت الحكومات تحمل بعض العبء فبنت

المستشفيات وأنشأت الملاجئ وما إلى ذلك

وأتت المدنية الحديثة فأخذت تقوَّم الفضائل من جديد،  واستخدمت العلم فى هذا التقويم كما استخدمته فى كل شىء  وكان مما نظمته طرق الإحسان، بل جاء قوم من الفلاسفة  متأثرين بمذهب النشوء والارتقاء. وبنظرية الانتخاب الطبيعى  وعلى رأسهم ((هربرت سبنسر)) يطبقون هذا على الاحسان  ويرون أنه رذيلة لا فضيلة، وأن العجزة ومن إليهم لا يستحقون  هذه العناية، إنما العناية يجب أن تتجه إلى الأقوياء وإلى خير  العناصر، ويجب أن ينتخب من المجتمع خيره وأقوه، فنوجه  إليه العناية ونأخذ بيده، وبعد أجيال سيفنى الضعفاء ويبقى  الأقوياء فيسعد مجتمعهم - نفعل فى ذلك ما نفعل بالزهور  والأشجار، نهمل الذابل والضعيف فيفنى، ونستولد القوى  الجيد فيبقى إلى آخر ما قالوا. ومن حسن الحظ لم تلق نظريته  هو وأمثاله نجاحا، فإنها نظرية تقضى على خير ما فى الإنسان  من عاطفة نبيلة نحو الناس، وكيف يقضى على العجزة والفقراء  ونظام الحياة يخلق منهم كل يوم خلقاً جديداً وجيشاً كبيراً  لو لم يُعْن به لاكتسح الأغنياء، وأثار ثورة لا يعلم مداها  إلا الله.

إنما كتب النجاح لقوم آخرين من الأدباء والعلماء لم  يحاولوا أن يمنعوا الاحسان، ولكن حاولوا أن ينظموه، لم  يشكوا فى قيمته، ولكنهم آمنوا بضرر فوضاه، واستعانوا بما  وصل إليه العلم كما استعانوا بمنهاج البحث الجديد، فدرسوا الفقر  وأسبابه وطرق الإحسان وما يتلاقى منه مع أسباب الفقر  وما لا يتلاقى، ووفقوا فى ذلك إلى حد كبير وان لم يصلوا إلى  الغاية، وعلى ضوء هذه الدراسة سنت القوانين وأنشئت النظم،  وظلت قوانين تنظم والنظم تعدل، حسب مقتضيات الاحوال  الى اليوم.

فمن أشهر القوانين القانون الإنجليزى للفقراء الذى وضع  سنة ١٦٠١ ونقح سنة ١٨٣٤ والتزمت فيه الحكومة بمساعدة  الفقراء والعاطلين .

ومن أشهر النظم المعروفة نظام ((همبرج)) الذى وضع  للفقراء والعاطلين، وهو يتلخص فى تأسيس مكتب رئيسى فى  المدينة للنظر فى شؤون الفقراء وتنظيم الإحسان وتقسيم  المدينة إلى أقسام، وتعيين مشرف على الفقراء فى كل قسم وظيفته  اعانة العاطلين على وجود عمل لهم، ودراسة أسباب الفقر فى  الأسر ووصف العلاج لها، وإنشاء مدارس صناعية لأولاد  الفقراء ومستشفيات لمرضاهم، ويقضى بمنع الإحسان يداً بيد  إلى الفقراء، إنما يعطى الإحسان لهذه الجمعية، فهى أدرى بطرق  انفاقه - وكان من أثر هذا النظام قلة عدد الفقراء وتنظيم  معيشتهم، وقد أدخلت عليه تعديلات قليلة ثم عمم فى مدن  كثيرة فى أوربا.  

ونشأت فى أمريكا جمعيات على هذا النظام وسعت بعض  أغراضها - من ذلك أنها رأت أن أكبر مساعدة ليس إعطاء  المال للفقراء ولكن إيجاد العمل لهم، كما جعلت من أهم أغراضها  ترقية المعيشة الاجتماعية فى منازل الفقراء والعناية بحالتهم  الصحية، وبتعويدهم العادات الصالحة للعيش، ووجهت أكبر  همها الى العناية بأطفال الفقراء حتى لا ينشأوا كآبائهم، فكان  لدى الجمعيات سجل للفقراء والعاطلين فى كل حى، ومجمل عن  سبب فقر كل أسرة وحالتها وما بذل من العناية لها، والاتجاه  الذى اتجهوه فى معالجتها، وبذلك أسس الاحسان على الاسس  العلمية

لعل أهم ما حدث من الانقلاب فى تصور الاحسان انه  كان يفكى فى عده فضيلة أن يخرج الإنسان عن شىء من ماله  أو جهده ابتغاء ثواب الله، لا يبالى بعد ذلك أين وقع ماله:  أعلى غنى وقع أم على فقير، أكان فيه صلاح للفقير أم إفساد له؟  فيكفى أن يجود بقرش ليحسب له عند الله عشرة أو مائة،  فجاءت الدعوة الحديثة تطلب أن ينظر فى الاحسان الى المحسن  اليه لا الى المحسن، فليس من العمل الصالح فى شىء أن تعطى  حسبما اتفق، بل يجب أن يكون عطاؤك لإصلاح الهيئة  الاجتماعية التى أنت فيها، ولا يكون ثوابا عند الله الا اذا نظر

فيه هذا النظر، ولا يعد فضيلة حتى يكون القرش الذى يعطى  يقصد فيه رفع مستوى الأمة، فإذا كان الإحسان يزيد حال الأمة  سوءا عد رذيلة لا فضيلة، وعد من أتى به مجرما لا محسنا، وبعبارة  أخرى أن هذا النظر الحديث يتطلب أن يشعر المحسن بالتبعة  أو المسئولية، فمسئولية المحسن أن يعطى الفقراء وأن يتساءل  عن إعطائه هل أفاد من أحسن اليه؟ وهل أفاد الأمة بعمله  أو لم يفد؟

كان لهذا النظر نتائج لها قيمتها - منها تحريم الاحسان  الفردى، وهو أن تكون علاقة المحسن بالفقير علاقة مباشرة،  وانما يجب أن تتوسط فى ذلك الجمعيات والهيئات التى عرفت  حالة الفقراء ودرست شؤونهم، واهتدت عن طريق دراستها  الى نوع ما يصلح لهم، فمن شاء الاحسان فعليه ان يتبرع لهذه  الجمعيات وهى التى تتولى الإنفاق - ومنها تحريم التسول فى  الشوارع والطرق، لأن المتسول لم يثبت للجمعيات صحة  دعواه وعلة فقره. إن كان وليس التسول حرفة مشروعة، ولكن  اذا أثبت عدم صلاحيته للعمل وعجزه عن العيش وجب على  الامة اعانته، والجمعيات أقدر على تعرف هذا - وكأن من مقتضى  هذا النظر أيضا أن الهيئات التى وكل إليها هذا الأمر لا يصح  ان تكتفى بأعطاء المال الى الفقراء، بل يجب ان تعالج الأمر  بشتى الوسائل حسب حالة كل فقير. فمن كان سبب فقره ان لا عمل له مع قدرته سعت له فى إيجاد عمل، ومن كان سبب فقره مرضه  عالجته، ومن كان سبب فقره إدمان مخدرات أو سوء عادات نظرت  فى وسائل إصلاحه، كذلك أهم عمل تعمله أن ترعى أبناء الفقراء  حتى لا يكونوا فقراء المستقبل، فتنشئ لهم المدارس لا ليتعلموا  فيها تعلما نظريا لا يسمن ولا يغنى من جوع، ولكن تعلما  صناعيا يبعث فيهم روح الاعتماد على النفس، ويفتح لهم السبل  لتحصيل العيش - بهذا وأمثاله عولج الفقر فى أوربا وأمريكا،  فان كان بعد ذلك عاطلون لم يكن سبب عطلهم راجعا إليهم، وإنما  يعود الى نظام العمل والعمال وسوء الحالة العامة، وجب ان  تضمن الحكومات لهم ما يقيم أودهم حتى يعودوا الى عملهم.

ونحن إذا نظرنا - فى ضوء هذه النظريات وكيف طبقت -  الى حالة الشرق وجدنا عجبا، وجدناه لا يزال على حالته  الأولية، سواء فى ذلك أغراض المحسنين أو تطبيق  الاحسان.

لدى الشرق أموال كثيرة تبرع بها أهلها للخير، لدينا  أموال الأوقاف الخيرية، ولدينا أموال النذور، ولدينا تبرعات  المحسنين، الى كثير من أمثال ذلك، ولكن أكثرها لا يقع  موقعا حسنا عند الله وعند الأمة، وكأنه يصب فى البحر صبا  أو يدفن في الأرض دفنا، على أن المال الذى يدفن أو يلقى فى  البحر ليس له من الضرر أكثر من فقده، ولكن ضرر الانفاق  على غير مستحق يزيد الامم بلاء والحال سوءا

وأهم ما استوجب هذه الحالة الأسيفة فى نظرى شيئان  - أولهما - احترام إرادة الواقف والمتبرع. فالفقهاء يرون  أن شرط الواقف كنص الشارع، والواقف لا يعلم تطور الأمة  ولا مطالبها ولا حاجاتها التى تختلف باختلاف الزمان - قد  كان كثير من الواقفين لا يفهمون فمن وجوه البر إلا الوقف  على الحرمين والمساجد والتكايا والتصدق بالخبز على المقابر،  فأصبح الناس اليوم يفهمون أن من وجوه البر كذلك انشاء  المستشفيات والمدارس والملاجئ، وسيفهمون قريبا أن من  وجوه البر إعانة جمعيات التأليف واعانة الفلاحين ليحصلوا  على الماء النقى، وليستضيئوا بالنور الكهربائى، وسيجدّ غير  ذلك من ضروب الخير، وسيرون أن الوقف على مسجد اذا  كان المسجد قد وُقف عليه من قبل ما يكفيه ليس وجها من  وجوه الخير، وسيرون ان أموال النذور تلقى فى صناديق  الأضرحة ليست تنفق على المعوزين والمحتاجين، فليس التبرع  بها احسانا

كان الواجب من عهد بعيد أن تحترم ارادة الواقف  والمتبرع فى رغبته فى الخير فقط، ولكنا لا نحترمها فى وجوه

الخير التى يراها هو إذا رأينا أنها ضارة أو رأينا أن الأمة  أحوج إلى الصرف فى وجوه أخرى - رحم الله حسن باشا  عاصم، فقد كان له موقف فى ذلك من أبدع المواقف - تبرع  محسن ببناء مدرسة، ووقف عليها الأوقاف التى تلزمها، وأتبعها  للجمعية الخيرية الإسلامية، وكان حسن عاصم مديراً للمدارس  ثم أراد الواقف أن يدخل ابنه فى المدرسة، وكانت سنة تزيد  على السن المقررة شهوراً، فأبى عليه ذلك وقال: انه تبرع بمدرسة  فله الشكر، ووقف عليها أوقافا فله من الله الاجر، ولكنه يريد  أن يبطل قوانيننا فليس له فى ذلك حق.

قد يكون من المعقول أن نقبل ارادة الواقف فى أوقافه  الأهلية. أما الخيرية فيجب أن تخضع كل الخضوع لمصلحة  الامة. لا أظن الواقفين اذا بعثوا من قبورهم ورأوا  تطورات الامم إلا مؤيدينا في رأينا وراجعين عن رأيهم.  والامر الثانى وهو متصل بالأول، ان اموال الخير تصرف حسبما  اتفق لا خضوعا لدراسة اجتماعية ولا تحريا لوجه الإنفاق ولا  للمنفق عليهم، فكثيراً ما يحرم البائس المحتاج ويعطى الغنى  المبذر، وكثرا ما يحرم العائل لا يجد قوته وعياله، ويعطى  المدمن ينفقها فى كيوفه

ان فوضى الاحسان فى الشرق سبب من أسباب شقائه،  ولو نظمت لكانت من أكبر العوامل فى نهوضه وصلاحه

لا أمل فى هذا الإصلاح حتى ينشط رجال الامة وشبانها  للخدمة العامة، وان يمتلئوا عقيدة بضرورة المساهمة فى الاحسان  بالمال وبالنشاط، وأن يطالبوا مطالبة حارة بتنظيم الاحسان  حتى يؤدى غرضه على أكمل وجه مستطاع، إذاً لرأينا البؤس  فى الامة يتضاءل الى حد كبير، ويحل محلة كثير من الرخاء،  ولرأينا المال - الذى يضيع فى الشرق سدى - وقد أصبح دعامة  للاصلاح، وسببا من أكبر أسباب النهضة الحديثة.

اشترك في نشرتنا البريدية