3 وكان من آثار هذا الاختلاط والتنافس ظهور الشعوبية من فرس وغيرهم، وهم الذين قاموا يردون على العرب دعواهم فى فضلهم على الأمم. ولم يقتصر الشعوبية أن يسووا أنفسهم بالعرب، بل تمادى الجدل بهم الى تفضيل غير العرب عليهم، كان من الشعوبية غير الفرس، وكان من الفرس أنصار للعرب، ولكن النزاع كان فى معظمه نزاعا بين العرب والفرس خاصة. وقد تناضل الفريقان عن كثب، وأرسلوا الكلام الى غاياته فى غير تحرج.
فعلان الشعوبى الفارسى وهو نساخ فى بيت الحكمة أيام الرشيد والمأمون، كتب كتاب الميدان الذى "هتك فيه العرب وأظهر مثالبها" كما يقول ابن النديم، وسهل بن هارون صاحب خزانة الحكمة فى عهد المأمون كان شديد العصبية على العرب، وقد كتب رسالة فى البخل وكأنه أراد بها الزراية بالجود الذى كان عمدة مفاخر العرب، وسعيد بن حميد بن البختكان لم يتحرج، وهو على مقربة من الخلفاء، أن يكتب كتابا يسميه فضل العجم على العرب، وأشباه هؤلاء كثيرون، وقد استمر النزاع فى الكتب عصورا طويلة، وليس يسعنا أن نستقصيه الآن.
بعد هذا كله نسأل السؤال الذى يفهم جوابه استنتاجا مما تقدم ما أثر الفرس فى الآداب العربية؟
مهما تحدث الناس عن النزاع بين العرب والفرس، فان هذا النزاع لا يشرح لنا كل شىء، كان المتنازعون إما من الرؤساء ومن التف حولهم، وإما من الطامعين فى الزعامة والمناصب. فأما العلماء أكثرهم فكانوا كدأبهم فى كل زمان يعملون ولا تسمع أصواتهم، وهم الذين تعاونوا على أغناء اللغة العربية بالكتب فى شتى الفنون. فقد
تقدم الفرس النجباء لحمل الأمانة العلمية منذ العهد الأموي، وثابروا فإذا هم المتقدمون فى كل فن: فى التفسير، والحديث، والفقه، حتى علوم العربية من نحو وصرف وعروض، والآداب العربية شعرها ونثرها، قديمها وحديثها، وما عنوا بالكلام عن الفرس والعرب. وكانوا يتحرجون أن يخوضوا فى هذا، وكان حسبهم أن ينصروا الدين وعلومه، ولو كان لابد لهم أن يتجاوزا الى أخذ الفريقين لآثروا نصرة العرب تدينا وتقوى. وحسبنا أن نذكر هنا أمثال الحسن البصرى، والبخارى، ومسلم، والأمام أبى حنيفة، ومحمد بن جرير الطبرى، وابن قتيبة، وابن فارس. على أن المتعصبين أنفسهم قد اتخذوا العربية لغتهم، فلم يكن لهم بد من إمدادها بمعارفهم طوعا أو كرها. والحق أن كراهتهم للعرب لم تكن كراهة للغة العربية. وأصدق شاهد على هذا أبو عبيدة اللغوى: كان شعوبيا متعصبا على العرب، وأصله يهودى فارسى، وأنت تعلم ما أجدت مؤلفاته على اللغة العربية، وما بذل من جهد لحفظها ورواية آدابها، ومن هذه الآداب كتابه فى مثالب العرب.
للفرس يد أخرى على الآداب العربية، هى ترجمتم ذخائر لغتهم الى اللغة العربية ترجمة حاذق قد اتخذ العربية من لغته بديلا. ولعل عصبيتهم حفزتهم الى هذا ليحفظوا آثارهم من الضياع وتقوم لهم الحجة بما يترجمون على فضل آبائهم، وعظم حضارتهم، وقد بدأت هذه الترجمة - فيما يظن - أيام الخليفة هشام بن عبد الملك: ترجم جبلة بن سالم كاتب هشام سير ملوك الفرس، ثم جاء زعيم المترجمين ابن المقفع، وعبد الحميد بن أبان، وآل نوبخت. وقد عد صاحب الفهرس أربعة عشر مترجما غير ابن المقفع وأسرة نوبخت.
والكتب التى ترجمت من الفارسية أقسام ثلاثة: (1) كتب فى الحكمة: وهذه ليست ذات خطر، فإنما هى فلسفة اليونان جاءت من طريق الفرس، وكان العرب يأخذونها من مصادر خير من الفارسية.
(2) كتب فى التاريخ والقصص: مثل كتاب (خداى نامه) أو سير الملوك، وكتاب التاج فى سيرة أنوشروان اللذين ترجمهما ابن المقفع، وسيرة أردشير، وسيرة أنوشروان، اللتين ترجمهما أبان
اللاحقى. وبعضها مأخوذ عن السجلات الرسمية الفارسية. وهذه الكتب لها أثرها فى كتب التاريخ العربى. وهى أصل لكل ما فى الكتب العربية من تاريخ الفرس وأساطيرهم، فأخبار الساسانيين فى الطبرى مثلا مأخوذة منها. يثبت هذا مقارنة الكتب العربية بعضها ببعض وبالكتب الفارسية كالشاهنامه. فهذه الكتب على اختلاف مصادرها المباشرة تتفق فى سرد التاريخ اتفاقا يؤدى الى الاعتقاد بأنها أخذت من أصل واحد.
(3) كتب المواعظ والآداب والسياسة وما يتصل بها: مثل عهد (أردشير بابكان) الى ابنه سابور. وعهد أنوشروان الى ابنه هرمز، وجواب هرمز إياه، ورسالة كسرى الى زعماء الرعية، وكتاب (زادان فرخ) فى تأديب ولده، وآيين نامه الذى ترجمه ابن المقفع، وقد أمدت هذه الكتب اللغة العربية بثروة من الحكم الأخلاقية والأقوال المأثورة تتجلى فى مثل كتب ابن المقفع: كليلة ودمنة، والأدب الكبير، والأدب الصغير، واليتيمة، وهى أصل لكتب الأخلاق العربية التى ألفت من بعد، ومن هذا النوع الكتب التى عرفت باسم المحاسن، أو المحاسن والمساوئ، مثل: المحاسن لعمر بن الفرخان الطبرى (فى عصر المأمون). والمحاسن المنسوب لابن قتيبة. والمحاسن والمساوئ للبيهقى، والمحاسن والأضداد للجاحظ، فهذه الكتب لها نظائر فى الفهلوية ألفت حتى فى العصر الإسلامى. وهى معروفة باسم شايد نشايد، أو (شايسة نشايسة).
كتب التاريخ وكتب المواعظ لها أثر كبير على الأدب العربى بالمعنى الأخص. أعنى الكلام البليغ نظمه ونثره، فهذه الأساليب المسهبة السهلة التى تقدم بها عبد الحميد وتلاه فيها ابن المقفع وغيره تأثرت بالأساليب الفارسية كما كانت موضوعاتها فارسية. وقد ذكر أبو هلال العسكرى فى الصناعتين وهو يحتج على أن البلاغة ترجع إلى المعانى: ذكر أن الذين عرفوا لغات غير العربية نقلوا بلاغتها إلى العربية فى كتابتهم، وضرب مثلا بعبد الحميد الكاتب إذ أجدت على العربية بلاغته الفارسية، وأمر آخر يرجع إلى الشعر: هو الشعر المزدوج الذى نظم به أبان بن عبد الحميد كتاب كليلة ودمنة وغيره، فقد نظم شعراء الفرس فيما بعد كل ما نظموا من قصص فى هذا النوع من النظم وسموه المثنوى. فلعل هذا النوع من أثر الفرس على اللغة العربية أيضا على قلة معرفتنا بحال الشعر عند الفرس قبل الإسلام.
"يتبع"

