ولا ننسى بعد - أن اللغة الفارسية بقيت لغة الدواوين المالية فى إيران حتى زمان عبد الملك بن مروان.
ولا ريب أن اللغة الفارسية بقيت لغة التخاطب فى إيران بين العامة على الأقل، ولا سيما فى القرى والنواحى البعيدة، فانا قد وجدناها منذ القرن الرابع ترتقى إلى أن تكون لغة الآداب؛ واللغة لا تموت جملة واحدة ولا تخلق جملة واحدة. على أن كثيرا من الدلائل يثبت إنها كانت لغة الكلام فى هذه الفترة أى قبل عصرها الأدبى الحديث، وقد انتقلت منها كلمات كثيرة إلى البلاد العربية مع النازحين من الفرس وتأثرت بها لهجات بعض العرب.
فرحل عبد الملك بن مروان إلى المختار بن أبى عبيد حينما جاءوا معسكر ابن الأشتر لم يسمعوا كلمة عربية، وعبد الله بن زياد وهو أمير عربى كانت فيه لكنة فارسية (أخذها من زوج أمه) - والفرس الذين عرفوا العربية لم يخلصوا من لغتهم ولهجتها - وقد روى الجاحظ أن الحجاج قال لنخاس فارسى: أتبيع الدواب المعيبة من جند السلطان؟ فقال: "شريكاتنا فى هوازها وشريكاتنا فى مدائنها وكما تجيء تكون". قال الحجاج: ويحك ما تقول؟ فقال بعض من كان اعتاد سماع الخطأ وكلام العلوج بالعربية حتى صار يفهم مثل ذلك. يقول: شركاؤنا بالأهواز والمدائن يبعثون إلينا بهذه الدواب فنحن نبيعها على وجوهها. وأبو مسلم الخراسانى على فصاحته التى جعلت رؤية ابن الحجاج يقول ما رأيت أعجميا أفصح منه - كان لا يستطيع النطق بالقاف - وقد رؤى المؤرخون أن إبراهيم الإمام حينما أوصى أبا مسلم قال له: وان استطعت ألا تبقى فى خراسان لسانا عربيا فافعل - مما يدلنا على أن لغة الجمهور هناك
كانت فارسية. ونجد الشاعر العمانى يصلح بذكر الألفاظ الفارسية فى مدائح الرشيد
ويحدثنا الجاحظ أن لغة أهل البصرة بل لغة أهل المدينة كان بها كثير من الكلمات الفارسية فى أيامه، مما يدلنا على بقاء الفارسية وتأثيرها البعيد. ويحدثنا أيضا أنه سأل خادما له إلى من أرسل هذا الغلام؟ فقال إلى أصحاب السند نعال: يعنى النعال السندية.
وأمثال هذا فى كتب الأدب كثيرة. ولأمر ما ثار النزاع منذ أيام أبى حنيفة على قراءة القرآن بالفارسية. ثم بابك الخرمى كما يؤخذ من الفهرست كان لسانه متعقدا بالأعجمية، و(به آفريد) الفارسى المتنبى على عهد أبى مسلم لما أراد أن يضع لأتباعه كتابا وضعه بالفارسية. وأنتم تعلمون ما دخل العربية من الفارسية لا سيما فى أسماء الطعوم والأثاث. هذه جملة تثبت أن اللغة الفارسية لم تمت فى هذه الفترة إن كان هذا فى حاجة إلى الإثبات.
وأما الفرس أنفسهم فقد خلطهم الفتح والإسلام بالعرب، أى خلط، فالقبائل العربية انتشرت فى الأرجاء الفارسية، والفرس انتقلوا إلى البلاد العربية أسارى أو مهاجرين طلبا للرزق أو العلم أو المناصب. فالمدينة على نأيها كان بها فرس، وهم قتلوا هنالك عمر وسعيد بن عثمان بن عفان.
وسرعان ما تعلم الفرس العربية وشاركوا فى العلوم الإسلامية. ولكن كان للفرس قبل قيام الدولة العباسية حال تختلف عن حالهم بعدها كل الاختلاف.
كانت دولة الأمويين عربية وقليل من غير العرب من سموا فيها إلى الدرجات العليا، وكان العرب، لأنهم أصحاب الدين والدولة ولأنهم الذين أقاموا الملك ونشروا الدين، يرون أنفسهم أجدر بالرياسة وأولى بالشرف على ما كان فيهم من الاعتداد بأنفسهم والفخر بأنسابهم منذ أيام الجاهلية. فسخط الفرس من أجل ذلك عليهم، ولكن الفرس لم يكونوا قد أفاقوا من دهشة الفتح الإسلامى ولم يكونوا قد تمكنوا فى الإسلام واللغة وامتزجوا بالعرب امتزاجا يمكنهم من منافسة العرب، وما كان العرب قد ضعفوا وتغيروا وتفرقوا فى الأقطار. بقى الفرس ساخطين فاستعان بهم الثائرون
على الأمويين، فكانوا عونا للمختار بن أبى عبيد ولعبد الرحمن بن الأشعث، فكان جيش المختار من الموالى إلا قليلا وقد عتب العرب عليه إذ استعان بالعتقاء من الموالى ثم أعطاهم حظهم فى الغنائم. ولما قال رسل عبد الملك لأبن الأشتر: أجئت تقاتل جيوش الشام بهؤلاء؟ أجاب ما هؤلاء إلا أبناء أساورة الفرس.
وإذا نظرنا إلى أن جيش المختار كان أول من ثأر للحسين بن علي وقتل من قتله عرفنا أحد الأسباب التى جمعت بين التشيع والفرس منذ أمد بعيد، فقد كان العلويين والفرس سواء فى كراهة الأمويين فتحابوا.
جاءت الدعوة العباسية وقد تهيأت الأسباب ليأخذ الفرس مكانهم فى الأمة الإسلامية فكانوا أخلص دعاة هذه الدولة وإليهم يرجع الفضل فى إقامتها، وقد رأى نصر بن سيار فى هذه الدعوة خطرا على العرب والإسلام فقال فيما قال:
تعزى عن رحالك ثم قولى على الإسلام والعرب السلام كانت الدعوة العباسية خليطا من الدين والعصبية، الفارسية فأبو مسلم كان فارسيا ومسلما غيورا مخلصا، وقد أسلم من أجله كثير من دهاقين الفرس وهو الذى قتل المتنبى الفارسى سر (به آفريد) حين إنتهز فرصة الدعوة فقام يحيى الزردشتية؛ وكان أبو مسلم قد دعاه من قبل فأسلم وسود. هذا المزج يتمثل حتى فى تسمية أهل خراسان الرماح التى خرجوا بها لنصرة العباسيين: كافر كوب - أى مضارب الكفار فهو أسم مركب من كلمة عربية متصلة بالدين ومن كلمة فارسية. ومما يتفكه به هنا قول بعض الشعراء:
وولهى وقع الأسنة والقنا وكافر كوبات لها عجر قفد بأيدي رجال ما كلامى كلامهم يسمونني مردا وما أنا والمرد؟
ومهما يكن فلا أخال البيرونى قد أخطأ حين سمى الدولة العباسية "دولة خراسانية شرقية" .
كان للدعوة العباسية وما عقبها من قيام الدولة - نتائج كثيرة. وإنما يعنينا منها ما يتعلق بالفرس، فقد انتعشت الآمال فى نفوسهم. ومكنت لهم فى الدولة وخلطتهم بالعرب خلطا تاما - وكان من مظاهر هذا الانتصار فى بلاد الفرس ظهور دعوات دينية جديدة وثورات: (به آفريد) انتهز الفرصة لوضع دين قريب من الزردشتية. فأعجله أبو مسلم وقتله. وقد أعجب الفرس بأبى مسلم أيما اعجاب، فلما مات أنكر المسلمية موته وقالوا أنه اختفى وسيجئ مهديا من بعد، ومنهم من قال انه نبى بعثه زردشت وإنه لم يمت كما لم يمت زردشت. وقد دعا إلى هذا داعية فى بلاد الترك يعرف باسم إسحاق التركى ولكنه فارسى. وقام صديق من أصدقاء أبى مسلم أسمه سنباد يقول: أن أبا مسلم اختفى فى صورة حمامة بيضاء، ثم يعلن أنه سيذهب
لهدم الكعبة انتقاما لصديقه، وقد جمع حوله زهاء مائة ألف ولكن ثورته لم تلبث طويلا - وتلت ذلك ثورات يوسف البرم والمقنع الخراسانى وعلى مزدك، وبابك الخرمى، وأكثرها مصحوب بذكرى أبى مسلم. ثم جاء القرامطة وفعلوا ما فعلوا وكان منهم ابن أبى زكريا الذى شرع لهم أن من أطفأ النار بيده قطعت يده، ومن أطفأها بصمه قطع لسانه وهذا من أثر الزردشتية. كل هذه مظاهر تحتاج إلى شرح واستقصاء ولها دلالتها على بقايا العصبة الدينية والجنسية فى نفوس الفرس.
هذا فى بلاد الفرس، وأما أثرهم فى سياسة الدولة وفى حاضرة الإسلام بغداد فقد كان للفرس الرجحان على العرب عند الخلفاء منذ قيام الدولة، وقد بلغ الأمر غايته حين تنازع الأمين والمأمون فكان المأمون فى مرو من أقصى خراسان أشبه بخليفة فارسى وقد أعانه الفرس على حرب أخيه الذي كان يعتز بالعرب.
وروى أن أول شعر فارسى نظم فى مدح المأمون كان إذ ذاك. فلما غلب المأمون تمت الغلبة للفرس، ثم استمروا مسيطرين على الخلفاء حتى أديل منهم لأتراك المعتصم؛ حتى إذا قامت الدولة الفارسية ملك بنو بويه بغداد إلى أن كان طور السلطان التركي فأديل منهم للسلاجقة.
ساس الفرس الدولة على قواعد الساسانيين، وقلد الخلفاء وغيرهم الفرس فى ملابسهم ومساكنهم وطعامهم وشرابهم؛ أمر الخليفة المنصور أن تلبس القلنسوة الفارسية، وأتخذ هو ومن بعده الحلل المذهبة على الأساليب الفارسية، وقد أبقى الزمن من نقود الخليفة المتوكل ما يظهر هذا الخليفة فى مظهر فارسى كامل - ومن الكلمات الجامعة فى هذا ما قاله المتوكل حين أراد إصلاح السنة المالية ورد النيروز إلى مكانه من العام فأحضر الموبذ ليستعين به، فقال الخليفة. قد كثر الخوض فى ذلك ولست أتعدى رسوم الفرس. وسأله رأيه فى الإصلاح. "تتبع ..."

