الرجوع إلى البحثالذهاب لعدد هذه المقالة العدد السادسالرجوع إلى "الرسالة"

التجديد فى الأدب -١-

Share

موضوع ثار فيه الجدل بين الكتاب، واحتدم فيه  الخلاف بين الباحثين. هل أدبنا العربى يحتاج الى تجديد؟  وهل سواء فى ذلك شعره ونثره؟ وتعصب قوم للقديم يذودون  عنه ويحافظون عليه، ولا يسمحون بأى تغيير فيه. وهب  المحدثون ينعون على المحافظين جمودهم، وينذرونهم بسوء العاقبة  إن هم ظلوا متمسكين بالقديم معرضين عن الجديد.

ولكن أسوأ ما يسوئنى فى هذا الموضوع وأمثاله  الغموض والابهام؛ فاذا سألت المجددين ماذا يريدون بالتجديد  وما ضروبه وما مناحيه وماذا يقترحون أن يدخلوه على  الأدب العربى جمجموا فى القول وأتوا بكلمات غير محدودة  المعنى، ولا واضحة الدلالة. وقد يجوز اذا حددوا أغراضهم  وأبانوا عن مقاصدهم، أن يوافقهم المحافظون أو أكثرهم، ولا  يكون ثمة خلاف، وان يكن فخلاف معروف تقام عليه  حجج واضحة.

من أجل هذا كله أحاول أن أعرض لوجوه التجديد التى  يخيل الى أنهم يريدونها، وأدلى برأيى فيها، وأدعو الكتاب أن  يساهموا فيها بآرائهم، ويستدركوا ما يفوتنى من حججهم  وأغراضهم:

فى أدب كل لغة عناصر ثابتة لا يعتريها تغير ولا ينالها  تجدد، هى قدر مشترك من الأسلوب والتراكيب وتأليف  الجمل؛ به تمتاز اللغة من سائر لغات العالم. وينفرد أدب الأمة  عن آداب العالم - وقدر مشترك من الفن، نتبين به الجيد من  الأدب فى كل عصر وكل جيل، هو فوق البيئة وفوق العوامل  السياسية والاجتماعية، وفوق ما يطرأ عليها من كل تغيير.

وهذا وذاك هما اللذان يجعلاننا نتذوق الأدب الجاهلى،  وندرك ما فيه من جمال، ونشعر بما فيه من نقص. ويستطيع الأديب

منا أن يعرف خير ما قال امرؤ القيس، وما قال طرفة، وما  قال زهير؛ وهو الذى يجعلنا نتذوق ما فى القرآن الكريم من  جمال فى الأسلوب والمعنى. وندرك ما فى العصر العباسي الى  عصرنا هذا من نثر وشعر، ونزنه ونقومه، ونحكم على بعضه  بالحسن والجمال والقوة، وعلى بعضه بالضعف والقبح والغموض.  ولولا هذا القدر المشترك لانقطعت الصلة بيننا وبين القديم  فلا نحس له جمالا، ولا نتذوق له طعما.

وهذا النوع من العناصر لا يقبل تجديدا ولا تغييرا، إذ  بتغييره تضيع اللغة وتفقد مشخصاتها، فلو قلبنا تركيب الجمل  رأسا على عقب، أو لم نراع الوضع الذى تسير على نهجه  اللغة، لكان لنا من ذلك لغة جديدة، ليس بينها وبين الأولى نسب.

وهناك نوع آخر من العناصر فى اللغة والأدب، خاضع  للتغيير، قابل للتشكل، يتأثر بالبيئة وبدرجة الحضارة،  وبالأساليب السياسية، وبالحياة الاجتماعية، وغير ذلك.  وفى هذا النوع يكون التغيير والتجديد. ومن أجل هذا  التغيير كانت الفروق واضحة بين الشعر العباسى والشعر الجاهلى،  فى التعبير والتشبيه والأسلوب والموضوع ونحو ذلك.  ومن أجل هذا أمكن الأديب اذا عرض عليه نوع من الأدب،  أن يعرف عصره ولو لم يعرف قائله؛ لأنه يستطيع أن يتبين  خصائص كل عصر ومميزاته، ويطبق ذلك على ما يعرض عليه  من شعر أو نثر. ومن أجل هذا أيضا ترى الفرق واضحا  بين لغة الأدباء الآن وبين لغتهم منذ عشرين عاماً. وتجد الفرق  واضحا بين لغة الجرائد المصرية اليوم، وبين لغة الجرائد السورية  والعراقية، وإن كانت كلها تصدر باللغة العربية، وتشترك فى  العناصر الأساسية.

وهذا التغيير أو التجديد فى الأدب وتأثره بما حوله  خضع له الأدب العربى وكل أدب على الرغم من المحافظين  والجامدين؛ فقد رأينا فى العصر العباسى مدرسة وعلى رأسها  الأصمى لا تحب إلا الشعر الجاهلى، ولا تحب من المحدثين  إلا من قلد القدماء. ورأينا من كان ينشد الشعر فيستحسنه،  فاذا قيل له انه محدث استهجنه واتهم ذوقه؛ ولكن هذه  المدرسة أخضعها الزمن لحكمه، ونشأ أدب عباسي جديد،

احتفظ بالعناصر الأساسية للأدب العربى ولم يأبه لما عداها  وكان الفرق كبيرا بين الأدبين كما قال الجاحظ: كم من الفرق  بين قول امرئ القيس:  تقول وقد مال الغبيط بنا معا  وقول على بن الجهم:  فبتنا جميعا لو تراق زجاجة  من الماء فيما بيننا لم تسرب

وجاء المتنبى وعلى أثره المعرى فجددا فى الشعر من ناحية  الأسلوب ومن ناحية المعانى، فأنكر عليهما أدباء عصرهما  نزعتهما الجديدة، حتى رأينا من بين العلماء من أبوا أن يعدوهما  فى الشعراء. ثم حكم الزمن على هؤلاء العلماء ووضع المتنبى  والمعرى فى مكانهما اللائق بهما.

وكان هذا هو الشأن فى كل عصر، حتى عصرنا الحديث،  نشأ قوم تأثروا بالأدب العربى القديم وحذوا حذوه،  ولم يخرجوا قيد شعرة عنه. فلو ركبوا الطائرة قالوا ركبنا  الهودج والبعير، واذا استهلكت البنزين قالوا رعت  السعدان، وسموا الجنيهات الانجليزية وعملة الورق دراهم  ودنانير، واذا لم يكن لهم من الأمر شىء قالوا لا ناقة لنا ولا جمل، إلى كثير من أمثال ذلك.

وتأدب قوم بالأدب الغربى الى ثقافتهم العربية، فثاروا  على كل ذلك واختلفوا بينهم فى مقدار هذه الثورة، فقوم  يريدون أن يتحرروا من الأوزان والتزام القوافى، وآخرون  يريدون أن يتحرروا من التشبيهات البالية والمجاز العتيق،  وآخرون يعافون بعض الأساليب القديمة، والموضوعات  التى جرى عليها السابقون. وكان صراع بين الطائفتين  نعرض له بعد.

على كل حال دلتنا أحداث الزمان على أن عوامل البيئة فى  التغيير والتجديد لا يمكن أن تقاوم، كما دلتنا على أن ليس كل  تجديد يصادفه التوفيق ويتسع له صدر الزمن، وأن نجاح من نجح  من دعاة التجديد وفشل من فشل منهم إنما كان خاضعا لقوانين

طبيعية ظاهرة حينا وخافية أحيانا، وأن نوع التجديد إن كان صالحا  وكان مما تسمح به القوانين الطبيعية للادب فمعارضة المعارضين  لا يكون لها من أثر إلا أن تؤخر زمن الاصلاح، وهو واقع  لا محالة يوما ما، وإذا لم تسمح بها هذه القوانين كانت دعوة  التجديد صيحة فى فضاء، أو خطا فى ماء.

وبعد فأى أنواع التجديد يتطلبه المجددون؟ وهل من خير  الأدب العربى قبوله أو رفضه؟

إن أول أنواع التجديد وأبسطها تجديد الألفاظ، لأنها مادة  الأديب الأولية، وخيوطه التى ينسج منها قطعته الفنية.  وتجديد الألفاظ على ضربين:

(١) اختيار الألفاظ التى تناسب العصر ويرضاها ذوق  الجيل الحاضر، لأن لكل أمة فى كل عصر ذوقا خاصا بها  تختار ألفاظا تناسبها وتأنس بها، وتمج ألفاظا لا تستحسنها ولا  تستسيغها، وذوق الأمة فى حياة مستمرة، فهو كذلك فى عمل  مستمر إِزاء الألفاظ، وأدباء كل عصر لهم معجم يخالف معاجم  اللغة القديمة. فلو أن أديبا استعمل كلمة (هبيخ)  للجارية الحسناء لكفت فى اسقاط قصيدته أو مقالته. ولو  استعمل كلمة بعاق للمطر أو السيل لدل على فساد ذوقه،  وسوء أدبه، ومن أجل ذلك لا يستحسن فى هذا العصر  بعض ما كان يستحسن فى عصور سابقة. فقد كان يستحسن  من أبى الطيب قوله:  وترى الفضيلة لا ترد فضيلة  الشمس تشرق والسحاب كنهورا

ولكن كنهورا الآن ثقيلة فى اللفظ كريهة على السمع،  وهذا بديهى لا يحتاج إلى اطالة- وكل من جهل هذه الحقيقة  لا يفلح أن يكون أديبا، لقد أراد الأستاذان الشنقيطى وحمزة  فتح الله أن يحييا غريب الألفاظ ويستعملاه فى قولهم وكتابتهم  ففشلا كل الفشل، وكان الناس يستظرفون ذلك منهما كما  نستظرف فتاة حضرية لبست ثياب بدوية، وفهموا أن ذلك  ليس جدا من القول، وليس طبيعيا أن تعيش بداوة القرن  السابع فى حضارة القرن العشرين. إنما يحيا الأديب يوم يوفق  لاختيار الألفاظ الرشيقة التى تناسب ذوق عصره، والعصر  الآن أميل إلى السرعة والاقتصاد، وكلاهما يتطلب الوضوح

والجلاء لا الغموض والغرابة.

لذلك أصبحت فى معاجم لغتنا ألفاظ كثيرة ليس لها قيمة  إلا أنها أثرية تحفظ فيها كما تحفظ التحف فى دار الآثار.

والضرب الثانى: ألفاظ تخلق خلقا، تلك الألفاظ التى  تساير المدنية الحديثة بكل ما اخترعت من أدوات وصناعات،  وما ابتكرت من فن وعلم ومعانى وآراء، واللغة العربية اليوم،  قاصرة كل القصور فى هذا الباب، فليس لدينا ألفاظ لكثير  مما اخترع وابتكر، وهذه مشكلة المشاكل اليوم وقبل اليوم  تجادل العالم العربى فيها طويلا ولما يستقر على حال

وكان لقصور الألفاظ أثر كبير فى ضعف الأدب. فكيف  يستطيع الأديب أن يصف حجرة وكل ما فيها من أثاث ليس  له ألفاظ تدل عليه؟ وكيف يستطيع الكاتب أن يؤلف  رواية، وهو فى كل خطوة يعثر بمسميات لا أسماء لها؟ ولذلك  يهرب كثير من الأدباء من التعبير الخاص الى التعبير العام،  فاذا أراد أن يصف رجلا يلبس طربوشا قال إنه يلبس عمارة  أو قلنسوة، والحقيقة أنه لا يلبس عمارة ولا قلنسوة، وإنما  يلبس طربوشا، واذا أراد أن يقول إنه يضرب على البيانو  قال إنه عزف على آلة موسيقية، وهذا منتهى الفقر فى التعبير.

كل هذا حقن الأفكار فى أدمغة الأدباء، وسبب ضعف  الوصف والرواية وغيرهما فى الأدب العربى الحديث، وجعل  الأدباء يفرون الى الموضوعات الانسانية العامة، والأفكار  الميتافيزيقية، فان نحن شئنا أن يكون الادب ظلا لحياتنا، وحياتنا  الآن، وجب أن نحل مشكلة الألفاظ حتى يطلق الأدباء من  أغلالهم، وإلا ظلوا يدورون حول أنفسهم، وظل أدبهم  غذاء ناقصا للامة ليس فيه كل العناصر التى لا بد منها للحياة.

وهناك تجديد فى مناحى أخرى غير الألفاظ نعرض لها  فى مقالات تالية إن شاء الله.

اشترك في نشرتنا البريدية