-3- من أوضح الظواهر أن الجمهرة العظمى من المتعلمين الذين درسوا أدبا عربيا وأدبا أجنبيا يعكفون على الادب الاجنبي يتذوقونه ويكثرون من مطالعته , فى جدهم إن شاءوا الجد , وفي لهو هم ان شاءوا اللهو . و هم ان قراوا فى الأدب العربى ففى القليل النادر , وان فعلوا لم يطيلوا ولم يتعمقوا , وقل أن يدرسوا كتابا دراسة جيدة , إنما أكبر همهم أن يقلبوا صفحات الكتاب ليقع نظرهم على أبيات من الشعر يستملحونها , أو قصة طريفة يتفكهون مها . ومكتبتهم - على قلتها - تمثل ميلهم , فالكتب الانجليزية أو الفرنسية فيها غالبة , والكتب العربية قليلة نادرة .
ذلك ولا شك حال أغلب المثقفين ثقافة عصرية .
ويذهب بعض الباحثين فى تعليل هذه الظاهرة إلى أن السبب يرجع إلى فساد تعليم اللغة العربية وآدابها فى المدارس، فإن أساتذتها لا يحببون إلى الطلاب الأدب العربي، ولا يصلون به إلى نفوسهم، وإنما هى أمثلة محدودة تتكرر عاما بعد عام، ونماذج من الشعر والنثر تعرض مرة بعد مرة، ولا غرض من دراستها إلا أن يذكرها الطلبة عند الامتحان فيؤدوها كما تليت عليهم، ثم تذهب بذهاب الامتحان، لأنهم قد تجرعوها على مضض، فهم يفرحون بنسيانها فرح المريض، وقد شفي، بالخلاص من دواء مر المذاق. قد يكون هذا سببا صحيحا، ولكنه فيما أرى ليس بالسبب الجوهري، فإن بعض اللغات الأجنبية التى تدرس بيننا ليست دراستها بأحسن حالا من دراسة اللغة العربية، ومع هذا فالطلبة يسيغون أدبها ويتذوقون كتبها بما لا يظفر ببعضه الأدب العربي. أهم سبب عندي يرجع إلى موقف الأدبين الأدب العربي والأدب الأوربي.
ذلك أن كل أدب أوربي له قديم وحديث، والأدب الحديث هو الذى يناسب جمهور المتعلمين وعامة الشعب لأنه فى الغالب يعرض لما يشعرون به فيعبر عنه التعبير الفني، فالأديب المحدث يرى ظاهرة اجتماعية فيضعها فى قصة أو منظرا جميلا فيضعه فى قصيدة، أو معنى أثارته فى نفوس قومه أحداث سياسية أو اقتصادية فيضعه فى مقالة أو كتاب، فيقبل
على قراءة ذلك ويعجبون به، وسبب الإعجاب أن الأديب شعر بما يشعر به الجمهور، واستطاع أن يعبر عنه التعبير الفني الذى لا يستطيعه الجمهور. أما الأدب الأوربي القديم فإنما يناسب خاصة المتعلمين لأنه يتطلب دراسة لغوية وأدبية عميقة كما يتطلب، لتطلبه، أن يلم المتعلم بشيء كثير من المسائل التاريخية والاجتماعية التى أحاطت بالأديب وبالقطعة الفنية حتى يستطيع أن يفهمها فهما صحيحا، وليس ذلك فى مكنة السواد الأعظم من الناس. فالذين يفهمون الإلياذة والأوديسة وخطب ديمستين قليل بالنسبة إلى الذين يقرأون الأدب الحديث ويفهمونه، وكذلك الذين يفهمون الأدب الإنجليزي أو الفرنسي فى القرون الوسطى ويتذوقونه هم الخاصة من الأدباء، وإن قرأ الجمهور شيئا من الأدب القديم فإنما يقرءوه مترجما إلى اللغة الحديثة، أو معروضا فى شكل جديد قد ذللت فيه كل الصعوبات التى يحتمل أن يلقاها القارئ العادي. أما الأدب الإنجليزي أو الفرنسي الحديث فيكاد يكون حظ الإنجليز أو الفرنسيين جميعا.
وسبب ذلك ان الادب هو نقد الحياة فى اسلوب فني , واذ كانت كل امة تفهم حياتها الحاضرة فهماما - وان اختلفوا فى مقدار الفهم - كان الادب الحديث اقرب الى فهمهم وأيسر متناولا لجمهورهم - واذ كان الادب القديم وصفا لحياة قديمة لايستطيع فهمها فهما صحيحا الا من عرف بيئتها وتاريخها , كان ذلك الادب ادب الخاصة
وبعد فالأدب العربي أدب قديم لا حديث له ، وان شئت تعبيرا دقيقا فقل انه ادب قديم لم يستكمل حديثه , لذلك كان الأدب العربى ادب الخاصة لا ادب الجمهور
لايستطيع القارئ ان يفهم الادب العربي القديم الا بفهم دقيق للتاريخ , وفهم بالغ للظروف الاجتماعية التى نشأ فيها الأدب ومعرفة واسعة بالجغرافيا , وعلم تام بقوانين الصرف المعقدةكأنها قوانين اللوغارتمات ليعرف كيف يبحث فى معاجم اللغة العربية عن كلمة غريبة , وليس يصير على ذلك كلها لا المجاهدون الصابرون , وقليل ماهم .
يريد سواد المتعلمين ان يغذوا مشاعرهم من حب يحلل تحليلا دقيقا , او اعجاب بمنظر طبيعى ملك عليهم نفوسهم , فارادوا ان يصور هذا الاعجاب فى قطعة فنية , او تبرم باسر ورقفهم يريدون ادبا يتغنى بالحرية وبحفز النفوس الى تحقيقها , او الم من سوء حالة اجتماعية فهم يبتغون قصة تمثلها , او قصيدة تصفها , أوكتابا يحللها ،
او نحو ذلك من ضروب المشاعر فلا يجدها فى الأدب العربى الحديث الا قليلا نادرا فيضطر الى الادب الاجنبي يقرأه ويتغنى به ويستمرئه , وهو على الرغم من .. ان ذلك الادب ليس بلغته ، ولا يصف مشاعر تتمثل بالدقة مشاعره , ولا يحلل حالات اجتماعية تشبه مشابهة تامة حالاته , على الرغم من ذلك كله مضطر أن يقرأه ، اذ ليس عنده من ادبه ما يكفى لغذائه , وفي الادب الغربى كل صنوف الغذاء على اختلاف الانواع وعلى اختلاف الاساليب ان شاء سهلا , وجد السهل , او صعبا وجد الصعب , او بين ذلك وجد بين ذلك , واذا غمض عليه لفظ استطاع ان يكشف عنه فى المعاجم من اول درس تعلمه , فكيف لا يهمل بعد ذلك الادب العربى و يعكف على الادب الغربى ؟
ان شئت فوازن بين ما يدرسه الطالب فى المدارس الثانوية او العالية فى الادبين , فهو في الادب الغربى يدرس شكسبير وأمثاله فيجد موضوعا شيقا بمثل حالة من الحالات التي تتصل بنفسه , وتمس حياته الاجتماعية بقدر ما , قد صيغت فى قالب فنى رشيق , فخرج من الدرس يحبها ويحب موضوعها , اما في الأدب العربى فيدرس مختارات من جرير والفرزدق والاخطل , او مختارات من مقامات البديع والحريرى او نحو ذلك , وهذه كلها لا تمثل ناحية اجتماعية يحياها او ما يقرب منها , ولا فكرة عميقة حللت تحليلا واسعا ، لذلك يخرج منها وهو لا يحها , او على الأقل يكون على الحياد منها . لست انكر ان فى جرير وأمثاله , والمقامات وأمثالها , وفى الأدب العربى على العموم جمالا وفا وابداعا , ولكن ذلك لا يدركه الا الخاصة الذين مرنوا طويلا على الدرس ويذلوا الجهد في تدريب اذواقهم على تقويمه واستساغته ، وليس ذلك فى استطاعة كل الطلبة ولا اكثرهم .
فان انت نظرت إلى الأدب العربي الحديث فماذا ترى ؟ ترى كثيرا من الأدب العربي قد ترجم الى العربية , وليس من الحق ان نعد هذا ادبا عربيا في جوهره وموضوعه ، اذ ليس له من العربية إلا لغة ملتوية على النمط الغربي . وترى نتاجا مبتكرا قليلا , واكثر هذا الفليل مقالات وفصول جمعت بعد ذلك وسميت كتبا مجازا , لا تربطها وحدة غالبا إلا بضرب من التمحل . والبقية الباقية من القليل هى التى يصح ان تسمى ادبا عربيا حديثا لم يكتمل . ذلك فى نظرى أكبر سبب فى انصراف جمهور المتعلمين عن الأدب العربي , فأن أريد اقبالهم عليه فلا بد من انتاج حديث وافر يغذى كل مشاعر الحياة كما يغذى العقول , وليس من الحق ان ندعو السواد الأعظم الي الأدب العربى قبل ان نستكمله
او على الاقل يوجد فيه ما يسد رمقهم ، وان أردنا الانصاف فواجب ان ندعو الدعوتين دعوة الأدباء فى العربية الى ان ينتجرا , ودعوة القراء الى ان يقرأوا .
وينجح الأدباء اذا اقتصروا على ان يحتذوا حذو القدماء شكلا وموضوعا دون ان بمسوا حياتهم الواقعية وبيئتهم الاجتماعية ومشاعرهم النفسية ؛ فالادب متغير , خاضع لقانون الشوء والارتقاء ، فاذا تقيد أدباؤنا بالموضوعات التى عالجها القدماء وبالأشكال التي صب فيها الأدب القديم , عد ادبهم قديما وحديثا , ولم يصلح علاجا لما نصف من امراض .
مثال ذلك : أنا إذا وضعنا أيدينا على مختارات البارودي، وهو كتاب ضخم فى أربعة أجزاء أختار فيها الثلاثين شاعرا من شعراء العصر العباسي، وجدناه قد أختار نحو أربعين ألف بيت، منها أكثر من أربعة وعشرين ألفا فى المديح، وإذا أضفت الهجاء والرثاء إلى المديح وجدت جميع ذلك يقرب من ثلاثين ألفا، والربع الباقي فى الأدب والصفات والزهد والنسيب! فترى من هذا إفراط الأدباء القدماء فى وصف العواطف الشخصية من كرم ورثاء وهجاء، وتقصيره فى أبواب كثيرة أهمها وصف المناظر الطبيعية، وتحليل الانفعالات النفسية، وغير ذلك من ضروب الأدب.
وهذا التقصير وقع فى الأدب الأوربي القديم كما وقع فى الأدب العربي، فلو قرأنا شعر هوميروس وفرجيل ودانتي وجدنا فيه قليلا من وصف جمال الطبيعة من جبال وبحار ونجوم، على حين، الشعر الأوربي الحديث قد مليء بهذا الضرب من القول وأبدع الشعراء فيه إبداعا لا حد له فأفاضوا فى القول فى السماء ونجومها، والأشجار وازدهارها وذبولها، والبحار والصحراء وغيرها، ووجدوا فى ذلك كله كنوزا استمدوا منها شعرهم، وكان تقصير القدماء وإجادة المحدثين فى ذلك قانونا طبيعيا لأن الإعجاب بجمال الطبيعة نتيجة رقي كبير فى الذوق، فإذا قصر أدباؤنا المحدثون فى هذا كما هو حادث الآن وتابعوا الأقدمين فى المديح والهجاء والغزل، فقط، فقد ظل نقص الأدب العربي على ما هو عليه.
كذلك يعيش الشرقي عيشة خاصة غير التى كان يعيشها آباؤه، سفرت المرأة بعد حجابها، وتغير فى العشرين سنة الأخيرة كل نظم الحياة تقريبا من معيشة بيتية ونظم اجتماعية، وحياة سياسية، وأصبح كل باب من هذه الأبواب يتطلب قصصا جديدا وشعرا جديدا وكتبا أدبية جديدة، فأن نظر أدباؤنا إلى دواوين الشعراء الأقدمين ولم ينظروا إلى دواوين الطبيعة وصحائف العالم الذى فيه يعيشون، فلا أمل فى شعرهم، ولا نثرهم وظل المتعلم
منصرفا عنهم إلى الأدب العربي على الرغم منهم. ونوع آخر من الأدب يصح أن يستغله الأدباء، وهو أن يعمدوا إلى الأدب القديم، وأبطال الشرق، والأحداث التاريخية العربية فيجعلوا منها موضوعا لدراستهم ثم يلقوا عليه أضواء مما وصل أليه العلم الحديث والأدب الحديث وعلم النفس الحديث، فيترجموه إلى لغة العصر ويبرزوه فى شكل يناسب ذوق الجمهور ويحبب إليهم قديمهم. أنهم إن فعلوا ذلك استطاع من لا يعرف لغة أجنبية أن يجد غذاءه فى الأدب العربي، واستطاع أن يكون إنسانا مثقفا تكفيه ثقافته، واستطاع من يعرف لغة أجنبية أن يباهي بأدب قومه كما تباهي كل أمة بأدبها، وفي ذلك اعتداد بشخصيتنا العربية الشرقية لا يستهان به
