الرجوع إلى البحثالذهاب لعدد هذه المقالة العدد 44الرجوع إلى "الرسالة"

التصوير فى الشعر العربى

Share

الوصف من أهم أغراض الشعر وأخص فنونه. وكلما كثر فى شعر لغة أو آثار شاعر، دل على رقيهما الفني، إذ أن مناظر الطبيعة  خاصة، وروائع المشاهدات عامة، من أشد العوامل تأثيراً فى النفس  الشاعرة وتحريكها لعاطفتها وبعثا لها إلى القول. والوصف فى الشعر العربي غزير يتناول شتى الموضوعات، ويبلغ فى يد كبار شعراء  العربية غاية الاجادة. فكثيرا ما تخلص شعراؤنا من قيود المدح  والرثاء والنسيب الاستهلالي - مهما كان تقيدهم بهذه الأغلال  الثقيلة التى كبلت الشعر العربي - وعرجوا على وصف أثر من آثار الطبيعة أو المدنية، فأبدعوا وأرضوا الفن، أضعاف ما أرضوه  بمبالغات المدح والرثاء والنسيب المدعى.

ولكن الذى أريد الاشارة إليه فى هذه الكلمة، أن أعتماد الوصف فى الشعر العربي كان دائما على المعنى دون اللفظ، على التشبيه والاستعارة والمجاز دون جرس الألفاظ وتتابع التراكيب  ووقع الاوزان والقوافي. بينما الشعر الوصفي الغربي أعتمد على هذه الأشياء الأخيرة أعتمادا كبيرا. فبلغ الغاية فى المطابقة بين المعنى واللفظ مطابقة تملأ الوصف حياة وجلاء. وتوفر بعض الشعراء على هذا الضرب من التصوير، ومنهم ملتون وتنيسون، ولا سيما  الثاني الذى  بلغ فى القدرة على تذليل اللفظ للمعنى واستخدامه فى تصوير ما يشاء حدا منقطع النظير. وأضحت آثار أولئك الشعراء

مهبط وحي لكبار المصورين يستلهمونها ما حوت من روائع  الاوصاف ومحكمات الصور ويسجلون ذلك على لوحاتهم.

إذا كان فى المنظر المراد تصويره حركة كجريان نهر أو عدو  جواد استخدم الشاعر الغربي بحرا من بحور الشعر يلائم تلك الحركة  ويحكيها. وإذا كان به صوت أو أصوات مختلفة كهدير أمواج البحر أو  قصف المدفع فى الحرب أختار من الألفاظ تلك التى تحتوي على حروف  خشنة قوية، وإذا كان يصف منظرا ساكنا وادعا لم يذكر ذلك فى  القصيدة ذكرا، وإنما أستعمل الألفاظ ذات الحروف اللينة كالسين  مثلا، وهناك عدا هذا وذاك ضروب شتى من الملاءمة بين الصيغة  والمعنى يفتن فيها الشاعر الوصاف ما شاء له أقتداره: ككثرة العطف وتكرار الحروف والكلمات والتراكيب والابيات الكاملة.

ولقد وقع شئ من ذلك فى بعض أشعار الوصف العربي،  ولكنه كان الهاما محضا أو أتفاقا عارضا ساقت الشاعر إليه المصادفة  السعيدة أو السليقة المجيدة، دون أن يعتمده أو يتكلف فى صوغه  عناء، ويقرأه القارئ العربي فيستطيبه ويعزو موقعه من نفسه إلى مجرد جودة معاينة وحسن تشبيهاته. ويجمل ذكر شئ من هذا للتمثيل والبيان:

ففي معلقته يصف أمرؤ القيس الليل فى بيته المشهور

فقلت له لما تمطى بصلبه     وأردف أعجازا وناء بكلكل

وفضلا عن جودة المعنى وحسن التشبيه فى هذا البيت يزيد الوزن والتركيب الوصف المراد ظهورا: فالبحر الطويل ذو الحركة الوئيدة وتكرار العطف بالواو يمثلان بطء مسير الليل ولجاجه فى  الاقامة وتماديه فى الطول خير تمثيل، وفي بيته الآخر حيث يصف  جواده بقوله:

مكر مفر مقبل مدبر معا     كجلمود صخر حطه السيل من عل

نرى تتابع الصفات بلا فاصل فى الشطر الأول، وأستعمال الألفاظ الضخمة الخشنة فى الشطر الثاني يمثلان توثب الجواد  وسرعة انطلاقه وارتداده ومفاجآت حركاته تمثيلا جيدا يصرف النظر عن تشبيه بأنحطاط الصخر من شاهق. وفي قول المتنبي:

أتوك يجرون الحديد كأنما     سروا بجياد مالهن قوائم

خميس بشرق الأرض والغرب زحفه

وفي أذن الجوزاء منه زمازم

نرى وصفا رائعا لجيش كثيف وئيد الزحف لكثافته،

وليس فى البيتين معنى كبير، وليس فيهما سوى مبالغة غير معقولة  ولكنه البحر الطويل يمثل هذه الحركة البطيئة أتم تمثيل، هذا  فضلا عن فخامة الألفاظ التى تخيرها الشاعر؛ ونرى البحر الطويل يؤدي مثل هذا الغرض ويرسم صورة أخرى رائعة فى قول جميل ولما قضينا من منى كل حاجة      ومسح بالاركان من هو ماسح أخذنا بأطراف الأحاديث بيننا     وسالت بأعناق المطى الأباطح فهنا حركة الأبل البطيئة واضحة ماثلة، وقد كان جميل ملهما  حيث ذكر كلمة أعناق فى البيت الثاني فأنها وحدها ترسم الصورة  التى أراد: فأن ذكر الجزء الأهم من الصورة، كثيراً ما يبعث إلى  المخيلة باقي الأجزاء ويبرز الصورة جليلة كاملة، ويترك البحر  الطويل مثل هذا الأثر أيضاً قول البارودي الذى أشار إليه  الدكتور صبري فى كتابه عن الشاعر:

- ونبهتا وقع الندى فى خميلة -

فإذا قرئ هذا الشطر بتأن وجدنا الوزن يمثل تساقط قطرات الندى متتابعة، أما الحركة السريعة فيمثلها البحر الكامل، ومن ذلك  قول المتنبي:

أقبلت تبسم والجياد عوابس     يخببن بالحلق المضاعف والقنا

عقدت سنابكها عليها عشيرا    لو تبتغي عنقا عليه لا مكنا

ففي البيت الثاني نرى مبالغة أخرى من مبالغات المتنبي، وهي  لا تكاد تؤدي معنى، ولكن البحر الذى صيغت فيه القصيدة  يؤدي خبب الجياد خير أداء، حتى ليكاد يريك توثب الفرسان  فوق ظهورها، ولو حاول الشاعر وصف الخبب فى البحر الطويل لما استقامت صورته

ولتكرار الألفاظ أو التعبيرات أحيانا أثر بليغ فى أبراز  الصور وبعث الأخيلة. ففي قول ابن هانئ الأندلسي :

وفوارس لا الهضب يوم مغارها     هضب ولا الوعر الحزون حزون

يوحى تكرار كلمتي هضب وحزون إلى المخيلة تتابع الهضاب والربى أثناء عدو الفرس، فكأنه يعرض أمام العين شريطا سينمائيا  متحركا، أضف إلى ذلك صوغ البيت فى البحر الكامل وأختيار  الكلمات الفخمة، وفي قول الأستاذ المازني :

لغط اليم إذا اليم طما     وألتقت فيه هضاب بهضاب

ترى صورة رائعة لجيشان اليم، ولا يرجع هذا إلى معنى البيت وحده، ولكن إلى وزنه وألفاظه كذاك: فبحر الرمل يمثل الحركة المتضاربة أدق تمثيل. وتكرار كلمتي اليم وهضاب يوحي إلى المخيلة

تتابع اللجج، وتكرار حرف الهاء ثلاث مرات فى الشطر الثاني  يزيد الحركة تصويرا وبروزا

كان ذلك فى  الغالب كما ذكرت محض أتفاق أو ألهام، ولم يقم  فى العربية فرد أو مدرسة تتوفر على هذا الضرب من النظم والتصوير وإنما حين اتجه نظر الشعراء إلى اللفظ صادف ذلك عصر انحلال  الأدب فلم يسخروا اللفظ لابراز المعنى، بل صرفوا كل همهم إلى  اللفظ دون المعنى، وولعوا بالألاعيب اللفظية التى سموها محسنات،  وأوغلوا هذه الغثاثات على أجل فنون الشعر خطرا كالرثاء والنسيب فأسفت وانعدم فيها الحس والشعور؛ فرأينا شاعرا ينسب فيقول

ناظراه فيما جنى ناظراه     أو دعاني أمت بما أودعاني

وآخر يتوجع فيقول :

لي مهجة فى النازعات وعبرة     فى المرسلات وفكرة فى هل أتى

وثالثا يمدح فيقول :

وأن أقر على رق أنامله     أقر بالرق كتاب الأنام له

وليس فى كل هذا التعبير عن شعور أو أداء غرض، وما هو  إلا عبث بالألفاظ واقتناص للجناس والطباق والسجع والتورية،  وإنما أكثرت من هذه الأمثلة الغثة لأوضح كم كان الشعر العربي يربح لو أن المجهودات التى صرفت فى مثل هذا التحايل العقيم وجهت إلى تسخير اللفظ للمعنى، والاستعانة بهما معا على أبراز الوصف  المقصود كما يصنع شعراء الغرب

وليس فى طبيعة اللغة العربية قصور يحول بينها وبين مجاراة اللغات الأخرى فى هذا الباب، بل لها من الميزات ما يقدمها على غيرها: فهي كثيرة البحور التى تؤدي كل منها غرضا مختلفا، غزيرة  الألفاظ الوعرة الضخمة والرقيقة اللطيفة التى توحي بخشونتها أو رقتها مختلف الصفات، غنية بالحروف السلسة اللينة والحروف  الخشنة الجافية التى تطاوع الناظم القدير. ليس يعوز العربية شئ من ذلك وإنما يعوزها الجرأة من الناظمين بها والعزم والجلد.

اشترك في نشرتنا البريدية