مازال التعليم العالي للنساء فى مصر وليدا فى المهد، ولم تتهيأ أغلبية العقول بعد للإقلاع عن المبدأ القديم الذى يقول إن المرأة لم تخلق إلا للدار وإنجاب الأطفال ويكفيها لقضاء مهمتها الخاصة أقل قسط من التعليم. وتحت تأثير هذا الزعم كان قبول الفتيات بالجامعة المصرية سنة ١٩٢٨ بطريق الاحتيال والتآمر كما ذكر أحد رجالات التعليم فى مصر فى حفلة تكريم أولى خريجات الجامعات بدار الاتحاد النسائى فى الشهر الماضى. والواقع، ما زال التعليم العالى للنساء فى بلادنا نبتا يخشى عليه من تقلبات الجو السياسى وزوابع الآراء الرجعية بالرغم من ان النساء فى البلاد الأوربية الراقية التى تحذو مصر حذوها فى كثير من نواحى حضارتها، قد حصلن على هذا الحق منذ أكثر من ثمانين عاما.
ولما يخامر النفس من شكوك ومخاوف، على مستقبل التعليم العالى للمرأة المصرية، رأينا أن نتأهب للدفاع، بعرض قضية المرأة اليوم على بساط البحث بادئين ببيان الغرض من التعليم العالى ثم ما يترتب عليه من نتائج بالنسبة للمرأة والمجتمع
يمتاز التعليم العالى والصحيح الذى يتحرر فيها الطالب من كل القيد بكونه يهيئ مجالا واسعا لتكوين الشخصية ولإظهار المواهب بما إن من أول شروطه البحث المستقل والاطلاع الواسع والاعتماد على النفس فى تكوين الآراء والوصول إلى النتائج تدعمها الحجج القوية والبرأهين. كما أن من مزايا هذا التعلم أيضا فيما لو سار على أسسه الصحيح، الاتصال بالمجتمع ودراسة أزمانه وظواهره المختلفة من سياسية واقتصادية وتدريب النشء على أعمال الجماعات والقيادة بان يشتركوا فى تكوين الجمعيات الصغير للبحوث والألعاب والأغراض المختلفة التى تنشأ فى ظل الجامعة. وبهذه الطريقة يعتادون العمل المشترك والتعاون وتضعف فيهم النزعات الأنانية. وبذلك يصبحون أعضاء نافعين للمجتمع والإنسانية.
والمرأة أحوج ما تكون إلى مثل هذا التعليم الذى يتضمن كل هذه المزايا فلها عقل كعقل الرجل هو الفارق بينهما وبين الحيوانات غذاؤه الطبيعى العلوم ونموه وصقله فى استغلالها واستثمارها وبما أن المرأة انسان فلا يصح أن تمنعها الأمومة أو الحياة المنزلية من ان تستكمل أول مميزات الإنسان
بان تستمتع بالتعليم العالي الوافى الطليق .. ثم إن المرأة فى حاجة أعظم من حاجة الرجل إلى الناحية الاجتماعية من هذا التعليم فهى بسب انزوائها الطويل فى عقر دارها وحرمانها من الاختلاط الحر وتناول الآراء قد عجزت عن تنمية الصفات الاجتماعية فى نفسها. تلك الصفات التى يمتاز بها الرجل المثقف وهى الميل. إلى الأعمال المشتركة، وسعة الصدر فى المناقشة والتفكير المتواصل الرصين ولو تحلت المرأة بتلك الصفات فوق ما تمتاز به من حنان ورقة لارتفع ولا شك مستوى المجتمع. لهنأت الحيات المنزلية. وتلك الصفات يمهد السبيل لا كتسابها التعليم العالى أو الجامعة، ففي أثناء هذا التعليم تختلط المرأة بأناس مختلفى الطباع والنزعات، متنوعي الأفكار والمذاهب، فيداوى ما بها من نقص ونظرة محددة متأثرة بالمرغبات الشخصية إلى الأمور . . والواقع إن الحياة الاجتماعية فى الجامعة لا تقل أهمية عن الحياة العلمية بما أنها تعد الطلاب
للحياة العملية الراقية ولذلك اهتمت بها كل الاهتمام الجامعات العريقة مثل اكسفورد وكمبردج اللتين أخرجتا للعالم مهرة الساسة والمصلحين .. وقد يعترض معترض: وما شأن المرأة بهذه الأمور وهي لا ينتظر أن تكون من الأحكام أو الساسة الماهرين؟ حقا إن المستقبل القريب لا يبشر بمثل هذا التقدم وان كنا لا نيأس من حصوله فى وقت ما بلادنا أسوة بالبلاد الأخرى المتمدينة ولكن الفتاة المصرية كما بينا تفتقر إلى الصفات الاجتماعية وفوق ذلك تعدها الحياة الجامعية الصحيحة لأن تقوم بنصيبها فى ميدان الإصلاح وليس هنالك من يجهل نواحى النقص الكثيرة فى بلادنا وقد جمع أحد مفكرى الأمريكان الغرض من التعلم العالى للجنسين
فى قوله: (إن من يصرح بان الثقافة وتحرير المواهب الفردية هما غرض التعليم الاعلى، لا يذكر فى الواقع غير نصف الحقيقة فالتعليم يكون ناقصا مبتوراً إذا استمر منفصلا عن معالجة الشؤون الاجتماعية) فهل بعد ذلك تحرم المرأة من التعليم العالى الذى ينمى مداركها ويجعلها أداة نافعة لإصلاح المجتمع خصوصا وأنها مطبوعة على التضحية، شديدة الحساسية، تؤثر فيها أثيرا بليغا مظاهر الشكوى والألم؟
تلك هى أغراض التعليم العالى ولم يبق إلا أن نذكر شيئا عن بعض نتائجه التى يتخذها أنصار التردد والهزيمة حجة ضد التعليم العالي للنساء: فهم يقولون مثلا: أو ليس من نتائج التعليم العالى
للفتيات إذا صدقت الإحصائيات أن أكثر من ٥٠ فى المائة من المتعلمات تعليما عاليا فى أوروبا وأمريكا يحجمن عن الزواج ويفضلن حياة الإنتاج والكسب والاستقلال على الحياة المنزلية التى لا تهئ لهن الميدان الكافى لاستثمار معلوماتهن بالذات فيقل عدد النسل ويضمحل إذ تترك تلك العملية الهامة لأغلبية من غير المتعلمات؟ ثم ألا تصبح أولئك المتمردات على الحياة البيتية عامل خطراً من عوامل الأزمات الاقتصادية إذ ينافسن الرجال فى ميادين الأعمال فيزداد عدد العاطلين والمعوزين من الأسر؟
إن مجرد النظر السطحى إلى مثل هذه الاعتراضات يظهر المرأة بمظهر الخارج على القوانين الطبيعية العامل على فناء النوع الإنسانى ومضاعفة أخطار الأزمة الاقتصادية. ولكن الموضوع أخطر من أن نكتفي بالنظر السطحي إليه. لنسلم جدلا بان اكثر من ٥٠ فى المأئة من خريجات الجامعات يحجمن عن الزواج عندما يجدن لذة كافية فى الأمور العلمية واستثمار تعليمهن العالى. ولكن تسليمنا بذلك ما هو إلا تسليم بجانب من الحقيقة فقط، ويجب أن نذكر إنصافا للمرأة وإقراراً للحق أن المرأة التى لا تتزوج تخدم المجتمع فى الغالب بطريق مباشر، طريق الإنتاج والعمل وإصلاح المساوئ الاجتماعية فعمل المرأة البيولوجى لا يصل وحده بالمجتمع إلى الرقى والرخاء وإنما الإنسانية بحاجة إلى مجهودها الموفق واستقلال مواهبها خارج المنزل كما هى بحاجة إلى عملها الخاص داخله. أما ما يقال عن نتاج من يتزوجن من المتعلمات تعليما عاليا وان كن الأقلية فهو أن العبرة بالنوع لا بالعدد، وبالكيف لا بالكم. فلو لم تتعلم النساء هذا التعليم لكنا حقا اكتسبنا زيادة فى عدد الأطفال، ولكنا من ناحية أخرى كنا نفقد الإضافة إلى الإنتاج العقلى والثروة المعنوية، والأطفال الممتازين الذين لا ينجبهم غير ألامهات المتعلمات تعليما عاليا.
أما المشكلة الأخرى وهى زيادة مزاحمة المرأة للرجل فيما لو تعلمت تعليما عاليا فيكفى أن نقول لهدم هذا الاعتراض انه ناتج عن أنانية الرجل فلو لم يكن الرجل أنانيا حقا لما عمل تضحية المزايا المعنوية التى تترتب على تعليم المرأة تعليما عاليا فى سبيل الاستئثار بالمزايا المادية بأبعاد المرأة عن ميدان العمل بل هو قد يقدم على أكثر من ذلك فيعمل على أن يحرمها متعة التعليم العالى واللذة الروحية حتى يضمن عدم منافستها المادية فى أحد الأيام. إن مثل هذا الاعتراض لا يتفق مع شهامة الرجولة ولا مع إقدام الرجل.
وبالاجمال تبدو اعتراضات المتخوفين من تعليم النساء تعليما عاليا واهية لانها تنافى اصول المنطق والعدل والشهامة وما هى فى صميمها إلا نتيجة للانانية او الازمات الاقتصادية التى تجعل الناس يفتشون عن المرأة دائما شأنهم فى كل شئ فيعلمون على ارجاعهم الى عقر الدار ناسين او متناسين ماطرأ على العالم من تطورات فكرية واجتماعية واقتصادية خطيرة غيرت من وظيفة المرأة فجعلتها لا تقتصر على المنزل وتربية الاطفال وانما تشمل أيضا استخدام مواهبها خارج الدار أو فى قلب المجتمع وذلك هو العهد الجديد والتعليم العالى هو الذي يهئ المرأة لهذا العهد الذى أصبح امرا واقعا فيجب ان نعترف به مختارين أو مرغمين
