الرجوع إلى البحثالذهاب لعدد هذه المقالة العدد 80الرجوع إلى "الرسالة"

الثورة على الاسلام، حرب منظمة، يشهرها الكماليون على الاسلام

Share

تشهر تركيا الكمالية على الأسلام حرباً لا روية فيها ولا هوادة؛  وقد رفع الزعماء الكماليون اليوم القناع كاملاً بعد أن رفعوا من قبل  طرفاً منه، وظهرت سياستهم نحو الاسلام في ثوبها الحقيقي؛  ودخلت هذه الحرب المنظمة التي يشهرونها على الاسلام في  طورها الايجابي بعد أن كانت تقف عند ورها السلبي؛ وقد  اتخذت هذه الحرب منذ البداية وما زالت تتخذ ثوب   (المدينة  والتمدين)  أعني تحرير تركيا من كل طابع ولون ديني، وصبغها في  كل مظاهرها الرسمية والعامة بالصبغة المدنية. ولو وقفت سياسة  انقرة حقاً عند هذه الغاية لما كان ثمة مجال لريب في صدق نياتها؛  فان الاسلام، كالنصرانية، لايحول دون اصطباغ الدولة بالصبغة  المدنية المحضة؛ وأمم أوربا النصرانية التي تقلدها وتتشبه بها  تريا الجمهورية - إذا استثنيا روسيا البلشفية - لا تجد أية  غضاضة في ولائها للنصرانية، وإن كات أشد وأعرق   (مدينة)   من تركيا الجمهورية، ولم تذهب أية دولة أوربية - سوى روسيا  البلشفية - في مطاردة الدين الى الحد الذي تذهب اليه حدكومة  أنقرة؛ وحكومة أنقرة لاتطارد العقيدة الدينية لذاتها، ولكنها  تطارد الاسلام، وكل ما يمت اليه بنوع خاص؛ وإذا كانت  تطارد اللغة العربية وكل مظاهرها في الكلام والكتابة، فليس  ذلك لتحرير اللغة التركية من العناصر الاجنبية فقط، ولن لأن  اللغة العربية هي قبل كل شيء لغة القرآن، ولغة الاسلام الاولى

وقد بدأت الثورة المالية على الاسلام منذ قيام الجمهورية  التركية ذاتها، أعني منذ نحو عشرة أعوام، وكانت غب مرحاتها الاولى  تتخذ صورة الاصلاح الديني أو المدني، وكانت سلبية لا تسفر عن  نزعتها الهدامة؛ ولم يكن في خطواتها الأولى مثل إلغاء الخلافة،  وجل الجماعات الدينية والصوفية، وفرض الثياب المدنية والقبعة،

ما يثير الأذهان المسلمة المستنيرة؛ فقد كانت جميعاً تتبع جهود  تركيا الجديدة في سبيل التجديد القومي والاجتماعي بمنتهى  الاعجاب والعطف؛ ولم يك ثمة ما يحمل على الاعتقاد بأن هذه  النزعة الاصلاحية في ظاهرها ستتحول غير بعيد الى نزعة إلحادية  بعيدة المدى، والى فورة تعصب على الاسلام تقصد الى الهدم  المطلق. ولكن حكومة أنقرة لم تقف في مخاصمة الاسلام عند  حد؛ وانت خطوات جدبدة ظاهرة المغزى في سبيل محو معالمة:  إلغاء النص الذي أدرج في دستور المجهورية الاول بأن تركيا دولة  مسلمة، وإباحة القانون المدني التركي الجيد زواج النصراني من  المسلمة، ثم تحريم الأذان وتلاوة القرآن في المساجد بالعربية؛ ولم  يك ثمة حتى في هذه الرحلة ما يثير كبير شك في نيات حكومة  أنقرة وخصومتها المضطرمة للأسلام وعقائده وذكرياته ومظاهره؛  وكانت كلمات الاندافع والتطرف والأغراق تتردد من جانب  أولئك الذين مازالوا يحسنون الظن بأنقرة ويعطفون على جهودها  وأمانيها. ولكن الكماليين لم يلبثوا أن رفعوا القناع بعد ذلك؛

وانتدبت حكومة أنقرة لجنة لاصلاح العبادات ومظاهرها    (سنة ١٩٢٨)  وأذيع يومئذ أن الجنة ترى أن تكون الصلاة  في المساجد، كالصلاة في الكنئس، وأنه لا بأس أن يؤدي  المؤمنون صلاتهم وقوفاً أو جلوساً على المقاعد، وأن تطربهم  الموسيقى، وأن تعوف لهم الادعية والنصوص كما تعزف   (آفي  ماريا)  أو   (باترنوستر) ، وأن تكون صلاة المسلمين على العموم  في مظاهرها كقداس النصارى، وكان لأذاعة هذه الاقتراحات  وقع عميق في الأي العام التركي ذته؛ ولما رأت أنقرة أنها تذهب  بعيداً بهذه الاقتراحات أنكرتها وكذبتها، وحملت تبعاتها  للجنة التي وضعتها؛ أما الرأي العام الاسلامي فما ان ليدهشه  شيء بعد من تصرفات الكماليين، ومع ذلك فقد وقف مدى  لحظة ذاهلاً أمام هذا الاجتراء الآثم، يلمس النزعة الهدامة التي  تماي على عصبة أنقرة سياستها نحو الاسلام وكل تراثه

ثم كانت حركة أنقرة ضد اللغة العربية والكتابة العربية؛  واتخذت هذه الحركة كسابقاتها ثوب الاصلاح والتجديد القومي؛  وقيل إن كتابة التركية باللاتينية بدلاً من العربية وسيلة إلى  ذيوعها وتحريرها من ثوبها العتيق، وإت اللغة التركية غنية

بأصولها وموادها القومية فهى ليست بحاجة إلى العربية تشتق منها وتستعين بها ؛ وإذا فيجب ان محرر من جميع الألفاظ العربية الدخيلة ؛ ووضعت الفكرة موضع التنفيذ بسرعة , فالغيت الكتابة العربية , واستحملت الكتابة اللاتينية بقوة التشريع ؛ وسارت الحركة لنق الألفاظ والأصول العربية بسرعة , واتخذت أحيانا بعض المظاهر المغرقة , فقد حدث مثلا أن أستاذا بالجامعة التركية خطب فىالمؤتمر الذى عقد منذ أشهر لهذا الغرض فنوه بأهمية استمرار التعاون والعلائق ٠ بين التركية والعربية , فغضب الغازى مصطفى كمال - وكان من شهود المؤتمر - وغادر المؤتمر

في الحال، وفي اليوم التالي عوقب الأسناد بالعزل والحرمان؛ وفي  الجلسة التالية صفق الغازي لأستاذ آخر ذكر في خطابه أن اللغة  العربية لغة دخيلة، وأن التركية أعرق أصولاً من العربية ولها  عليها فضل الاعارة والاشتقاق؛ ومع ذلك فان اللغة التركية، رغم  هذه الحهود والمناظر الحماسية، التي تعرب عن الحقد والتعصب  والجهل، بأكثر مما تعرب عن رغبة الاصلاح الحقيق، لم  تستطع أن تستغني بنفسها، وما زالت تستعير - طبقاً لقرارات  الرسمبة - ن بعض اللغات الاوربية لتسد ما بها من نقص  وثغرات. ولم تكن الحركة إصلاح خالص، بل إن لها كما

  قدمنا مظهراً آخر غير مظهرها الاصلاحي؛ فاللغة العربية هي لغة  القرآن، ولغة الاسلام الاولى؛ ولما كانت حكومة أنقرة تعمل  على مطاردة الاسلام وكل مظاهره بكل ما وسعت، فيحب أيضاً  أن يختفي هذا المظهر؛ ثم يجب أن تختفي الأسماء العربية - وهو  مظهر آخر لهذه الحركة - حتى يكون الانقلاب تاماً، وحتى  لايبدو في أفق تركيا الكمالية، بمض الزمن ما يثير ذكرى  العربية والاسلام

وفد حملت اليا البرقيات الاخيرة نبأ جديداً، هو أن حكومة  أنقرة قررت أن تعمل لأزالة منارات المسجد، وا، ها ستبدأ بازالة  المنارات العتيقة وتقيم في مساجدها مصانه، فاذا صح هذا النبأ  فانه يكون دليلاً جديداً على أن هذه الجهود المتوالية التي تبذلها  حكومة أنقرة لمحو معالم الاسلام في سائر مظاهره الشخصية  والعامىة إنما هي سياسة مقررة متصلة الحلقات

والآن لنحاول أن نتعرف أسباب هذه الحرب المضطرمة  التي يشهرها الكماليون على الاسلام؛ ولنلاحظ اولاً أن تركيا  المجهورية تحذو في تلك الحرب اللادئنينة المنظمة حذو روسيا  البلشفية، وهي الدولة الغربية اوحيدة التي تش ر الحرب على  النصرانية وتطارد كل مظاهرها. ولم يقع هذا الشبه عرضاً  بين الدولتين اللدينيتين؛ ولكنه يقوم على نفس المباديء ونفس  الروح الثورية والادينية المشتركة؛ وقد كانت رةسيا البلشفية  أكبر عضد للكماليين في حرب التحرير التركية وفي العمل على  بعث تركيا المحتضرة، ولا نبالغ إذا قلنا إن تركيا الجمهورية مدينة

بحياتها للبلاشفة. ولم يبذل البلاشفة هذا العون للكماليين حباً  بتركيا، ولكنه كان قطة من برنامجهم في محاربة الاستعمار  البريطاني، وقد كان غزو اليونان لتركيا مشروعاً بريطانياً تعاونه  بريطانيا وتحميه، وكان عون البلاشفة للكماليين بكل الوسائل  المادية والمعنوية منذ قيام الحرب التركية اليونانية حتى عقد  معاهدة لوزان فصلاً من فصول الصراع بين البلشفة والاستعمار  البريطاني؛ وكان طبيعياأ أن يكون لوحي موسكو ونفوذها أكبر  الأثر في توجيه حكومة أنقرة، وأن توثق المصالح المشتركة بين  روسيا البلشفية وتركيا الكمالية؛ وأشد ما يبدو وحي موسكو

في ناحيتين: سياسة تركيا الخارجية، فهي قطعة لا تتجزأ من  برنامج السياسة البلشفية، تردد فيها تركيا خطوات موسكو في  كل شيء: في السياسة الشرقية والسياسة الاوربية، وفي مخاصمة  عصبة الامم ثم الألتحاق بها   (على أثر التحاق روسيا) ؛ وروسيا  تشد بأزر تركيا في كل مظاهر دولية؛ وتركيا تؤيد روسيا في  مواقفها نحو الدول الغربية، وتركيا تعرف أنها مدينة بحياتها  لروسيا، وان هذه الحياة تتوقف على ارادة روسيا، فهي لاتستطيع

 أن تحيد عن برنامج السياسة الروسية؛ وثانياً - في الناحية  الثورية، فحكومة أنقرة ما زالت حكومة ثورية على مثل حكومة  موسكو، هي تحذو حذوها في تطبيق مباديء الهدم والاباحة  الى أبعد الحدود؛ واذا استثنينا الناحية الاقتصادية، أعني تطبيق  الفكرة الشيوعية التي يرى الكماليون بحق أن تركيا ليست  ميداناً صالحاً لتجربتها، كانت الثورة الكمالية الاجتماعية والدينية  صورة من الثورة اليلشفية في هذه الميادين؛ وكما أن النزعة

الالحادية تسود الثورة البلشفية، فكذلك الثورة الكمالية تسودها  هذه النزعة؛ واذاً فان هذا الألحاد الذي يطبع كل تصرفات  الكماليين، وهذه الاباحة التي يغرقون فيها، وهذه الحرب  اللادينية المستعمرة التي يشهرونها ترجع في كثير من وجوهها  الى غرس أساتذتهم ومدربيهم سدة موسكو؛ على أن الفكرة  الثورية والالحادية ليست كل شيء في سياسة الكماليين، فهنالك  بواعث أخرى تحفزهم الى هذه البغضاء المتأججة نحو الاسلام.  ذلك أن الكماليين يرون أن الاسلام كان سبباً في كل ما أصاب  تركيا القديمة من المحن التي أودت بسلطانها وقوتها، وأن صفتها  الاسلامية هي التي أثارت الدول الغربية ضدها خلال العصور

المختلفة وجمعت كلمتها على محاربتها ومقاومتها، وأنها لولا هذه  الخصومة التي أثارها الاسلام في نفوس الأمم الغربية لبقيت دولة  قوية ولم تبدد قواها في حروب ومعارك خالدة؛ ولهذا يمعن  الكماليون في ثورتهم ضد الاسلام ويزعمون أن تركيا تستطيع  بذلك أن تنزع تاريخها وماضيها وصفتها الأسيوية، وان تدخل  بذلك في عداد الدول الغربية

وقد كان الاسلام حقاً من العوامل التي أثارت أوربا  النصرانية وجمعت كلمتها ضد الدولة العثمانية في أحيان كثيرة،  ولكنه لم يكن بهذا الاعتبار مسؤلاً عما أصاب الدولة العثمانية  من المحن وضروب الانحلال والتفكك بقدر ما تسئل عنه السياسة  الغاشمة والأساليب الهمجية المخربة التي سارت عليها هذه الدولة  طوال عصور تارخها، وعجز الترك المطبق عن أن يكونوا عاملاً  من عوامل الأنشاء في صرح الحضارة الحديثة. هذا، ومن جهة  أخرى، فقد لقي الاسلام على يد الدولة العثمانية الذاهبة أعظم

نكبة نزلت به في العصر الحديث، ولقيت الحضارة الاسلامية  الزاهرة في مصر والأمم العربية مصرعها على يد هذا الغزو الوندلي  الذي لبثت  الفتوحات التركية سواء في الشرق أو الغرب سوى  فورات مخربة تحمل وراءها الويل والدمار أينما حلت؛ وعلى ضوء  هذه الحقائق وحدها يجب أن يرجع الكماليون عوامل انحلال  تركيا الذاهبة

ومهما يكن من أمر البواعث التي تحفز الكماليين الى هذه  الخصومة المضطرمة نحو الاسلام، فان الاسلام أقوى وأرسخ من  أن يتأثر بمثل هذه الفورات العصيبة الطارئة؛ وقد صمد الاسلام  وما زال يصمد لخصومة الغرب كله مه ما يحشده الغرب لغزوه  من العوامل والوسائل الخطرة. ذلك أن الاسلام قوي بعقائده  ومبادئه وخلاله المستنيرة، قوي بتسامح الخالد، قوي بتراثه  المجيد. ولن يضير الاسلام أن تسقط من عداده تركيا الكمالية؛

واذا كان الاسلام لم يعتز قط بتركيا يوم كانت دولة قوية شامخة،  فكيف يحاول اليوم أن يعتز بهذه البقية الضئيلة من تركيا  القديمة؟ على أن هناك حقيقة يجب أن يذكرها الكماليون، وهو  أن تركيا عاشت في العصر الاخير على تراث الاسلام؛ وقد كان  نفوذ الاسلام المعنوي عاملاً قوياً في بعثها الجديد، وفي تطور  السياسة الأوربية نحوها، وإقالتها من الفناء الذي كان مضياً به  عليها. أما اليوم فان العالم الاسلامي الذي كان بالأمس يحبو تركيا  بعطفه وتأييده المعنوي - والمادي في أحيان كثيرة - لايهمه  اليوم شيء من أمر تركيا الكمالية ومصايرها، ومن المحقق أنه  سيقف وقفة المتفرج يوم تدلهم الخطوب، وتعود المعارك القديمة  الى الاضطرام

اشترك في نشرتنا البريدية