الرجوع إلى البحثالذهاب لعدد هذه المقالة العدد الثلاثونالرجوع إلى "الرسالة"

الحرص على الحياة

Share

لكم تساءل الإنسان عن هذه الحياة ومعناها، ومبدأها ومنتهاها، ولكم  أجهد نفسه بلا جدوى للحصول على جواب مقنع تسكن إليه نفسه  الكليمة من أحاجي هذا الكون. وهو بين الأزل والأبد يمر فى  هذه  الحياة الدنيا كأسرع من إيماضة كهربائية تطوي الأرض فى  أقل من ثانية!.

ما هى  هذه الحياة الكامنة فى  جنين بزور النبات، وكيف تحتفظ بعض البزور المجففة بخاصة (الانتاش) عشرات من السنين، حتىإذا زرعت وابتلت دبت فى ها الحياة فضربت (نتشها) عن الأرض وأبرزت سداها فوق التراب يتلمس الشمس والهواء وهو أحرص على الحياة من الشيخ الفاني والهم البالي. وراقب جذور هذه النبتة كيف تخترق ذرات التراب وتتغلغل فى ها سعيا وراء الماء اللاصق بها حيث تجد غذاءها مذابا صالحا لامتصاص. والغريب أنك كيفما أدرت ذلك الماء دارت الجذور معه وسعت إليه كأنها تدرك أن لا حياة لها إلا به. وإذا ما وضعت حاجزا معدنيا بينها وبين ذرات التراب المبتلة دارت حوله حتى تتخطاه، وان أعياها الأمر أرزت حوامض تذيبه، حتى إذا ثقبته دخلت فى  الثقب كما يفعل الكماة عندما يخرقون سور المدينة الحصينة، ويدخلون من الخرق فى ستولون عليها وينعمون بها.

وانظر إلى الأزهار الموضوعة فى  نافذة غرفتك كيف تميل إلى الخارج تستقبل الضياء حتى لكأنها تفر من الظلام إلى النور. والحظ الأشجار المغروسة بجانب أحد الجدران كيف تبتعد عنه بأغصانها النوامي فتبدو عريانة فى ما يليه كان قضبانها اللدنة لا تلتذ برغد العيش إلا حيث يتماوج النور ويتلاعب الهواء. وهذه زهرة تدور مع الشمس من مبزغها إلى مغربها حتى سموها عبادة الشمس. وتلك ورقة مركبة تفتح وريقاتها فى  النهار وتضمها فى الليل مرتقبة شروق الشمس فى  اليوم التالي وهي أحرص ما تكون على الانتفاع من شعاعها المتناثر. واعجب لتلك النبتة الحساسة التى يسمونها (مستحية) ، وخجولة إذ تنطبق أوراقها عندما يمسها الإنسان، وتنكمش أغصانها وتتدانى كأنها تشعر بالخطر المحدق

بها فتبتعد عنه، وكأنها تستعد لمغالبة ذاك الذى جاء ينتزع منها الحياة. وأغرب منها قواتل الحشرات التى تنطبق أزهارها على الذباب فتميته وتعصره وتغتذي بعصارته بعد أن تحتال عليه بشتى الحيل لئلا يفلت منها فى فوتها رزقها وتفوتها الحياة.

أما الحشرات فلها أفانين وأعاجيب فى  التشبث بالحياة والتعلق بها ولا سيما بواسطة أنسالها. والذي يتاح له أن يربي مثلي بعض أنواعها ويتابع سير حياتها بالمجهر أو بالعين أو بالعدسات يذهل من أساليب التلاقح والتسافد بين الذكر والأنثى ومن ضروب الحيل والقسوة التى ربما أدت بأحدهما إلى الهلاك فى  سبيل حفظ النسل وضمانة بقاء النوع حيا. وما من أحد إلا وله معرفة بخلية النحل ويعسو بها، وقرية النمل وأنابيرها، وخيوط العناكب ومصايدها، دع الحيوانات العليا وما تفتقه قرائحها من ضروب الحيل إما فى  اتقاء عدو أو تلمس قوت أو إخلاف نسل. والنتيجة فى  كل ذلك واحدة وهي بقاء أنواع ببقاء الحياة فيه.

لكن ابن آدم الذى سمت مداركه، كيف تلذ له الحياة على ما فى ها من شرور وآثام وآلام مبرحة، ولماذا ترتعد فرائصه من الموت، ويقف شعره لشدة فزعه منه؛ وما هذه الشهوة الشديدة التى تدفعه إلى الأنسال، وتلك العاطفة الغريزية التى تجشمه أشد المتاعب وأضناها فى  تربية الأبناء وإعدادهم للحياة. تخر كل هذه الأسئلة فى  خاطر الإنسان فلا يحير لها جوابا لأنه لا يفقه شيئا عن ماهية الحياة ولا عن الغاية نمها. وإذا بأصحاب مذهب العدم أي العدميين ينتصبون قائلين: أما والحياة ليست سوى مجموعة من الآلام التى لا حد لها ولا نهاية، فما علينا إلا أن نقضي عليها بقتل كل حي على هذه الكرة الأرضية الحمقاء. فى ضحك العالم من هذا الرأي ويجيب: هبوا الناس قبلوا رأيكم هذا وعملوا به، فماذا يحصل بعد أن تفقد الحياة على هذه الكرة؟ هل تظل الأرض خالية من الأحياء، تدور أن يدرك أحد دورانها، ويتعاقب الليل والنهار دون أن يحص أحد تعاقبهما؟ هذا ما لا يقبله العقل السليم. والراجح أن العلة التى أوجدت الحياة ستعيدها سيرتها الأولى مهما تعددت آراء الصحاب الأديان والمذاهب والفلسفات المختلفة والعقائد المناقضة والعلوم الحياتية المحدودة فى  تفسير هذه العلة

وفي تحديد ماهيتها. وعندئذ تعود الحياة إلى ما كانت عليهن ويعود الأحياء إلى التكاثر والتنوع والتناحر والتفاني وتكون نتيجة العمل برأي العدميين وقف الحياة بضعة ملايين من السنين، وهي بعد لا تعد شيئا مذكورا فى  هذه الدهور الأبدية، والكائنات السرمدية.مسكين أنت أنها الإنسان! ما أشقاك بهذه الحياة! عقل قاصر وجد عاثر، وإدراك بسيط، وحواس محدودة. تأتي إلى هذه الحياة وأنفك راغم، فتعيش بأوهامك وأخيلتك الشعرية التى لا ظل للحقيقة فى ها، ثم تجالد وتكافح وتتألم وتشقى وتتوهم السعادة أحيانا، لكنك سرعان ما تهلك مقهورا مدحورا، فلئن كانت لك أمنية فى  حياتك هذه فأجلها أن يسمو العقل البشري حتى يصير قادرا على اكتناه أحاجي هذا الكون الغامضة.

اشترك في نشرتنا البريدية