لم يكن أثر الثورة الوطنية الاشتراكية الألمانية فى سياسة ألمانيا الخارجية أقل منه فى شئونها الداخلية. ولكن الثورة الوطنية كانت فى ميدان السياسة الخارجية أكثر توفيقا، لأنها الفت الميدان عند قيامها ممهدا صالحا للعمل القوي الجرئ، ولأن الشعب الألماني يرى المسألة الخارجية مسألة قومية محضة ويؤيد الثورة الوطنية فيها تأييدا قويا صادقا، على أن هذا التوفيق الذى لقيته الوطنية الاشتراكية فى بعض نواحى السياسة الخارجية كان مقرونا من جهة أخرى بتطورات ونتائج لم تكن صالحة ألمانيا، ولكنها كانت نتيجة لما أبدته الوطنية الاشتراكية في وسائلها من ضروب العنف والاندفاع.
تولى الوطنيين الاشتراكيون الحكم وألمانيا ما زالت من الوجهة الدولية فى المركز الذى وضعت فيه بمقتضى معاهدة الصلح (معاهدة فرساى) وهو مركز لا يجعلها على قدم المساواة مع باقي الدول
العظمى من حيث الحرية فى تدبير وسائل الدفاع عن نفسها وتنظيم مواردها الاقتصادية طبقا لمصالحها، وهو مركز يرى الوطنيون الاشتراكيون بحق أنه لا يليق بألمانيا كدولة عظمى ولا يلائم كرامتها القومية.وكانت ألمانيا تجاهد منذ دخلت عصبة الأمم (في سنة ١٩٢٦) فى سبيل الانتصاف لنفسها فى مسألة الدفاع القومي لأنها جردت بمقتضى معاهدة الصلح من سلاحها، وفي سبيل التحرر من أعباء التعويضات الفادحة التى فرضت عليها لأن هذه الأعباء لبثت بعد الذى أدته منها خطرا داهما على مواردها القومية ونشاطها الصناعي والتجاري، ولأنها فرضت على أساس مسؤولية ألمانيا فى إثارة الحرب الكبرى، وقد ثبت فيما بعد بما صدر من تحقيقات ووثائق دولية مختلفة إن هذا الزعم باطل، وإن مسؤولية ألمانيا فى الحرب ليست أكثر من غيرها، وقد سويت مسألة
التعويضات غير مرة، ولكن ألمانيا لبثت تصر على وجوب التحرر منها، وقالت كلمتها الرسمية فى ذلك منذ سنة ١٩٣٢ فى عهد حكومة الهرفون بابن، وانتهت جهودها فى هذا السبيل بعقد مؤتمر لوزان فى صيف سنة ١٩٣٢، وخرجت ألمانيا من المؤتمر ظافرة بتقرير وجهت نظرها، ووافقت دول الحلفاء فى البروتوكول الذى عقده المؤتمر على مبدأ إلغاء التعويض نظير قدر محدد تؤديه ألمانيا لا يتجاوز عشر ما كان مطلوب منها، وألقت ألمانيا فى ذلك الحين أيضا دعوتها إلى نزع السلاح الحقيقي طبقا لما نصت عليه معاهدة الصلح، أو إنها تعمد من جانبها إلى تسليح نفسها تحقيقا لمبدأ المساواة ومقتضيات الدفاع القومي.
كانت مسألة التسليح إذن أهم مشكلة دولية تواجهها ألمانيا عند قيام الحكومة الوطنية الاشتراكية، ومسألة الدفاع القومي من أهم المسائل التى أثارتها الوطنية الاشتراكية وخصتها بكثير عنايتها، والوطنية الاشتراكية أشد ما تكون بغضا لمعاهدة فرساي واحتجاجا على نصوصها وفروضها الظالمة، وهي تعتبرها مصدر كل مصائب ألمانيا، متاعبها، وترى وجوب إلغائها أو تعديلها على الأقل تعديلا يتفق مع كرأمه ألمانيا وحاجتها القومية، وألمانيا تجاهد فى هذا السبيل منذ أعوام، وقد استطاعت فى الواقع أن تظفر بتعديل كثير من نصوص المعاهدة، ولكنها لم تستطع أن تحقق شيئا فى مسألة نزع السلاح والدفاع القومى.
ولألمانيا فى مسألة نزع السلاح نظرية تستمدها من معاهدة الصلح ذاتها، ذلك إن معاهدة الصلح قضت بتجريد ألمانيا من سلاحها، وحددت جيشها العامل بمائة ألف، وحصرت حقها فى اقتناء الذخائر والأسلحة فى أضيق الحدود، وحرمت عليها أنواع الأسلحة الضخمة، وأنزلت أسطولها إلى وحدة بحرية ضئيلة، وحرمت عليها إنشاء الطيارات الحربية، وقضت عليها بإلغاء الخدمة العسكرية الإجبارية، وحرمت عليها إنشاء أية تحصينات على حدودها الغربية عل بعد خمسين كيلومترا من شرق نهر الرين، وغير ذلك من الفروض المرهقة التى تجعل ألمانيا من حيث الدفاع القومي أضعف من أية دولة ثانوية، وتجعلها غير قادرة على الدفاع عن نفسها إزاء الطوارئ (معاهدة فرساى - القسم الخامس - المادة
١٤٩ وما بعدها) . ولكن ميثاق عصبة الأمم الذى هو قطعة من معاهدة الصلح ينص من وجهة أخرى على أن أعضاء العصبة يعترفون بأن تأييد السلام يقتضي تخفيض التسليحات القومية إلى الحد الذى يتفق مع السلأمة القومية وتنفيذ التعهدات الدولية ... وعلى (أن مجلس العصبة ينظم وسائل هذا التخفيض) (المادة ٨) ، ونص من جهة أخرى فى ديباجة القسم الخامس من المعاهدة وهو الخاص بتجريد ألمانيا من سلاحها، أن هذا التجريد إنما هو وسيلة لتمكين تنظيم تحديد السلاح تحديدا عاما بالنسبة لجميع الأمم، وقد أنشأت عصبة الأمم لجنة نزع السلاح ومؤتمره منذ عشرة أعوام تنفيذا
لما يقضي به ميثاقها، واشتركت ألمانيا فى أعمال المؤتمر نزع السلاح منذ دخولها فى العصبة، وجاهدت بكل ما وسعت فى سبيل تخفيض السلاح؛ ولكنها لم تظفر بأية نتيجة، لأن دول الحلفاء وفرنسا بنوع خاص، لا تريد أن تجرى فى تسليحاتها أى تخفيض يذكر، ولهذا تقول ألمانيا اليوم إنه ما دام إن نصوص المعاهدة فى شأن تخفيض السلاح لم تنفذ، وما دام إن تجريدها من السلاح كان مقرونا بوجوب إجراء هذا التخفيض، فهى من جانبها فى حل من أن تسترد حقها كاملا فى تسليح نفسها وتنظيم دفاعها القومى، وهذا منطق سليم واضح، ولألمانيا فيه كل الحق، ولكنه قوبل من فرنسا بأشد اعتراض؛ وأبت فرنسا وبريطانيا العظمى على ألمانيا كل حق فى المساواة الفعلية فى التسليح، واقترحتا وضع رقابة دولية على تسليحات ألمانيا. وأصرت المانيا على موقفها ورأت أن تختم هذا الجدل العقيم، فانسحبت من مؤتمر نزع
السلاح ومن عصبة الأمم فى منتصف أكتوبر الماضي، وكانت خطوة جريئة ولكن موفقة من جانب الحكومة الاشتراكية؛ وكان لها أكبر وقع فى سير السياسة الدولية، وفى نفس اليوم الذى أقدمت فيه الحكومة الألمانية على هذه الخطوة الحاسمة، أستصدر هر هتلر مرسوما بحل الريخستاج وإجراء انتخابات جديدة ليستفتي الأمة فى سياسته الخارجية؛ وأجريت هذه الانتخابات فى ١٢ نوفمبر الماضي وخرج منها هتلر بما يشبه إجماع الشعب الألمانى على تأييده فى العمل لاستعادة مركز ألمانيا الدولى كدولة عظمى والاعتراف لها بحق المساواة فى الدفاع القومي وسائر الحقوق القومية الأخرى . واضطرت فرنسا إزاء هذا التطور أن تدخل فى مفاوضات مباشرة مع ألمانيا لبحث الموقف. وتجري هذه المفاوضات
منذ أسابيع. وتحاول إنجلترا وإيطاليا أن تقوما بدور الوساطة والتوفيق. وبينما تؤيد إيطاليا وجهة النظر الألمانية إذا بإنجلترا تتراوح بين التأييد والمعارضة، فهي لا تريد أن تبقى فرنسا محتفظة بزعأمة أوروبا العسكرية، وتخشى من جهة أخرى أن تعود ألمانيا الى زعامتها العسكرية القديمة. وقدمت الحكومة الألمانية مقترحات فى هذا الشأن خلاصتها أن يرفع عدد الجيش الألمانى العامل إلى ثلاثمائة ألف، وأن تعاد الخدمة العسكرية، وأن يكون لألمانيا حق استعمال وسائل الدفاع المختلفة، وأن ينقح دستور عصبة الأمم لكي تكون أداة صالحة محررة من كل ضغط ونفوذ. وقد ردت فرنسا برفض هذه المقترحات باعتبارها مناقضة لمعاهدة الصلح، وقالت بأن تسوية مسألة التسليح لا تكون بزيادته وإنما
تكون بتخفيضه، وأن تخفيض السلاح لا يمكن أن ينظم إلا فى جنيف وعلى يد عصبة الأمم طبقا لمعاهدة الصلح، وما زالت المفاوضات تجري بين باريس وبرلين من جهة، وبين لندن وباريس ورومة من جهة أخرى، ولكن الذى لا ريب هو أن ألمانيا قد كسبت أول مرحلة فى المعركة، وأنها تتقدم فى سبيل غايتها من تحطيم الأغلال التى فرضتها معاهدة فرساى على دفاعها القومي، بل نعتقد إن ألمانيا قد بدأت تعمل بالفعل فى هذا السبيل دون انتظار لرأي فرنسا وحلفائها
وتثير ألمانيا إلى جانب مشكلة الدفاع القومى عدة مشاكل أخرى ترى أنها تمس مصالحها القومية. من ذلك مسألة وادى السار الألمانى الذى انتزعته فرنسا لتستغل مناجمه الغنية حتى سنة ١٩٣٥؛ فألمانيا
تطالب برده أو يجرى الاستفتاء المنصوص عليه فى المعاهدة؛ ومنها مسألة المستعمرات الألمانية التى وزعت بين فرنسا وبريطانيا العظمى فألمانيا تطالب الآن بردها لأنها تضيق بسكانها، ومصالحا الاقتصادية الحيوية تقتضى أن يكون لها مستعمرات؛ ومنها مسألة الممر البولونى الذى يمزق بروسيا الشرقية إلى قسمين، فألمانيا ترى أنها لا تستطيع الصبر على هذا التمزيق إلى الأبد، وإن كانت اليوم على تفاهم مؤقت مع بولونيا.
على إن الوطنية الاشتراكية الألمانية لم تكن موفقة فى ناحيتين خطيرتين من نواحي السياسة الخارجية، هما المسألة النمسوية، ومسألة العلائق الألمانية الروسية.
فأما فى المسألة الأولى فقد حاولت الحكومة الألمانية أن تتدخل فى شئون النمسا بطرق شتى. ووجهت الوطنية الاشتراكية الألمانية إلى النمسا كثيرا من ضروب الوعيد والتحدى، وحاولت أن تبث فى دعوتها وأن تصبغها بصبغتها. ونذكر أن العمل على اتحاد الأمم الجرمانية من الغايات الأساسية التى ترمي إلى تحقيقها الوطنية الألمانية. والنمسا هى الأمة الجرمانية المقصودة بهذا النص، وهى ترتبط مع ألمانيا بكثير من الروابط الاقتصادية والاجتماعية. وكانت النمسا تضطرم من قبل بدعوة قوية إلى الاتحاد مع ألمانيا سياسيا واقتصاديا ( Anschluss ). ولهذا أرادت الوطنية الألمانية أن تقوم بمحاولتها الأولى فى سبيل هذا الاتحاد.
ولكنها لجأت كعادتها إلى الاندفاع والعنف، وحاولت أن تعامل النمسا كدولة تابعة وأن تملى عليها إرادتها ووحيها، وأن تثير فيها القلاقل والإضطراب، وأن تؤثر فيها بجميع وسائل الضغط والإرغام. ولكن هذه السياسة القصيرة النظر انتهت إلى عكس ما أريد بها. فقد أذكت الشعب النمسوي عواطف العزة القومية، فنسي خلافاته الحزبية والتف حول حكومة المستشار دلفوس التى أبدت فى مقاومة الوطنية الألمانية حزما يثير الإعجاب وأعلنت النمسا أرادتها صريحة فى إنها لا تريد أن تكون تابعة لحكومة برلين، وقمعت الحكومة النمسوية كل شغب أثارته الدعوة الألمانية بمنتهى القوة وطاردت دعاة الوطنية الاشتراكية بلا رأفة، وأنهارت فى الوقت نفسه دعوة الاتحاد (الآنشولس) وأنفض
عنها أنصارها بعد أن رأوا ألمانيا تفسرها بالقضاء على الإستقلال النمسوي واستطاعت حكومة فينا أن تجعل من المشكلة النمسوية مشكلة دولية وأن تغتنم تعضيد إنجلترا وفرنسا وإيطاليا فى الدفاع عن وجهة نظرها ضد ألمانيا.
وأما فى مسألة العلائق الروسية فقد ارتكبت الوطنية الاشتراكية الألمانية أيضا خطأ فادحا. وكانت ألمانيا منذ خاتمة الحرب تعمل دائما على توثيق صلاتها السياسية والتجارية بروسيا السوفيتية، وتتخذ من هذه الصلات دعامة لسياستها الخارجية؛ وكانت روسيا أعظم سوق للصناعات الألمانية بعد أن أغلقت فى وجهها الأسواق الغربية؛ وكان التفاهم بين الدولتين محور التوازن السياسي فى أوروبا الشرقية حيث تطوق ألمانيا بدولتين خصيمتين هما بولونيا وتشيكوسلوفاكيا، ولكن الوطنية الاشتراكية لم تراع هذه السياسة التقليدية، ولم تفرق فى كفاحها للشيوعية بين الاعتبارات الداخلية
والخارجية، فألقيت تصريحات شديدة ضد روسيا السوفيتية من المستشار هتلر وبعض زملائه، وردت الصحافة الروسية هذه الحملات بمثلها، وكان لموقف حكومة برلين وقع سئ فى حكومة موسكو؛ وظهر أثر هذا التوتر فى علائق البلدين واضحا فى اتجاه السياسة الروسية إلى وجهة جديدة. وانتهزت فرنسا هذه الفرصة فعملت على توثيق علائقها مع روسيا باتفاقات جديدة؛ واعترفت الحكومة الأمريكية لأول مرة بحكومة السوفييت. ونظمت المبادلات التجارية بين البلدين؛ واتجهت بريطانيا العظمى إلى توسيع نشاطها التجارى فى روسيا؛ وفقدت ألمانيا بذلك دعأمة سياسية قوية ومصالح اقتصادية خطيرة. وكان فى وسع الوطنية الاشتراكية أن تحرص على علائق ألمانيا وروسيا من الجهة الخارجية، وأن تمضى فى نفس الوقت فى كفاحها ضد الشيوعية داخل ألمانيا على نحو ما فعلت الفاشية الإيطالية، ولكن الظاهر إن الوطنية الاشتراكية الالمانية لم تعرف بعد أن تفرق نزعاتها الشخصية وبين مصالح ألمانيا العامة، وأنها لا تتمتع بذلك الإتزان الذى تمتاز به الفاسشتية الإيطالية رغم صرامتها
هذه خلاصة الظروف والأدوار التى تقلبت فيها الوطنية الاشتراكية الألمانية. وهى تعمل حتى اليوم كثيرا لألمانيا، ولكنها عملت كثيرا لإثارة الأحقاد الجنسية والقومية، وسحق الديمقراطية والحريات العأمة. وقد أثارت بذلك كثيرا من الخصومات على ألمانيا، وأساءت بوسائلها المثيرة إلى هيبة ألمانيا وسمعتها، وأفقدتها كثيرا من العطف العالمى، وجمعت كلمة الديمقراطية ضد ألمانيا فى خصومة موحدة مشتركة، وبدت الفاشستية الإيطالية للعالم اليوم، بعد الذى شهده من جموح الوطنية الاشتراكية الالمانية وعنفها، أجدر بالتقدير والاغضاء والتسامح من وليدتها.
(تم البحث)
