تجلس العاشقة المنكوبة فى حبيبها إلى حديقة أزهار تفتحت عن رائع زهوها. فتجبل لمعشوقها الراحل تمثالا من طين يبرز رويدا رويدا فى شبه الصورة المحفوظة في ذاكرتها.
تتفرس فى التمثال ثم تحدق إلى الماضى فيجول الدمع فى عينيها. فى كل يوم ينزل ظل متكاثف يكتنف الصورة المنقوشة فى لوح قلبها. فالرسم الذى كانت تراه بالأمس بارزا جليا تلفيه اليوم متضائلا مموها. وكما تطبق الزنبقة وريقاتها ليلا تسدل العاشقة الستار على ذكرى غرامها.
تثور سورة غضبها على نفسها. ويأخذ الخجل مأخذه كله منها. فتعمد إلى التقشف. فتعيش على الثمار والماء، وتنام على أديم الأرض.
وكلما دنا التمثال من الكمال بعد عن شبه الصورة المكنونة فى ذاكرتها. ويخيل إلى العاشقة أن ذلك التمثال لا يشبه صورة انسان على الأرض، ولكنها تخدع نفسها فتحسبه شبه الحبيب الذى فقدته إلى الأبد.
تعبد التمثال مع عبادتها الزنابق. وتوقد حوله سرجا مصوغة من ذهب. فيعبق المكان بالرائحة المنبعثة من زيت السرج. وتتراكم الأزهار والشموع يوما فيوما حول التمثال إلى أن يختفى. يتقدم إليها طفل ويقول: "نريد أن نلعب هاهنا".
- "أين؟" - "بجانب دميتك" فتجيبه قائلة: "لن أسمح لقدم بالدنو من هذا المكان" ويقول طفل آخر: "نريد أن نقطف بعض أزهارك" - "أى أزهار تريدون قطفها؟" - تلك الزنابق القريبة من الدمية الكبيرة
فتقول له:"لن أسمح ليد بمس تلك الأزهار" ويطلب إليها طفل آخر قائلا: "أخرجى ذلك السراج وأنيرى سبيلنا". فترفض طلب الولد بقولها: "لن ينقل ذلك السراج من مكانه"
يتوافد الأطفال عليها أفواجا أفواجا. فتنصت إلى هذرمتهم، وتشهد تواثبهم فى مرحهم وجذلهم. فتستغرق فى التأمل هنيهة ثم تنتبه من غفلتها مذعورة فتتورد وجنتاها خجلا
بعد ذلك يفتتح معرضا في المدينة المجاورة فيزورها شيخ طاعن فى السن ويسألها قائلا: "ألا ترافقينى أيتها الحبيبة إلى المعرض؟" "أنى لا أستطيع ذلك" وتهرع إليها فتاة تناديها قائلة: "هلى بنا إلى المعرض!" "لا أتمكن من مرافقتك، لأننى لا أستطيع الاستغناء عن لحظة أقضيها فى سبيل ذلك"
ويمسك طفل بهدب ثوبها متوسلا إليها بقوله: "خذينى معك إلى ذاك المعرض العظيم" . ولكنها لا تستطيع الانقطاع عن تأمل منية قلبها طرفة عين. وفى جنون الليل تسمع صوتا كهدير الرعد. لأن مئات الزوار وألوفهم يجوزون القرية فى طريقهم إلى المعرض.
وعندما تفيق من نومها يسكت وقع أقدام الزوار تغريد الطيور. فتشعر برغبة فى الذهاب إلى المعرض، ولكنها تتذكر آنذاك أنها لا تستطيع ذلك، إذ ليس فى وسعها أن تهمل عبادة إلهها - صنم عشيقها الراحل - يوما واحدا.
وفى الصباح تبكر مسرعة إلى الحديقة. فأين الصنم، يا ترى؟ يمر الزوار زرافات بالقرية وقد عفا أثر الحديقة واختفى الصنم، أما سيل الرجال والنساء الجارف فلا يقف لحظة عن جريانه، تناجى نفسها فى لهف قائلة: "أين حبيبى".
فيهمس فى أذنها هامس قائلا: "هو بين عابرى السبيل هناك!". وفى هذه اللحظة ذاتها يتقدم اليها طفل ويقول لها: "خذينى معك"
"إلى أين؟" "ألست ذاهبة إلى المعرض" "بلى. أنى لذاهبة" فتجوز حديقة الأزهار وتنضم إلى قافلة الزوار، لانها وجدت فقيدها المنشود بين الأحياء.
