قرأت لتسع سنوات خلت قصة فولتير التمثيلية (محمد) ، فخجلت أن يكون كاتبها معدوداً من أصحاب الفكر الحر. فقد سب فيها النبي سباً قبيحاً عجبت له. وما أدركت له علة، لكن عجبي لم يطل، فقد رأيته يهديها إلى بنوا الرابع عشر بهذه العبارات:
(فلتستغفر قداستك لعبد خاضع من أشد الناس إعجاباً بالفضيلة، إذا تجرأ فقدم إلى رئيس الديانة الحقيقية ما كتبه ضد مؤسس ديانة كاذبة بربرية. والى من غير وكيل رب السلام، والحقيقة أستطيع أن أتوجه بنقدي قسوة نبي كاذب وأغلاطه؟ فلتأذن لي قداستك في أن أضع عند قدميك الكتاب ومؤلفه؛ وأن أجرؤ على سؤالك الحماية والبركة. وإني مع الإجلال العميق أجثو وأقبل قدميك القدسيتين) (فولتير ١٧ أغسطس ١٧٤٥) .
وعلمت في ذلك الحين أن روسو كان يتناول بالنقد أعمال فولتير التمثيلية، فاطلعت على ما قال في قصة (محمد) علني أجد ما يرد الحق إلى نصابه، فلم أر هذا المفكر الحر أيضاً يدفع عن النبي ما أُلصق به كذباً، وكأن الأمر لا يعينه، وكأن ما قيل في النبي لا غبار عليه ولا حرج فيه، ولم يتعرض للقصة إلا من حيث هي أدب وفن. ولقد قرأت بعد ذلك رد البابا بنوا على فولتير، فألفيته رداً رقيقاً كيساً لا يشير بكلمة واحدة إلى الدين، وكله حديث في الأدب. فعظم عجبي لأمر فولتير، وسألت نفسي
طويلاً: أيستطيع عقل مثقف كعقل هذا الكاتب العظيم أن يعتقد ما يقول. دين تبعه آلاف الملايين من البشر على مدى الأجيال، هو في نظره حقاً دين كاذب؟ ومبادئ إنسانية كالتي جاء بها الإسلام، هي عنده حقاً مبادئ بربرية؟ أم إنه التملق والزلفى والنفاق. وإن الزمن والتاريخ يضعان أحياناً أقنعة زائفة على نفوس تزعم أنها خلقت للدفاع عن حرية الفكر. . .
منذ ذلك اليوم وأنا أحس كأني فجعت في شيء عزيز لدي: الإيمان بنزاهة الفكر الحر. ولقد كنت أحياناً ألتمس الأعذار لفولتير، وأزعم أنه قال ما قال لا عن مجاملة أو ملق، بل عن عقيدة وحسن طوية استناداً على علم خاطئ بأخبار النبي، ولكن كتابه إلى البابا كان يتهمه اتهاما صارخاً، ويدع مجالاً للشك في دخيلة أمره. إني قرأت لفولتير كتباً أخرى كانت تكشف عن آراء حرة حقاً في مسائل الأديان، وتنم عن روح واسعة الآفاق تكره التعصب الذميم، فما باله عند عرض لذكر محمد والإسلام كتب شيئاً هو التعصب بعينه، تعصبٌ لدينه، ذهب فيه إلى حد السجود وتقبيل الأقدام، لا لرب العزة والخلق، بل لبشر هو رئيس الكنيسة التي ما أرى أن فولتير كان في ذات يوم من خدامها المخلصين. هي الأطماع التي كانت تدفع فولتير فيما أرى إلى التمسح بأعتاب الملوك والبابوات، ولقد يقدم ثمناً لذلك أفكاره الحرة أحياناً. منذ ذلك الحين وفولتير عندي متهم، ولن أبرئه أبداً، ولن أعده أبداً من بين أولئك العظام الذين عاشوا بالفكر وحده وللفكر. وأحسب أن التاريخ العادل سوف يحكم عليه هذا الحكم، فينتقم للحق بما افتراه على نبي كريم ظلماً وزوراً. على أن الذين يدعو إلى الدهش أكثر من كل هذا أن الشرق والإسلام وقفا من الأمر موقف النائم الذي لا يعي ولا يشعر بما يحدث حوله، فلم أر كاتباً من كتاب الإسلام قام في ذلك الوقت يدفع عن دينه هذا الهراء الذي قال فولتير، ويقذف في وجه هذا الكاتب بالحقائق الباهرة القاطعة، أو أن مؤلفاً وضع كتاباً يبرز فيه شخصية النبي الخيرة العظيمة واضحة جلية. لقد كان الشرق في ليل هادئ بهيم لم تثر فيه حركة فولتير يومئذ ساكناً، ولكن اليوم قد تغير الأمر، ولاجت في أفق الشرق خيوط الفجر، وقام في هذا القرن كتاب يمجدون
عقيدتهم وهم يعلمون أن في ذلك تمجيداً للحق وللشرق، فان المسألة ليست مسألة دين فقط، إنما هي أيضاً مسألة جنس وقومية؛ وإذ تقول أوربا: (الإسلام) فإنما تعني في غالب الأحيان (الشرق) إن الحروب الصليبية في حقيقتها لم تكن إلا حرب الغرب على الشرق؛ وإن الفتح الإسلامي عندما بلغ فرنسا وهدد أوربا لم يكن في الواقع إلا حرب الشرق على الغرب. هذا المد والجزر بين الغرب والشرق يفهمه مفكرو الأوربيين تمام الفهم، ويحسبون له الحساب، ويعملون دائماً على أن تكون الغلبة لهم آخر الأمر، أو أن يطيلوا على الأقل أمد غلبتهم إن كان لابد من تبدل الحال ومن دوران الفلك طبقاً لناموس أعلى لا قبل لهم به. فالدفاع عن شخصيتنا وعقيدتنا دفاع عن حياتنا، وإن الكتابات التي توجه لهذا الغرض النبيل ينبغي أن يكون لها علينا حق المؤازرة والتعضيد؛ وإني لست بناقد منقطع للنظر في أعمال المؤلفين وتقدير ما يكتبون، ولكني أريد أن أشير إشارة سريعة إلى ثلاثة أساليب مختلفة من أساليب الكتابة، اتجهت في العصر الحديث إلى هذه الغاية، كل في دائرته.
ففي الكتابة الدينية: (الرد على هانوتو) للأستاذ الإمام محمد عبده، فلقد نشر هانوتو الكاتب والوزير الفرنسي يوماً مقالة جاء فيها:
(لقد أصبحنا اليوم إزاء الإسلام والمسألة الإسلامية، اخترق المسلمون أبناء آسيا شمال القارة الأفريقية بسرعة لا تجاري حاملين في حقائبهم بعض بقايا البيزنطيين (يونان الشرق) ثم تراموا بها على أوربا، ولكنهم وجدوا في نهاية انبعاثهم هذا مدنية يرجع أصلها إلى آسيا، بل أقرب في الصلة إلى المدنية البيزنطية مما حملوه معهم، ألا وهي المدنية الآرية المسيحية، ولذلك اضطروا إلى الوقوف عند الحد الذي إليه وصلوا، وأكرهوا على الرجوع إلى أفريقية حيث ثبت فيها أقدامهم أحقاباً متعاقبة) ثم قال في موضع آخر: (وقصر فريق منا بحثه وحكمه على ما شاهده من المناقضات والخلافات بين الدينين المسيحي والإسلامي، فرأى في الإسلام العدو الألد والخصم الأشد. قال المسيو كيمون فى كتابه (باثولوجيا الاسلام): إن الديانة المحمدية جذام فشا بين الناس وأخذ يفتك فيهم فتكاً ذريعاً، بل هي مرض مريع وشلل عام، وجنون ذهولي يبعث الإنسان على الخمول
والكسل، ولا يوقظه منهما إلا ليسفك الدماء، ويدمن على معاقرة الخمور، ويجمح في القبائح، وما قبر محمد في مكة إلا عمود كهربائي يبث الجنون في رؤوس المسلمين ويلجئهم إلى الأتيان بمظاهر الهستريا (الصراع) العامة والذهول العقلي، وتكرار لفظة الله إلى ما لانهاية، والتعود على عادات تنقلب إلى طباع أصلية ككراهية لحم الخنزير، والنبيذ، والموسيقى، والجنون الروحاني، والليمانيا، والماليخوليا، وترتيب ما يستنبط من أفكار القسوة والفجور في اللذات) الخ الخ
أمثال هذا الكاتب يعتقدون أن المسلمين وحوش ضارية، وحيوانات مفترسة (كالفهد والضبع، كما يقول المسيو كيمون (وأن الواجب إبادة خمسهم) كما يقول أيضاً (والحكم على الباقين بالأشغال الشاقة، وتدمير الكعبة، ووضع ضريح محمد في متحف اللوفر) وهذا أيضاً قوله (. . وهو حل بسيط وفيه مصلحة للجنس البشري. . أليس كذلك؟ ولكن قد برح عن خاطر الكاتب أنه يوجد نحو ١٣٠ مليوناً مسلماً، وأن من الجائز أن يهب هؤلاء (المجانين) للدفاع عن أنفسهم والذود عن بيضة دينهم. . الخ الخ)
فما ظهر هذا الكلام في صحيفة المؤيد، حتى قام الأستاذ الإمام الشيخ محمد عبده لساعته مجرداً قلمه وكتب نحو أربع مقالات هي أقوى ما قرأت دفاعاً عن الإسلام، وإظهاراً لحقيقة مبادئه الخافية على أغلب الأوربيين. وقد ورد على هانوتو فيما أوردنا صائحاً: (ما هذا التمدين الآري الذي كانت عليه أوربا عندما انتقص أطرافها المسلمون؟؟)
هل كانت تلك المدنية هي التسافك في الدماء، وإشهار الحرب بين الدين والعلم، وبين عبادة الله وبين الاعتراف بالعقل، نعم هذا هو الذي كان معروفاً عند الغربيين وقت ما ظهر الإسلام.
ماذا حمل الإسلام إلى أوربا، وما هي المدنية التي زحف عليهم بها فردوها؟ زحف عليهم بما استفاد من صنائع الفرس وسكان آسيا من الآريين، زحف عليهم بعلوم أهل الفرس والمصريين والرومانيين واليونانيين. نظف جميع ذلك ونقاه من الأدران والأوساخ التي تراكمت عليه بأيدي الرؤساء في الأمم الغربية لذلك التاريخ ، وذهب به أبلج ناصعا بهر به أعين أولئك الغافلين المتسكعين الذين كانوا في ظلمات الجهالة لا يدرون أين يذهبون.
إني أكيل لمسيو هانوتو إجمالاً بأجمال، والتفصيل لا يجهله قومه، وكثير من منصفيهم لم يستطع إلا الاعتراف به.
إن أول شرارة ألهبت نفوس الغربيين فطارت بها إلى المدنية الحاضرة كانت من تلك الشعلة الموقدة التي كان يسطع ضوؤها من بلاد الأندلس على ما جاورها، وعمل رجال الدين المسيحي على إطفائها مدة قرون فما استطاعوا إلى ذلك سبيلاً. واليوم يرعى أهل أوربا ما نبت في أرضهم، بعد ما سقت بدماء أسلافهم المسفوكة بأيدي أهل دينهم في سبيل مطاردة العلم والحرية وطوالع المدنية الحاضرة).
ثم رد الامام في موضع آخر: (يجب على الباحث في الإسلام أن يطلبه في كتابه، كما يجب عليه أن يطلب آثاره والإسلام إسلام، والمسلمون مسلمون، ولو استشم مسيو (كيمون) الذي استشهد هانوتو بكلامه ريح العلم لما استفرغ ذلك القذر من فيه، ولا حاجة إلى الكلام فيه، فسخافة رأيه وقلة أدبه تكفيه.
من أين أُتى المسلمون وكيف دخل عليهم في عقائدهم بالتشبيه، وفي عوائدهم بالتمويه؟ وممن تعلموا الافتراس، وعمن أخذوا الضراء بالشهوات؟ أنا أعلم ذلك وأهل العلم يعلمون، والله من ورائهم محيط.
اتبع المسلمون سنن من قبلهم شبراً بشبر، وذراعاً بذراع، حتى سقطوا في مساقطهم، وطارحوا الأوهام حتى انجروا إلى مطارحهم، وباءوا بما كان لهم وما عليهم.
حدثت في الدين بدع أكلت الفضائل وحصدت العقائل، وترامت بالناس إلى حيث يصب عليهم ما استفرغه (كيمون) .
أما لو رجع المسلمون إلى كتابهم واسترجعوا باتباعه ما فقدوه من آدابهم لسلمت نفوسهم من العيب، وطلبوا من أسباب السعادة ما هداهم الله إليه في تنزيله على لسان نبيه، ومهده لهم سلفهم وخطه لهم أهل الصلاح منهم، واستجمعت لهم القوة ودبت فيهم روح الفتوة، وكان ما يلقاه هانوتو وكيمون من دين صحيح شراً عليهما مما يخشونه من دين شوهته البدع.
يرى كيمون أن تخلى وجه الأرض من الإسلام والمسلمين، ويستحسن رأيه هانوتو لولا ما يقف في طريق ذلك كثرة عدد
المسلمين؛ وبئسما اختارا لسياسة بلدهما أن يظهرا ضغنهما، ويعلنا خطل رأيهما وضعف حلهما.
أما فليعلم كل من يخدع نفسه بمثل حلمهما أن الإسلام إن طالت به غيبة، فله أوبة، وإن صدعته النوائب فله نوبة، وقد يقول فيه المنصفون من الانكليز مثل (اسحق طلير) وهو قس شهير ورئيس في كنيسة:
(إنه يمتد في أفريقيا ومعه تسير الفضائل حيث سار، فالكرم والعفاف والنجدة من آثاره، والشجاعة والاقدام من أنصاره).
بهذا القلم وهذه المعرفة وهذا الذهن، وقف رجل الإسلام الحديث محمد عبده يذود عن بيضته أمام عدوان جهابذة الفكر والقلم من الأوربيين.
أما في الكتابة الأدبية، فأذكر (على هامش السيرة) للدكتور طه حسين، ففي هذا الكتاب دفاع عن الإسلام كما يستطيع الأدب البحت أن يدافع. فهو لا يسلك الطريق المستقيم في الكلام عن الإسلام، ولا يلجأ إلى التدليل العقلي، إنما يخلق جواً شعرياً يحبب إلى النفس سيرة النبي وبيئته؛ وقد عمد الدكتور طه حسين إلى الأساطير ينسج منها هذا الجو الأدبي الجميل، وتلك وسيلة الأدب والفن، ومن ذا يقرأ هذا الوصف لبلاد النبي ولا تأخذه روعته؟:
(هنالك دعت (آمنة) إليها من حضرها من نساء بني هاشم، فأسرعن إليها وقضين معها ليلة لا كالليالي، أنكرن فيها كل شيء وأعجبن بكل شيء، أنكرن حتى أنفسهن، فقد رأين ما لم ير أحد، وسمعن ما لم يسمع أحد، وأحسسن ما لم يحس أحد. ولم تكن آمنة أقلهن إنكاراً وإكباراً وإعجاباً - فقد كانت ترى وهي يقظة غير نائمة أن نوراً ينبعث منها فيملأ الأرض من حولها، ويزيل الحجب عن عينيها، وكانت تنظر فترى قصور بصري في أطراف الشام، وكانت تنظر فترى أعناق الإبل تردى في أقصى الصحراء، وكانت لا تتحدث إلى من حولها بما ترى مخافة أن ينكرن ما تقول، وأن يظنن بها الظنون، وكانت هذه من صاحباتها لا تمد طرفها إلى شيء حتى تراه نوراً كله، لا ظلمة فيه وإنما هو مشرق مضيء، أو هو الإشراق الخالص،
وكانت هذه الأخرى من صاحباتها تنظر، فإذا نجوم السماء تدنو من الأرض وتمد إليها أشعة قوية نقية باهرة ساحرة، وإنها لتدنو وتدنو حتى يخيل إلى الرائية أنها توشك أن تمسها وتقع عليه).
لقد دافع طه حسين عن الإسلام في كتابه (على هامش السيرة) وإن كان لم يقصد إلى ذلك. فان الأدب الصرف والفن الصرف لا يقصدان أحياناً إلى شيء، ولكن في مجرد صوتيهما أبلغ الكلام.
أما في الكتابة العلمية فها هو ذا كتاب (حياة محمد) للدكتور محمد حسين هيكل بك. ولو أني أعتقد أن أسلوب الدكتور هيكل في (حياة محمد) يدخل أيضاً في منطقة الكتابة الأدبية، فان هذا الكتاب يعتبر في نظري من كتب (التراجم والسير) التي يضعها الكتاب الأدباء، لا من البحوث العلمية التي يؤلفها المؤرخون العلماء ويعنون فيها بإضافة شيء جديد إلى العلم المعروف، أو استكشاف وثيقة من الوثائق التحريرية أو الآدمية، أو تحقيق مصدر من المصادر. على أن كتاب هيكل هو بلا نزاع أول سيرة نبوية خليقة أن تمثل تطور العقلية الإسلامية في هذا العصر الحديث.
وما أشق انتظارنا هذه الأجيال الطويلة لهذه السيرة الحديثة نضعها إلى جانب سيرة ابن هشام والسيرة الحلبية وطبقات ابن سعد وغيرها من السير القديمة حتى يستطيع عصرنا أن يجهر بأنه فعل شيئاً من أجل الإسلام.
ولو ان الأستاذ الشيخ محمد عبده حي اليوم لاستقبل هذا الكتاب بمثل ما استقبله به الأستاذ الشيخ المراغي، فرحاً بهذا القلم الجديد ينهض لخدمة الحق والإسلام.
ولقد ذكرت هذه الكتاب وهذه الأساليب الثلاثة بالذات لما رأيته فيها من نظرة جديدة إلى محمد والإسلام. نظرة ملؤها الاكبار الصادر عن فكر حر لا عن تعصب أعمى. ان الناس لم تعد تعني بتلك الكتب المفعمة بالثناء الأجوف والألقاب الطويلة يحاط بها اسم النبي، وهو في عظمته أجل من أن يحتاج إليها. إنما تريد الناس اليوم حقيقة مجردة ناصعة هي في تجردها أجمل وأسمى وأبلغ في النفوذ إلى القلوب، وهذا ما صنع هيكل بك في كتابه (حياة محمد) على نحو خليق بالثناء، فلقد أسقط من حياة النبي تلك المعجزات التي لا تغني من الحق شيئاً ما دمنا في
مجال التدليل العقلي، وأظهر شخصية النبي عظيمة في بشريتها السامية، وأبان عن غرض النبي والدعوة إلى دين جوهره اقتناع النفس بالحقيقة العليا. ان هذه النظرة الجديدة فيها إجلال للنبوة. وان أولئك السفهاء الذين كانوا يطلبون إلى الأنبياء أن يثبتوا نبوتهم بالمعجزات قد أثموا في حق الفكر البشري قبل أن يأُثموا في حق الدين.
ان المعجزة: أي الإتيان بعمل خارق للمعتاد لا يدل على شيء ولا يثبت نبوة ولا يدحضها. فان من الكهان أو بسطاء الناس من يملكون أحياناً تلك القوى الخارقة في أجسامهم أو عقولهم أو أرواحهم دون أن يكونوا من أجل ذلك أنبياء. إن النبي ليس في حاجة إلى معجزة كي يكون نبياً. إنما النبي من حمل رسالة علوية لا ينصرف عن الحياة حتى يؤديها ، ومن فضل محمد أنه لم يشأ أن يقنع الناس بغير ذلك، فقد بلغهم رسالته واعتمد ف ي إثباتها على العقل المجرد.
ولقد جاء في كتاب هيكل بك: (لما جهد المسلمون عطشاً أثناء مسيرة جيش العسرة إلى غزوة تبوك ثم أمطرتهم السماء ذهب بعضهم إليه (إلى النبي) يقول إنها معجزة، فكان جوابه: (إنما هي سحابة مارة) ؛ ولما كسفت الشمس يوم اختار الله ابنه إبراهيم إلى جواره قال الناس: (إن هذا الكسوف معجزة) فكان جوابه: (إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله لا تخسفان لموت أحد ولا لحياته) هذا جواب محمد الذي قيل إنه نبي كاذب!!! فهل يمكن أن يكون هذا جواب نبي كاذب؟؟
ان في كتاب هيكل صفحات تصلح رداً بليغاً على فولتير. إن محمداً هو أعظم من فهم حقيقة النبوة، ووعى معنى الحقيقة العليا، وأدرك أن أكبر معجزة في هذا الكون هي انه لا يوجد في الكون معجزات، وأن كل شيء يسير طبقاً لنظام دقيق. وإذا قيل نظام قيل قانون، وإذا قيل قانون قيل عقل مدبر، وهذا العقل واحد أحد تبدو سعته في إدارة الأجسام غير المحدودة في العظم كما تبدو فى ادارة الاجسام غير المحدودة فى الصغر، ذات اليد العلوية وعين أثرها في كل شيء، يد واحدة لا تتغير وقانون واحد لا يتغير. إن محمداً كما يبدو في وصف الدكتور هيكل قد تأمل الطبيعة كثيراً، وفكر ملياً في نظامها العجيب فكشف عن بصيرته وبصره فامتلأقلبه بالله، كما اقتنع عقله بوجوده، فجاء
دينه ديناً كاملاً، صادقا في نظر القلب والعقل معاً. ولئن كان على الأرض نبي أحب العلم، ولم يخش دينه العلم، ولم يضطهد العلماء، فهو (محمد) الذي قال: (فضل العلم خير من فضل العبادة) (اطلب العلم ولو في الصين) وكثيراً من الأحاديث التي تثني على العلم وتحض عليه. ذلك أن مصدر اقتناع العلم ومصدر اقتناع محمد واحد: الكون وملاحظة ما فيه من إبداع ينم عن يد الخلاق العظيم.
في كتاب حديث العالم انشتين فصل ذكر فيه رأيه في الدين، قال إنه يعتنق ما يسميه (الديانة الكونية) تلك الديانة التي تملأ قلب كل عالم انقطع لتأمل (ذلك التناسق العجيب بين قوانين الطبيعة وما يخفي من عقل جبار لو اجتمعت كل أفكار البشر إلى جانبه لما كونت غير شعاع ضئيل أقرب القول فيه انه لا شيء) .
لا ريب عندي أن إحساس انشتين نحو الكون والله هو عين إحساس محمد يوم كان يتحنث في غار حراء قبل نزول الوحي. لنما الأنبياء والعلماء قلوب واعية تشعر بجلال الله. ولا يمكن لنبي أن يكون نبياً إلا أن يشعر من تلقاء نفسه بعظمة الخليقة ويتحرق شوقاً إلى معرفة صانعيها، ولا يزال الشوق بقلبه حتى يكشف له الصانع الأعظم عن بعض نوره، ويوحي إليه بنشر هذا النور على الإنسانية. أني كلما تأملت شخصية محمد مجردة ثبت إيماني بأن الخصومة المعروفة بين العلم والدين ليس لها في الحقيقة وجود، وان الدين الحق لا يتعارض والعلم الحق. . . بل إن الدين والعلم شيء واحد، كلاهما يطلب نور الله ويريد وجه، وكلاهما يعي ويؤمن ويلهج بتناسق الوجود ووحدة قوانينه ودلالة وحدة الوجود على وحدة الخالق. ولم يظهر نبي حق ولا عالم حتى شعر بغير ذلك. إنما الفارق بين العلم والدين في السبل التي يسلكها كل في الدنو من الله. ومن قال إن وسائل العلم ينبغي أن تماثل وسائل الفن أو وسائل الدين؟؟؟
إن الطرائق والسبل يجب أن تظل مختلفة مميزة لا يختلط بعضها ببعض، إنما المصدر واحد دائماً والغاية واحدة. فما الدين والعلم والفن إلا خيوط ثلاثة كتب على بشريتنا القاصرة العمياء أن تتمسك بها لتهتدي إلى ذلك النور الذي لا بداية له ولا نهاية: الله
إن الإسلام وهو أحدث الأديان، وهو الذي لم يخاصم العلم، وهو الذي أتسع صدره لكل شيء يصلح فيما يرى الدكتور هيكل لمعالجة أزمات العالم الحاضر، الروحية والاجتماعية والاقتصادية. وهو رأي صادق إذا قيض الله للإسلام رجالاً ذوي نظرة وذهن مستنير واطلاع واسع، يبرزون فضائله بأساليب جديدة، ويتولون إذاعته والدفاع عنه بأقلام ذكية قديرة. ولقد صنع هيكل كثيراً في هذا السبيل بأسلوبه الجديد في (حياة محمد) . ولئن كان قد أثم في دنياه فلقد اشترى بكتابه آثامه!!! ولسوف يتقدم يوم الدين وكتابه بيمينه يشفع له في دخول الجنة!!! ولسوف يدخلها بأذن الله متأبطا ذراع طه حسين بما قدمت يمناه هو أيضاً من كتاب أدبي جميل (على هامش السيرة) ، كان له ولا ريب الأثر في حمل الناس على استمراء أخبار النبي، ولهما بعد ذلك ولأمثالهما ممن دافعوا ويدافعون عن الإسلام خير التحية: فإني قلتها وأقولها دائماً: ليس الأمر أمر عقيدة وديانة، إنما هو إلى جانب هذا أمر حياة تلك الكتلة التي يسميها الغربيون: الشرق. وما الدفاع عن الإسلام إلا الدفاع عن الشرق.

