أطاع الملكة مكرها، ثم عاد الى (فرتى)ينتظر تغير الحال ليحقق آماله الكثيرة. ومات ريشليو فى عام ١٦٤٢، فتحفز لاروشفوكو للمطالبة بثمن عطفه على الملكة ومساعدته إياها. وزعم أنه كان يكره هذا الوزير الذى كسر شوكة النبلاء، فانه أنصفه فى مذكراته فقال: "فجعت الدولة هذا السياسى الكبير. كان عظيما فى مقاصده، ماهرا فى إنفاذ خططه، وقد ضمن بأعماله المجيدة الخلود لذكره"
هذا الشاب الخيالى الذى عرف ريشليو كيف يكبح جماحه دون أن يقسو عليه، أصبح أيام الوصاية على العرش يسعى وراء مصلحته الذاتية ليس غير.
الرجل الطموح
لما مات لويس الثالث عشر وأقيمت زوجه آن دوتريش وصية على ابنها لويس الرابع عشر، فرح الملتفون حولها وتطلعت نفوسهم إلى تحقيق مطامعهم على يديها. ورأت هى منهم ذلك فجادت عليهم بالوعود وتركتهم فى آمالهم ينعمون، ثم وضعت أزمة الدولة فى يد الكاردنيال مازاران صنيعة ريشليو عدو النبلاء والعظاميين
ولم تأبه لرغبات لاروشفوكو الذى أظهر الوفاء لها فى ظروف كثيرة، وهو يقول مذكراته عن ذلك: "قضيت عشرة أعوام فى خدمتها، وخاطرت بثروتى وحريتى فى سبيل راحتها وحريتها حتى قيل عنى إنى شهيدها. وكثيرا ما قالت لى إنها لا تجد فى البلاد ما تكافئنى به على ما قدمت من معروف" . ولكنها لما ملكت زمام الحكم نسيت قولها تمام النسيان
ولما يئس النبلاء من وعودها، كونوا فيما بينهم جمعية سرية ترمى الى القضاء على سلطان الوزير مازاران واختاروا الدوق دى بو فور رئيسا لهم. وانضم اليهم لاروشفوكو اسما دون أن يوافق على سلوكهم وخطتهم، وأصبح البلاط حزبين: حزب الوزير وحزب الدوق دى بوفور. ولأجل اكتساب عضد الملكة الوصية على العرش، تقدمت الجمعية إلى لاروشفوكو أن يرجو من الملكة إصدار العفو عن صديقتها الدوقة دي شفريز حتى تعود الى البلاد، فاطاع لاروشفوكو ومازال بالملكة حتى أجابت سؤله وأمرته بالذهاب إليها حاملا هذا الخبر السار، ففرح وقال فى نفسه "أجابت هذا الطلب، وستجيب دون شك مطالبى الأخرى"
أسرع إلى مقر الدوقة وأدلى اليها بما حدث فى البلاط أثناء غيبتها، ورجا منها أن تصبر على مازاران، فان أرضى رغباتهما وحقق آمالهما تركته وشأنه، وان أبى عليهما ما يطلبان شاكسته ولكنها لم تكد تطأ أرض باريس حتى نسيت قول لاروشفوكو وحاولت عزل الوزير وإحلال أحد رجالها المسمى شاتونيف محله، وجهرت برغبتها فى رد القوة إلى الأسر العظيمة التى تحبذ آراءها وترضى عن خططها. وقبل أن تقدم على عمل جدى، افتضح أمر الجمعية وألقى القبض على رئيسها ٢ سبتمبر عام ١٦٤٣ وحبس فى فنسين، وأمرت الدوقة بالإقامة فى تور. أما لاروشفوكو فلم يمس بسوء، وكل ما أصابه فى هذه الحادثة أن الملكة أمرت بأن يعرض عن الدوقة ويخلص للوزير. ولكنه لم يذعن لأمرها ولم يجن من وراء ذلك نفعا
واستمر فى البلاط إلى عام ١٦٤٦ كئيب النفس وسط مسرات البطانة ومرحها، وسعى سعى المجد إلى الحصول على إحدى الرتب العسكرية التى رفض قبولها من ريشليو، ولكن سعيه لم يصب غير الفشل. فدفعه اليأس من بلوغ مقاصده إلى الاتصال بالدوقة دى لونجفيل التى تضمر العداوة للملكة. وهذه
الدوقة كانت شديدة الكبرياء مولعة بالمجون والاستهتار، وقيل إنها أحبت أخاها الدوق رانجان حبا فيه إثم كبير، وإنها كانت ترى فى هذا الحب البغيض طريقة تميزها من "القطيع الانسانى" . ولم يحبها لاروشفوكو، بل تصل بها وأظهر كلفه بها ليستخدمها فى سبيل اغراضه. وهو لم يعرف الهوى المحرق كما تقول مدام دى سفنييه (1) وقد سمعه سجريه (2) يقول: "لم أعثر بالحب إلا فى القصص الخيالية"
وفى أغسطس عام ١٦٤٨، قامت ثورة فى باريس تعرف فى تاريخ فرنسا باسم La Fronde (ومعناها لغة: النبلة التى يستعملها الصغار عندنا فى صيد العصفور، وكانت شائعة فى فرنسا وقت قيام هذه الثورة فسميت باسم هذه اللعبة) ، ثم امتد الاضطراب إلى الريف، وأشعل الفلاحون (براتو) نار الشغب. وكان لاروشفوكو قد حصل على حكمها بفضل مكانة أبيه، فقمع هذا الشغب قبل أن يستفحل، ونال بعمله هذا إعجاب الوزير مازاران. ولكنه كان يسعى إلى شىء آخر غير الاعجاب بعمله، كان يرغب فى الحصول على لقب دوقة لزوجه وعلى الأذن له بدخول فناء قصر اللوفر فى عربة كآل روهان (وهم من سلالة ملوك بريتانيا) فلما خيب الوزير أمله، انضم فى الحال إلى الثائرين على الرغم من رأى والده وأسرته، وأسرع إلى باريس لمقابلة الدوقة دي لونجفيل التى أعدت خطة لاضرام نار حرب أهلية. وقد حاولت أن تضم إليها أخاها الدوق رانجان الذى أصبح أمير كونديه بعد موت أبيه فى عام ١٦٤٦، ولكنها أخفقت لأن الملكة غمرته بالنعم الجزيلة ثمنا لمساعدته إياها
أخذ كونديه بعضد الملكة وأنقذ البلاط من الثائرين وأصبح صاحب الكلمة النافذة فيه، فألحف طلب المال لنفسه والمزايا لأصدقائه ومن بينهم لاروشفوكو , وأجابه مازاران إلى ما طلب
ولكن النبلاء تقدموا إلى الملكة أن تلغى هذه المزايا فألغتها١٠ أكتوبر عام ١٦٤٩. وفى ذلك اليوم كتب لاروشفوكو فى كراسة يذم الوزير ويسخط عليه لأنه "قاوم طموحه مقاومة عنيفة" . وجملته الأخيرة تدل على روح النبلاء فى ذلك العصر، وبقيت هذه الكراسة مجهولة من الناس حتى عثر بها فكتور كوزان (1) فى أوراق كونررا (2) ونشرها
ولما ضاق الوزير ذرعا بكونديه استعمل الخديعة حتى ألقى عليه القبض هو والدوق دى لونجفيل وقد حريتهما فى الهافر، وخافت الدوقة دى لونجفيل أن تصير إلى ما صار إليه زوجها فهربت إلى هولانده بمساعدة لاروشفوكو
وفى ٥ فبراير ١٦٥٠ مات والد لاروشفوكو، فاتخذ من إقامة المأتم ذريعة إلى جمع كثير من النبلاء والفلاحين والجياد (٧٠٠ نبيل، ٨٠٠ فلاح، ٢٠٠٠ جواد خطبهم واستوقد حماستهم لمحاربة جنود الملك. ولكن هؤلاء قهروا رجاله وأهلكوا زرعه ودمروا قصره (فرتى) . ويقول أحد أصدقائه أن لاروشفوكو لما بلغه خبر الدمار أصاب القصر الناطق بعظمة أجداده، اعتقد أن الدوقة دى لونجفيل ستقدر له هذه التضحية فى سبيلها حق قدرها، وبعث هذا الاعتقاد نفسه سرورا كبيرا. وقبل انقضاء شهر فبراير هدأت الحال وأطلق سراح كونديه ومن معه، وغادر مازاران البلاد حتى تسكن العاصفة
استرد كونديه حريته ولكنه أضمر الشر للوزير والملكة. ولما بلغ لويس الرابع عشر رشده ٦ سبتمبر عام ١٦٥١، وأقيمت لهذه المناسبة حفلة فخمة: فى قصر اللوفر لم يحضرها كونديه وأعوانه خشية أن تنال الملكة منهم منالا. وعرفت أخته الدوقة دى لونجفيل ميله إلى اشعال نار الحرب الأهلية مرة ثانية، فشجعته حتى سل سيفه فى وجه الملك
يتبع
