إن حكم الأكثريات ضرورة لازمة لحكم الجماعات. وأنت ترى الأحكام والشرائع مادامت ترجع فى إبرامها إلى إجازة عدد من الناس يخضعون لقانون أساسي، فلا مناص إذن من أن تتقيد الحكومة برأي الأكثرية وتعنو له. ولقد أيدت المحاكم العليا هذا المبدأ حينا بعد حين، وخلال طور بعد طور، على مدى الانقلابات السياسية، وأيده المؤلفون فى كثير مما أبرزوا من المؤلفات التى تناولت البحث فى النظريات السياسية، كما وضع موضع التنفيذ الفعلي فى نظام الحكومات فى كثير من دول الأرض. ولا جرم أن حكم الأكثرية الذى يمثل رأي الجماعات له الغلبة حتى الآن فى نظام الحكومات الحديثة.
أما فى القرون الوسطى فان القول بمبدأ الأكثرية لم يكن أكثر من حيلة لجأ إليها الحكام ليتقوا بها الصراع بين فريقي الشعب كلما بدرت بوادره، بأن يظهروا للناس من طريق الجلاد الفكري مقدار ما يترتب على الصراع البدني فى النتائج. وعلى الضد من ذلك ذهب الديمقراطيون فى الأعصر الحديثة. فأنهم بعدوا عن التحايل على الناس بالأفكار والنظريات، فأصبح حكم الأكثرية عند بعض المؤلفين عبارة عن (مبدأ عام ثابت له من المسوغات الأدبية والخلقية ما يكسبه مناعة قصوى) كما يقول هنبرج فى كتابه (نظريات حكم الأكثرية) ويؤيد الأستاذ (مكيفر) هذا الرأي ولكن بأسلوب آخر فيقول أنه (يجب علينا أن نعتبر أن كل الحكومات التى لا تتجلى فى كيانها إرادة الأكثرية صورا بتراء إذا قيست بأنظمة الحكومات الرشيدة) وهذا الرأي يتضمن ضرورة فكرة أن الإرادة العامة هى لدى الواقع إرادة الأكثرية، لا إرادة المجموع كله. ويقول مؤلف ثالث هو الأستاذ (هرنشو) فى كتابه (الديمقراطية فى مفترق الطرق)، (أن عقيدة الرجل الديمقراطي لابد من أن تحمله على الاعتقاد بأن أكثرية الشعب لا محالة واقعة على الحق يوما مهما طال عليها عهد الخرق والضلال، وإنها لابد من أن تعمل جاهدة يوماً ما على أن تقيم العدل وتضع الحق فى نصابه). على أن الأستاذ (هرنشو) مسبوق بهذا الرأي. فان البابا (إنوسان) الرابع فى (القرن الثالث عشر الميلادي) قد سبقه إلى القول (بأن استكشاف الحق من طريق الكثرة يكون أهون وأقوم.)
إن الحكم من طريق الأكثرية ليس أكثر من نتيجة منطقية، مقدمتها القول بوجوب المساواة الديمقراطية بين كل الناس. ذلك لأن حكم الأكثرية مضمونه أنه مدام لكل الناس حقوق معلقة فى عنق الحكومة، فان (أصواتهم) يجب أن (تعد) لا أن (توزن). وهذه النظرية تختلف تمام الاختلاف عما كان يفهم من معنى الحكومة فى العصور الوسطى وفي الدول غير الديمقراطية. فان القاعدة فى القرون الوسطى كانت تعطي لمجموع الرعايا المتمتعين بكل الحقوق السياسية حق التصويت العام فى المسائل ذات الشأن التى تتعلق بسلامة الدولة. وهذا يتضمن حقيقة تختلف عن مفهوم حكم الأكثرية كل الاختلاف. فان (عدد الأصوات) كان يقترن دائماً بفكرة (الصفة) مقيسة بقيمة الشخص (صاحب الصوت) ومنزلته فى المجتمع وكان (مرسيليو) البادوي، (نسبة إلى مدينة بادوا padua) أقوى من دافع عن هذا الرأي حجة فى العصور الوسطى حتى قال الأستاذ (مكلوين) فى كتابه (تطور الفكرة السياسية فى الغرب) أن (مرسيليو) لم يفكر فى حقيقة الفردية- Individualism - الحديثة لتي تنطوي على فكرة تغلب الأكثرية، بل وعى فى عقله دائماً فكرة (الشعبية) التى كانت تعطى (للصفة) من القيمة ما (للعدد).
أما النظرية الديمقراطية الحديثة فقائمة على فكرة (بنتام) فى أن كل إنسان انما يعمل على الترويج لمصالحه الذاتية، وأنه عندما تتفق أكثرية ما على سياسة معينة، فمن الواجب أن تعتبر هذه السياسة ممثلة غاية ما تنتهي إليه مصلحة العدد الأعظم من الناس. وإلى هذه الغاية ينبغي أن يتجه التشريع. لأنه فى ظل هذا النظام تنكمش تلك الميول الشيطانية التى تحاول أن تغلب مصالح (العدد الأقل) من أفراد الجمعية على مصالح (الكل الاجتماعي) وتضعف تأثيرها إلى أدنى حد ممكن.
على أن هذه النظرية كثيراً ما هوجمت ونقدت. فان (إدمونديرك) الخطيب السياسي المعروف، كثيرا ما تكلم ضد ما سماه (استبداد الأكثريات) فقال: (ان رجحان الأكثرية من حيث العدد لا يتضمن مطلقا رجحانها من حيث الكفاية أو الميل إلى الخير، وحتى لا يتضمن رجحانها من حيث القوة والبطش. والحكمة من نصيب الأقليات إطلاقا، كما أن من نصيبها الإخلاص والاستقامة تغليبا. فى حين ان اليأس والسلطان لا يعوزانها فى أكثر الحالات) وفي هذا تأييد لقول سير (هنري مين) اذ قضى بحكم قاطع (في أن عمل الأقليات، التى كانت فى بعض الاحيان
أقليات ضئيلة، هو الذى كون لإنجلترا صيتها القصي وسلطانها العريض).
ولاحظ الكاتب المعروف (جيمس مارسون): (أنه فى كل الحالات التى تربط فيها المصالح المشتركة أو الشهوات بين الأكثريات تكون حقوق الأقليات فى خطر محقق) وقضى بأن الدواء الوحيد هو أن يوسع أفق الحكم وتقسم الجمعية إلى عدد عظيم من الأحزاب والفرق التى تمثل كل منها ناحية من نواحي المصلحة، كي يتعذر بذلك نشوء ما يسمى (إرادة الأكثرية) بحال من الأحوال. ولقد حاول أحد حكام المديريات فى الولايات المتحدة أن يطبق هذه النظرية ليتقي بذلك شر تحكم الأكثريات، فاتخذ للتمثيل النيابي قاعدة (الملكية) وقاعدة العدد معا، ولقد نجحت هذه (الحيلة) السياسية بعض الشيء فى التوفيق بين رغبة البيض فى الحكم المطلق وتمثيل العبيد فى مجالس النيابة.
ولكن العقدة الحقيقية لم تحل بهذا وحده. فقد فكر حاكم آخر هو الحاكم (كانون) المعروف بمؤلفاته القيمة فى أن يحمي الجمعية لا من استبداد الأكثرية العددية لا غير، بل فى حمايتها من استبداد (الأقليات المنظمة) أيضاً قال كلما كانت المملكة أوسع نطاقا وأوفر فى النسمات عددا، وكلما اختلفت حالات الرعية وتنافرت الأغراض والأهواء، كانت الصعوبة التى تحسها الحكومة فى معاملة رعايها على مقتضى ما تتطلب فكرة المساواة الديمقراطية أعظم وأعقد، وأصبح من الهين على فريق معين من الجمعية أن يستبد بفريق آخر ويعبث بمصالحه ويسلبه حقوقه). وعلى هذا ينبغي أن يقوم أساس التمثيل النيابي على مراعاة (العدد) ومراعاة المصالح. وسمى الأكثرية العددية (الأغلبية المطلقة) وسمى الأكثرية المصلحية (الأغلبية المشتركة) أو بالأحرى (أغلبية التشارك).
على أن لأغلبية التشارك ميزة على الأغلبية المطلقة، أو بالأحرى الأكثرية العددية، تنحصر فى أنها تقلل من متاعب الحكومات بالإقلال من عدد الذين يبرمون المشكلات العامة. ولكن لا يخفى مع هذا أن اختيار الوسيلة التى يجب أن تتبع فى تحديد نسبة معينة للتمثيل النيابي، وفي وقاية الحكومة من طغيان المصالح الخاصة، ثم وقاية الأقليات فى الوقت نفسه، لمشكلة من أعقد المشاكل التى تواجهها الجمعيات الديمقراطية فى العصر الحديث.
ففي ظل النظام الحاضر فى الولايات المتحدة مثلا، يقوم التمثيل النيابي على قاعدة الأكثرية العددية. وهذا على ما يظهر من طبيعة الأشياء أدنى صور الحكم النيابي إلى السهولة، وأبعدها عن التعقيد، بل نقول أنه يلوح فى الظاهر أنه أقرب أشكال الحكم
إلى تحقيق ما تتطلب الديمقراطية من المساواة. ولكن على الرغم من كل ما يلوح فى هذه النظرية من البساطة والغرارة، فإنها غير مطبقة فى الواقع. فان اختلاف الولايات التى تتمتع بالحكم التمثيلي من حيث السعة، كما ان النسبة التمثيلية التى تحتم الظروف أن يجري عليها انتخاب مجالس التشريع، كلاهما يجعل مناقضة هذه القاعدة والفكاك منها أمراً محتوما. ففي احدى وثلاثين ولاية من الولايات المتحدة تقع على شرائط نيابية تجعل حكم الأكثرية العددية مستحيلاً. خذ مثلا لذلك جزيرة رود Rhode فانك تجد ان كل مدينة لا يحق لها أن ترسل الا نائبا واحدا ليمثلها فى مجلس سناتو الولاية. وعلى هذا تجد أن مدينتين مثل (بروفدنس) وتعدادها. . ./ 250 (وبوتكت) وتعدادها. . ./ 64 نسمة تهزمها لدى التصويت البرلماني ثلاث قرى إذا اتحدت مثل (جرينتش) وتعدادها 367 (وفوستر) وتعدادها 905 (وشارلستون) وتعدادها 759 نسمة. أما فى (كونتكوت) فلكل مدينة ممثلان. وبذلك تجد أن مدائن لا يزيد عددها على 250 نسمة تمتع بنفس النسبة التمثيلية التى تمتع بها مدنا عظيمة يزيد تعدادها على 100000 نسمة. وفي ولاية (اوهيو) خمسة أقاليم صغيرة تعدادها 67282 ولها فى الوقت نفسه نفس النسبة التمثيلية التى لغيرها من الأقاليم العظمى مثل إقليم (فرنكلين) ولا يقل تعداد النسمات فيه عن 359459 نسمة. ثم تجد أن أربعة عشر إقليما تعداد نسماتها 226212 يمثلها أربعة عشر نائبا، وإقليما واحداً هو إقليم (كويا هوجا) وتعداده 201842 و1 ليس له أكثر من سبعة عشر نائباً، فزيادة نسبة العدد فى إقليم (كويا هوجا) تبلغ ستة أضعاف ما فى الأربعة عشر إقليما الأولى. ولكن قيمة الأضعاف الستة لا تساوي في تشريع الولايات المتحدة اكثر من ثلاثة نواب.
والمحصل من هذا كله إن جماعات الريف فى الولايات المتحدة تمنح من السلطان فى الحكم والتشريع أضعاف ما تستحق عدديا لينتقص المشرع بهذه الوسيلة سلطان الأكثرية فى المدائن العظمى. ولا يمكن أن يقال مع مثل هذا النظام أن التشريع هنالك خاضع لإرادة الأكثرية العددية. وعلى هذا تجد أن مجالس التشريع فى الولايات المتحدة غير خاضعة لا لما سميناه الأغلبية المطلقة، ولا لما سميناه (أغلبية التشارك)، ولكنها على الرغم من ذلك (ناقصة) من ناحية انها لا تجعل رأي الأكثرية راجحا على الدوام، وهذا النقص آت من ناحية عدم مجاراتها لمفهوم النظريات الديمقراطية القائمة على تغليب الأكثرية العددية إطلاقاً وبلا حساب، بل وبلا تقدير لأية نتيجة من النتائج التى تترتب على تغليب الأكثريات تغليبا يؤدي بها إلى الاستبداد. على ان كثيرا من العوامل ذات الأثر فى أحكام النظام الداخلي فى مجالس التشريع، وفي نظام اللجان، وفي الدور الذى تلعبه الأحزاب بحيلها المعروفة، ووسائلها التمردية يفضي حتما
إلى حالة يخضع معها التشريع، ولو خضوعاً نسبيا، إلى الأقليات الصغيرة.
فهل لنا ان نتساءل: هل تحكم الأقليات العالم متسترة بقناع التعبير عن إرادة الأكثريات؟ وهل الديمقراطية على ما نفهمها من الكتب غيرها لدى التطبيق؟ وهل لنا أن نتخيل ان (الوهم) هو الذى يسوق الناس إلى حيث يريد بهم تفاعل قوى إنسانية مسلطة عليهم؟ وهل لنا مع هذا أن نعتقد ان الاختيار لدى الجماعات أضعف أثرا منه فى الافراد؟ بل نتساءل هل الفردية هى القوة الشاملة التى تحتكم فى نظام الأشياء الإنسانية؟

