-1- فى ذلك المساء بعد تناول الطعام، كانوا يتحدثون فى شرفة (الفيللا) عن الشهرة، وكأن رئيس الأركستر "فينيزيانى" يلقى بسمعه الى الحديث، وعلى ثغره ابتسامة حائرة، يتراءى فيها التهكم واضحا جليا، وبعد صمت عميق، قال:
- الشهرة. . . أوه!. اسمعوا إذن هذه القصة. ليس بينكم من لا يعرف "سيرينى" المؤلف الشاب، المؤلف المسرحى الشهير. وقد أذكر انى سافرت معه من روما الى فلورنسا بالقطار، فأيقظنا عند الفجر، صوت عامل يصيح: "بونتاسياف! بونتاسياف ناحية كسائر النواحي، بل هى محطة عادية، تبعد عن فلورنسا بضعة كيلومترات، وليس فيها ما يستوقف المسافرين أو يلفت أنظارهم، ولكن الأدباء يا سادة ليسوا كغيرهم من المسافرين
- صرخ "سيرينى" بونتاسياف! - ياله من اسم جميل!. . . انه لفى منتهى الرقة والعذوبة والطرافة!!! انه ليبدو لى كل الروعة!!!
ولقد شعرت عند سماعه الشعور الذى أحسه، لو حدثونى عن حديقة "بوبولى" أو جسر "كرايا" !!
ووراء "بونتاسياف" هذه، لست ألمس مدينة فلورنسا بل فيورنزا التاريخية، التى أتخيلها بتلك الحديقة "الميديسية" (1) وقد زخرت بنساء النهضة الفاتنات. وأكاد أسمع فى أعماق نفسى تلك الأنغام الشجية التى تعرف بها قصائد "بوليثيان" (2) الرائقة. "بونتاسياف"!! أشاعر أنت بالجمال السحرى؟ الذى يغمر
هذا الاسم ؟ سأؤمها , سأؤمها , لانى أحبها كما يجب أن تحب, دون أن أعلم لماذا. !!
والمصادفات التى تخدم صرعى الغرام، أبت إلا أن تحقق أمنية عاشق "بونتاسياف" فلم تمض أسابيع، حتى اضطرته الى الوقوف فى ساحتها الكبرى -الوحيدة- أثناء سفره بالسيارة من فينيسيا الى روما، لأن البنزين، كان قد نفد حتى آخر قطرة
وذهب السائق يبحث عن قليل من هذا السائل الثمين, وأخذ "سيرينى" يطوف هذه القربة, فأتم طوافها فى وقت قصير .
وفى الواقع - وهذا ما يدلنا دلالة واضحة على أن أحلامنا بعيدة كل البعد عن الحقيقة!- لم تقع أبصار "سيرينى" على ما يذكره بحديقة "ميدسيس" أو شعر "بوليثيان" !
وداعا أيها الحلم المعسول! حلم "ميدسيس" وقد زخرت بحسان النهضة الفاتنات!. . . ليس فى "بونتاسياف" كلها أثر للخضرة بله المروج
وداعا أيتها الأصداء الشجية، التى تردد أنغام قصائد "بوليثيان" الرائعة، ليس فى "بونتاسياف" الغارقة فى قيلولتها الصيفية: غير نغمة واحدة: بكاء طفل، متواصل، ملح، مزعج يبعث على السأم والضجر، تنفجر قنابله من حانوت صغير فى مؤخر قهوة القرية الحقيرة
وهذه القهوة، دخلها "سيرينى" ، ليدخن بضع لفائف، ويكتب عددا من البطاقات البريدية الى أصدقائه، فلما أتم ذلك كان الملل قد أستبد به، واستولى ولم يرقه قط أن يبصر السائق يعود فى هذه اللحظة ويداه فارغتان. ان العثور على لتر من اكسير الحياة لأسهل بكثير من إيجاد قطرة بنزين فى هذه القرية المتواضعة. . .! والحاجة كالقانون، تملى إرادتها إملاء وتفرض مشيئتها فرضا لابد من إيجاد قليل من البنزين، مهما كلف الأمر، فليعد السائق، وليبحث عن هذا السائل الثمين.
يضجر "سيرينى" ! فيترك سيارته تنعم فى ظل بيت صغير، هو أجمل البيوت، ويخرج الى الساحة الكبرى حيث الشمس تذهب كل ما فيها وتلهبه، ويعود بعد قليل الى سيارته ففيها على الأقل يستطيع أن يأخذ نصيبه من الراحة، فليتمدد فيها، وليرغم نفسه على أن ترضى بما لا تريد، وليتغنى بقطعة شعرية للشاعر"بوليثيان" وليهدئ من حركاته لعل الرقاد يلبى نداءه.
وانه لكذلك، واذا مصراع نافذة فوق رأسه يفتح، وتطل عليه مخلوقة فاتنة. . . تقابلت نظراتهما، فأحدثت فى كل منهما ما تحدثه عادة، نظرات الرجل فى المرأة والمرأة فى الرجل. . وأخذت العيون تبحث عن العيون من طرف خفى حتى اذا تقابلت ازورت، واذا ازورت تقابلت،. . وهكذا تم التعارف بينهما ولم يشاهد أحدهما الآخر قبل هذه الساعة.
وتخاطبت الابصار بلغة سحرية، دون أن تتظاهر بانها تتخاطب، وتفاهمت، دون أن تتظاهر بانها تتفاهم واليكم ما قالته عيون المرأة للشاعر:
- "أنت لطيف جدا يا سيدى! أنت شاب أنيق جذاب من طبقة يندر أن ترى فى ساحة "بونتاسياف" الكبرى.... وبعد دقائق معدودات. يا سيدى الفتان. سيوافيك الشخص الذى تنتظره ولعله امرأة، بل من الؤكد انه امرأة جميلة ترافقك فى السفر. أو تفر معك!
وإذ ذاك. يزأر محرك السيارة. حيث يلتوى الطريق ستختفى الى الابد. أيها الحلم الجميل! ستختفى وأنت من تلك الطبقة التى لا تتسنى لنا مشاهدتها أكثر من دقائق قليلة خلال شقائنا الدائم ونحن بنات الريف التعسات اللواتى قضى عليهن أن يخلقن فى الريف، وأن يتزوجن فى الريف وأن يقضين الحياة فى الريف خاضعات "لأمانة" يرتضينها على غير ارادة منهن...
أيها الشاب الجذاب، الذى سيختفى بعد بضع دقائق! إنه ليلذلى كثيرا، من هذه النافذة أن اتصل بك! والاتصال بك خطيئة النساء اللواتى على شاكلتى.... !!! وقد انبرت لحاظ الشاعر تجيبها:
- "أنت جميلة أيتها المجهولة الفاتنة! أنت جميلة بعينيك البراقتين، وشعرك المسدول! أنت جميلة بهذه الجدائل المجعدة على الطريقة القديمة، وهذا الثوب الأسود الذى ترتدينه أملس مصقول الى درجة تسمح برؤية النقط البارزة فى جسمك البض
وهذه الدانتلا التى تتماشى هذا الصقل وتحده , فى غاية الأناقة والظرف !
وهنا، فى هذه النافذة التى تخفى من جسمك الغض ما تخفى، وتظهر ما تظهر، تتراءين فى وسط الهالة المظلمة التى تكتنفك، فى جمال تمثال، من تماثيل ١٨٥٩، كأنك الهة من الهة العصور القديمة، بهذه الزينة التى لا يعرفها عصرنا، عصر الفساتين القصيرة، وعصر الفوكس - تروت!
لقد أضاع عصرنا ذلك الجمال البالغ!!! وكم تروقين لى، أنا الشاعر المفتون، أيتها السيدة الحسناء! إنك لتملكين ما تجملين به "بوناسياف" أكثر من كل صورته لى مخيلتى!!
وان لك وأنت تتظاهرين بعدم النظر إلي، بينا أنت لا تنظرين الا إلى ان لك وأنت تتصنعين التحديق فى الأفق البعيد، بينا أفقك الواسع ينحصر فى المساحة الصغيرة التى تشغلها سيارتى، ان لك ابتسامة حزينة تفتر عنها شفتاك الرقيقتان اللتأن لم تشعرا بلذعة القبل الملتهبة ولم تتمتما بالجمل المغرية!
أيتها الريفية الحزينة التى زوجت منذ عشرة أعوام، بمن لا تريد: بشيخ البلد! بالطيب! بكاتب العدل! - أيتها المرأة الشقية التى ترتضى أن تقضى فى هذا المنزل قبل أن تعرف الحياة، والتى ترتضى أن تخنق فى مهدها الأحلام المعسولة التى يسرح فى عوالمها قلبها الخفاق، وتحلق فى أجوائها مخيلتها الوثابة، بعد أن رضعت الخيال من القصص والروايات.
أيتها الريفية الحزينة، التى تستطيع أن تجد الحب فى جميع الكتب، ولا تتصور انها تستطيع أن تجده فى غير المدن!
أيتها الريفية الحزينة التى تتحسر على ألا تفهم من الحياة غير واجبات الزوجية، وعواطف الأمومة، والتى تتحدد آمالها كل يوم، وفى مثل هذه الساعة. عند غروب الشمس!
أيتها الريفية الحزينة التى تبحث من فتحة هذه النافذة عن قليل من الهواء، وقليل من الفضاء، وعن قطعة من السماء، تبصر فيها النجم يشعل زهرته المتلألئة!
أى مدام "بوفارى" (1) أى حرقة تعتلج فى صدرك عندما تدركين ان الأسفار الجميلة التى تحلمين بها، لن تتحقق منها غير هذه الوقفة الكئيبة التى تقفينها كل يوم، عند هذه النافذة!
أى مدام (بوفارى) "بونتاسياف" ! ما أروع حب الاستطلاع الذى تنم عنه عيناك! عيناك اللتان تنظرأن إلى، دون أن تتظاهرا بالنظر إلي! عيناك اللتان تتكلفان البحث فى البعد عما لا أدرى وهما لا تبحثان فى الحقيقة إلا عنى، أنا الجالس فى هذه السيارة التى جاءت من حيث لا تدرين!
آه! لو كان يستطيع رجل مثلى أن يقف هنا، أو لو كنت تستطيعين أن تنزلى اليه وتركبى الى جانبه فى هذه السيارة وأن تختفى معه هنالك حيث يلتوى الطريق عند تلك النقطة التى تمثل حد العالم الذى أذن لك أن تعرفيه حتى اليوم! آه لو كنت تستطيعين أن تذهبى معه. وألا تعودى بعد اليوم... !
-2- هكذا تناجت منهما العيون، وقد طالت بينهما المناجاة لان البنزين كان ما يبرح صعبا إيجاده، حتى فى ضواحي "بونتاسياف" ، وسيرينى الذى بلغ من الشهرة حدا قصيا، واعتاد أن يعرفه الناس فى كل مكان، طفق يحدث نفسه يقول: "لا شك أنها عرفتنى، لأن رسمى كثيرا ما ينشر فى الصحف والمجلات، وهذه نظراتها التى لا ترفعها عنى تدل بوضوح على انها تعرف من أنا!. . وهى مهما كانت "بوفارية" لا يمكن أن تنظر بهذا الشكل الى رجل عادى، يمر فى طريقه بنافذتها!
ولا بد أن تكون قرأت لى، وقرأت لى كثيرا لان ساعات الفراغ فى الريف أطول منها فى المدن، وإذن فللنساء وقت كاف فوق الكفاية، لأن يلتهمن الكتب مكاتب، مكاتب!!
وما دامت فلورانسا على قيد خطوتين من "بونتاسياف" فمما لا ريب فيه أنها ذهبت الى مسارح التمثيل وأبصرت بعض رواياتى تمثل فيها، وربما رأتنى عندما يستدعينى المتفرجون الى المسرح لأحييه ويحينى بين عاصفة من التصفيق والهتاف!"
وفى هذه اللحظة ظهرت فى النافذة امرأة مسنة، أحاطت بوجهها هالة من الشعر الأبيض. فنظر اليها "مارك سيرينى" واستأنف حديثه مع نفسه:
"من المؤكد ان هذه المرأة أمها فهى تشبهها كل الشبه، وهذه ابنتها تسر فى أذنها وانى واثق أنها تقول لها: "أترين هذا الرجل هو (مارك سيرينى) الكاتب المسرحى الشهير!!. . أجل، لاشك انها قالت لها ذلك أو شيئا يماثله، لأن الأم أيضا أخذت تنظر إلى ولا ترفع بصرها عنى!! أنظرا إلى!. . أنظرا إلى!. . أيتها السيدتأن العزيزتان ترى هل أروق فى أنظاركما؟
أنظرا إلى ولا تغضا الطرف عنى حياء (وخجلا) فقد فرض على أصحاب الشهرة أن يمتع الناس نظارهم بهم!! "
اختفت الأم، ولكنها لم تلبث أن عادت، وفى يدها مجلة عرف من جلدها الأزرق إنها مجلة "الالليستراسيون" وفتحت الأم المجلة على حافة النافذة وأشارت بيدها الى صفحة فيها، تلفت أنظار ابنتها اليها، ثم عادت الى التحديق فى الشاعر: "لا شك انهما تقابلان بين رسمى المنشور فى المجلة وبين وجهى...
أجل أيتها السيدتان أنا هو "مارك سيرينى" لحما ودما. . أنا هو "مارك سيرينى" الذى لم يك ليخطر له أن من الممكن أن تضطره المصادفات للوقوف فى "بونتاسياف" . . . أنا هو "مارك سيرينى" الذى سيرحل بعد قليل، ولكن بعد أن يكون قد ترك قلبه فى هذه النافذة، لأنه شاعر، والشاعر مجنون، وهو هو هذا الجنون الذى أطبق عليه، وجعله مفتونا بك أيتها المجهولة المغرية، الى حد الوله!! " وله؟. . . واكثر من ذلك أيضا! هكذا فى طرفة عين؟. . هكذا فى طرفة عين!
ولقد استحال عدم اصطباره الى شىء آخر، حتى إنه لم يستطع أن يخفى استياءه، عندما أبصر السائق يعود بعد أفول الشمس، وفى يده وعاء فيه قليل من البنزين، حصل عليه بأعجوبة من سائق استوقفه على قارعة الطريق
وأخذ "سيرينى" يحدث نفسه: "لماذا وجدت البنزين أيها الأبله!. ألم تحدثك نفسك أن سيدك أمسى لا يرغب فى الابتعاد عن هذا المكان؟ وانه هنا وتحت هذه النافذة يمتع نفسه بالنظر الى عيون حسناء مغرية؟
لقد كان خيرا له أن تعود فارغ اليدين ما دام قلبه قد امتلأ!! " ولكن السائق الذى لم يك نبيا ولا يمت الى نبى بصلة النبوة ولا صاحب كرامة تسمح له أن يشعر من مسافة ثلاثة كيلومترات أن سيده صار فجأة لا يرغب فى البنزين لم يفهم التأنيب الخفى الذى يسدده اليه سيده لانه بذل كثر مما فى
وسعه حتى حصل على الوسيلة التى ستمكنه أن يرقد براحة وهدوء فى سريره الوثير بروما!
علام هذا الصمت. . .؟ ما باله لا يتكلم والشمس توارت، والليل جن؟
أشعل الضوء فى غرفة المجهولة الحسناء، فلم يعد فى الامكان تمييز وجهها الجذاب وعينيها الدعجاوين وغدا شبحها يتراءى أغبر قاتما وهذا الشبح لم يك أقل جمالا من وجهها وعينيها فهذا رأسها قد اتكأ على ساعديها بهيئة جميلة. تهيأ كل شىء وأشعلت الفنارات!. . . فوا أسفاه على الزمن الماضى زمن الفنارات التى تضاء بالاسبتلين! ذلك الزمن الذى كان يضيع الانسان فيه وقتا طويلا ليجد ما يلزمه من ماء وكارببر! فلا يحصل على ما يريد إلا بعد الغضب والصخب. .
ولكن المرء اذا كان عاشقا ولا سيما اذا كان يرغب عن السفر فان الفنارات القديمة تستطيع أن تؤدى له خدمات عظيمة. وداعا أيها الحلم المعسول!
أخذت السيارة تجأر وأخذت تعدو وأخذت تبتعد وما زالت تجأر وتعدو وتبتعد حتى اختفت عند النقطة التى يلتوى فيها الطريق
ترى هل يعود الى (بونتاسياف)؟ فابتسم (سيرينى)... لن يعدم سببا للعودة...
-3- لم يعد فى الحال، ولكنه عاد!!! كان للشاعر فى أحد أدراج مكتبه بروما رواية لم يتم منها إلا بضعة مشاهد. وهو مؤلف نشيط خصب الانتاج سريع العمل الى حد يفوق التصور ولا شك أن هذه الصفات تبلغ حدها الأسمى اذا كان الحب يلهب منه الدماء ويسعر فى قلبه الضرام...
وكان اذا أخذوا عليه حبه, لا يتردد فى الاجابة: "يخفف المغرمون عن أنفسهم بالتنهد, أما أنا فبالكتابة ...! احصوا احصوا رواياتى تجدوا كل رواية بامرأة..."
ولما لم يكن للرواية الأخيرة امرأة. فان تقدمها كان بطيئا جدا. . . أما الآن وقد غدا وجه تلك الريفية الحسناء لا يفارق مخيلته فان الشاعر اكتشف الينبوع الذى يستمد منه وحيه وإلهامه، وفى وقت أقل من القليل، أتم الرواية، ونقلها وقرأها لأصدقائه المخلصين. وراحت الصحف، تعلن عنها بحروف
بارزة , انها اعظم حادث مسرحى, لذلك الموسم .
وما كاد يذاع هذا النبأ الخطير، حتى هرع الى "سيرينى" عدد كبير من رؤساء فرق التمثيل، وعرضوا عليه مسارح روما، وميلانو وتوران ونابل لتقوم أشهر الفرق بتمثيلها للمرة الاولى. وكان بين المتسابقين ممثل فرنسى شهير، حاول أن يحتكر تمثيل هذه الرواية الرائعة لفرقته، ولم يطلب لذلك أكثر من المدة التى تكفى للترجمة، وقد بذل جهودا عظيمة لينيل باريس شرف تمثيلها لأول مرة، ولكنه لم يفلح.
وتقدم رؤساء آخرون يعرضون مسارح برلين وفينا ولندن لأن "سيرينى" كانت له شهرة اوربية لا تقف عند حد، وقد سرت عدوى هذه الحميا الى إحدى صاحبات العروش، فأسرعت الى عرض مسرح البلاط الملكى!
أما الشاعر فقد كان يلازم الصمت، ولا يجيب بحرف، وكل ما فعله أنه أوعز الى سكرتيره الخاص بتسجيل أسماء المدن التى تعرض عليه. وتجمع عليه أصدقاؤه وألحفوا عليه فى السؤال:
- أى المدن اخترت ..؟ روما؟ ميلانو ؟ فلورانسا؟ توران؟ نابلى؟
وكان " سيرينى " لا ينبس ببنت شفة , وإنما كان يجيبهم بهزة رأس تدل على النفى كل الدلالة !
- إذن. هل اخترت مدينة أجنبية؟ باريس؟ برلين؟ فينا؟ لندن.
ولكن الشاعر لبث صامتا، رأسه وحده كان يتكلم! - فانفجر أحد أصدقائه وقال: إذن. . إذن أين؟؟ - هل اخترت مسرح "الماريونيت" ؟. . مسرح "الفينيول" ؟
أخذ " سيرينى " يبتسم بوداعة وسكينة وأخيرا أجاب : - ستمثل روايتى؟ لأول مرة فى "يونتاسياف" !! فى "يونتاسياف" ؟؟؟
دهش الجميع، وطفقوا يحتجون فى غير هدوء ولا سكون، أما "سيرينى" فانه لبث يبتسم ابتسامته الغامضة ويعيد فى غير ملل:
- قلت لكم فى "بونتاسياف" !!!. . . كفى!!! ولم يستطع أحد بعد ذلك أن يستدرجه الى قول جملة غير
هذا، فتسارع أصحاب المسارح ورؤساء الفرق والممثلون وسفراء الملكات الى داره ليروا: أمازح هو أم جاد؟ أم اعتراه جنون مزاح؟. . . كلا!. . ان "سيرينى" وهو جالس الى منضدته يعيد بدون ملل: "ستمثل روايتي لأول مرة فى "بونتاسياف"! وقد زاد على ما تقدم: "هاهى مستريحة فى هذا الدرج، على غاية ما ترون من الصحة، ولم يصف لها أى طبيب تبديل الهراء اللهم إلا اذا كان هواء "بونتاسياف"
فأخذ بعضهم ينظر فى وجوه بعض والدهشة ترفع من عيونهم الحواجب، وتقطب الجبهات، وشرعوا يتساءلون عن سبب هذا العناد، فاختلفت آراؤهم وتضاربت، ولكن أحدا منهم لم يستطع إدراك الحقيقة.
وقد أسرع رؤساء شركات التمثيل بالرجوع الى القطار لانه
لم يك بينهم من يفكر فى "بونتاسياف" عادوا مخفقين وأكثرهم كان قد تعاقد سلفا على تمثيلها فى أشهر المدن وأكبر العواصم!
ولكن تمثيل رواية جديدة، للمؤلف المسرحي الشهير "مارك سيرينى" عملية رابحة، تدر الذهب الكثير فهل يتركها الجميع؟ كلا لقد قبل أحدهم -وكان أمريكيا- أن يمثلها لاول مرة فى "بونتاسياف" لأنه بحساب أمريكى، رأى أن هذه العملية ستدر عليه أرباحا أمريكية أيضا. . وهكذا تعاقد مع المؤلف ووقع الاتفاق، ولما كانت شركات التمثيل المنظمة لا تستطيع أن تذهب بممثليها الى "بونتاسياف" حيث لا عمل لهم، فقد وعد أن يهيئ فى ثمانية أيام، فرقة خاصة لتقوم بتمثيلها ثلاث ليال متواليات. . . وبعد ستة شهور يمنح امتياز الرواية للفرق العادية لتمثلها فى كبريات المدن وأمهات العواصم.
لها بقية - حلب
