-تابع-
وفعلا, لم تمض ثمانية أيام حتى كانت الغرفة قد أعدت! وهذا الحادث العظيم , هذا الحادث الغريب , حادث اصرار "مارك سيرينى" على أن تمثل روايته الحديثة ولاول مرة , فى قرية حقيرة لا يتجاوز عدد سكانها الخمسة الآف نسمة , هذا الحادث الذى لا يصدق , أثارت الصحافة حوله صحة كبرى , اقتحمت حدود إيطاليا وأقلقت صحافة أوروبا بأسرها . ولقد كانت هذه القضية رنانة كسائر قضايا "مارك سيرينى" ورنانة أيضا , كانت عودة رئيس الشركة الامريكية من "بونتاسياف" إلى "الستيديو" حيث كان المؤلف, وسيجارته فى فمه، ممتدا على أريكة وثيرة : يفكر بسيدة النافذة الشهية !!!
-كل شىء الا هذا !... لقد ذهبت اتعابنا أدراج الرياح انى أعود من " بونتاسياف" اذ ليس فيها مسرح !!! - ليس فيها مسرح ؟ هذا أمر عديم الاهمية : ان بناء ممسرح لا يستغرق أكثر من شهر , وهو الوقت اللازم للحفظ والمراجعات
- ماذا ...؟؟؟ بناء مسرح جديد ؟... وفى ظرف شهر واحد ؟؟؟ لم يتحرك "سيرين" نظر إلى طاولة عليها رزنامة من المعدن اللماع . وقال:
- أجل , فى شهر واحد !... نحن الآن فى سبتمبر , ولن يزال البرد شديدا حتى فى أكتوبر فى هذه البلاد ,... وبعد , فان بناء مسرح خشبى يتسع لألفين شخص , لا يمكن
أن يستغرق أكثر من ثلاثة أسابيع -وتزيينه ...؟ وتنميقه ؟ فى ثلاثة أسابيع؟ لن يكون هذا المسرح سوى براكة. هنا انتفض "سيرينى" وأجاب بلهجة قاسية : لن يتسابق الناس لمشاهدة المسرح , بل لمشاهدة روايتى !!!
-4-
لنختصر : لم ينتجع وسيلة لحمله على تغيير رأيه , ولو كان رئيس الشركة التى تعاقد معه إيطاليا , لترك الارباح التى قد تنجم عن هذا الاتفاق , ولترك المؤلف يسدر فى عناده وجنونه، ولكنه كان أمريكيا , والامريكيين عقل خاص , وتفكير خاص يميزانهم عن غيرهم . ولم يمض شهر , حتى كان كل شىء قد تم : حفظت الرواية وروجعت واقيم المسرح فى بقعة جميلة
أما ما جرى فى "بونتاسياف" فى ذلك الوقت فأمر لا يستطاع تصويره أو وصفه , ولا شك أن بينكم اناسا وجدوا فيها ، فى ذلك الحين , وهؤلاء وحدهم يستطيعون أن يذكروا كيف احلت الغرف المعدة للايجار احتلالا لا يفرق عن الاحتلال العسكرى بشىء , وكيف ان الجموع الغفيرة تسابقت الى فلورانسا والى "اريزو" لتبحث لها عن مبيت , وكيف انها عادت الى "بونتاسياف" لتحضر تمثيل الرواية , وتعود بعد منتصف الليل الى إحدى المدينتين المذكورتين .ولاشك انهم يذكرون ايضا انه كان بين المتفرجين اناس تقاطروا من اقصى البلاد. بينهم كثير من النقاد المسرحيين , ورؤساء شركات التمثيل.
الاجنبية .... وقد كان بينهم صحفيون اضطروا خدمة للفن ان يبيتوا ليلة كاملة فى القطار , وان يضيعوا يوما كاملا فى ساحة "بونتاسياف" وان يمضو اليلة ثانية متعبة , فى دائرة البرق , حيث ظن عامل التلغراف المسكين , ان الساعة اقتربت , وان القيامة قامت !!!
وليست هذه بالمعركة الاولى التى استبسل فيها "مارك سيرينى" بطبعه الهادئ الرزين , ولكنها كانت أشد المعارك كلها وأحماها وطيسا , لأن تلك الرغبة الشاذة , التى شاءت أن اضطر محبى الفن للمجىء الى (بونتاسياف) تركت أسوأ الاثر فى النفوس , حتى أن القادمين كانوا على أتم استعداد لائن يثأروا لأنفسهم !
وهكذا فانه قبل أن يرفع الستار بساعتين , أسرع أصدقاء سيرينى) اليه , وأخبروه أن الجو مكهرب , وأن عواصف السخط والغضب لن تلبث أن تصدم الرواية صدمة عنيفة , ربما كانت لا تقوى على احتمالها ، ولكن المؤلف أجابهم بلهجة حازمة :
- إذا كانت لديهم سهام فليسددوها !!!.. واذا كان لديهم قنابل فليقذفوها !!!.. أما أنا ففى غنى عن آرائهم : لا يهمنى هذا المساء , غير رأى شخص واحد ! - امرأة ؟ - طبعا !!!.. ومن تريدون أن يكون اذن ؟.. وزير ؟؟ ولم يزد على ذلك كلمة لأنه كان يحرص كل الحرص على أن يخلص بسره لنفسه .. أما الناس فقد ذهبوا فى الظن كل مذهب..
-5-
ومع ذلك ، ورغم هذا الحرص فانه لم يضن على به .. من مادة (سيرينى) أن يتخلف عن حضور رواياته , عند تمثيلها لأول مرة , ومن عادته أيضا أن يدور حول المسرح كما تدور الفراشة حول الضوء , حتى إذا أخذ اللهيب بأحد أجنحتها لجأت الى الهرب فاذا نسيت اللهيب وأثره فى جسمها . عادت تحوم حول الضوء وحول الخطر , و(سيرينى) يحاول أن يتظاهر بالهدوء . وأن يتحدث عن أشياء لا مساس لها بالرواية حتى اذا أصابها الاخفاق . فقد رزانته وشرع يصب جام غضبه طيلة الليلة بكاملها على تلك الجموع المأفونة التى لا تقدر الفن . ولا تفهمه , ولا تستحق ان تفهمه , ورماها بأقبح الوصمات وأشنعها
أخذنا نتنزه سوية , ذلك المساء فى ازقة القرية التى استحالت فى ساعة من الزمن الى ميدان تتزاحم فيه السيارات , ويتكدس بعضها فوق البعض الآخر . وكان الشاعر يبتسم , ويطلعنى بهدوء على الاسباب التى حدت به لأن يثير عليه سخط تلك
الجموع الغفيرة , وكان يقول لى وهو يضغط على يدى :
- أفهمت ؟.. أفهمت ?.. انى اذا كنت اصررت الا تمثل روايتين لأول مرة الا فى "بونتاسياف" فلأنى أريد أن أستثير اعجابها !!.. تلك هى الغاية الوحيدة التى أرغب فى ادراكها من غرامى الغريب!
- آه...! لو انك رأيتها فى ذلك اليوم , لصهرك حبها رغم ما أنت عليه من "برود" وبعد , فأنا لست أعتقد ان بين الذكور , رجالا ينطبق عليهم هذا الوصف , وإنما هم جميعا فى نظرى , برا كين هادئة . تثيرها مشاهدة امرأة , وتجعله أشد هياجا , من البراكين الدائمة الاستعمار ! آه .. لو رأيتها وهى تطل من فتحة النافذة !.... ها .... ها هى .... نافذتها!
كانت نافذتها مغلقة , وهى ذات درفات خضر , وواجهة وردية .... كانت محكمة الغلق , لا يتسرب من خصاصها أقل بصيص نور , فسر "مارك" لذلك وتال بلهجة المنتصر:
- لم يبق أحد فى داره !... لقد ذهبت "المدينة" بأسرها لمشاهدة روايتى !.. وهى , هى ... هى فى هذه الساعة , هناك , مأخوذة بجمال روايتى وقوتها , تكتسحها موجة الاعجاب التى أردت أن أتغلب عليها بها .. انى اقدم لها فخرا لا يعدله فى العالم فخر ... اقدم لها عيدا , بل مهرجانا لا يحلم به احد !... أى سحر ...؟ واى عيون ؟؟؟ آه !..
انى لا أتمنى الا أن تبادلنى الحب هذه الريفية الحسناء , أنا الشاعر المتعب .. أنا الشاعر الفتان , الذى تضايقه النساء , وتطارده تلك النساء اللواتى تجملهن المساحيق , وتزينهن "الكريمات" المختلفة تلك النساء الكئيبات , اللواتى يلبسن جوارب بمائتين فرنك فقط .. تلك النساء الفارغات القلوب , كبطونهن التى لايملأنها خشية السمنة !!!
ان سيدة النافذة , على نقيض هذا كله : هى بسيطة رشيقة حقيقية الجمال , لها نفس , ولها قلب , ولها مواهب , ولها نباهة ولقد قرأت فى عينيها ذلك الاعجاب اللامتناهى الذى تخصنى به وتسبغه على !
وأنا موقن ان هذه الحسناء قرأت رواياتى كلها , وانها أصبحت تعرفها ولكن معرفتها بها لا يجوز ان تقارن بمعرفة صديقاتى المعجبات - باركهن الله - بما وضعت من روايات ..
تلك الصديقات اللواتى يتسارعن لمشاهدة رواياتى عندما تعرض للتمثيل لاول مرة , وكانهن يتسابقن "ليجبرن خاطرى".. حتى إذا بدا التمثيل اخذن فى الثرثرة والمغازلة مع عشاقهن فى زوايا المقصورات: انهن لايتقاطرن على المسرح من اجلى , او من اجل رواياتى .. كلا !.. بل ليعرضن على الانظار اثوابهن الحديثة !.
وألقى نظرة اخيرة على درفات النافذة ، ثم اخذ يتجه نحو المسرح , كما يتجه الفراش نحو الضوء.
- انى احبها .. احبها حتى العباده !.. ولاجلها وضعت هذه الرواية , وقد وضعها بعاطفة لم اشعر بمثلها من قبل !.. اقسم لك على ذلك !... تصور .. تصور انك ذات مساء , تبصر بين الحضور المرأة الوحيدة التى تحبك وتعجبك اعحابا لا يحد بحدود , ولا يقاس بقياس , تصور ذلك , وقل , ألا تدير " السانفونى " التاسعة ادارة لا تحسن مثلها فى كل وقت ؟ ألا تخرج منها ما لم يحلم " بتهوفن " نفسه أن يخرجه منها ؟؟ اذن .. انا اليوم احارب هذه الجماهير كلها . من اجلها هى إنا احارب باسمها وبجمالها !
ان رواياتى انما هى معارك , وحروب , وسباقات , اذن فهى لا تبعث على التثاؤب والملل , وإذن فهى لا تدع المتفرجين هادئين ساكنين ، بل تحرك ما فى نفوسهم من عواطف وميول وتحملهم على التفكير
ماذا ؟ انتصار ؟. لم نكد ندرك المسرح , حتى هرع الينا بعض الأصدقاء.
- انتهى الفصل الثانى منذ قليل نجاح لا مثيل له !.. انتصار لا يعدله انتصار!.. ولكن اى جمهور فى بدء التمثيل ؟ جمهور عبوس حذر , الا انه لم يلبث ان حفف من حدته بالرغم منه حتى اذا كان التمثيل , لم يتمالك أيديه عن التصفيق وألسنته عن الهتاف : وهكذا , لم ينته الفصل الاول حتى ثارت عواصف التقدير , وانفجرت قنابل الاعجاب . أما الفصل الثانى , فهو الذى أتم الانتصار وجعل الستار ينزل بين رعود من التصفيق الحاد المتواصل, والهتاف العالى القاصف !!!.. وقد اضطرت الممثلة " تيريز اندريانى " أكثر من عشر مرات متوالية ان تعود الى المسرح لتحية الجماهير المعجبة ..
لها بقية - حلب
