الرجوع إلى البحثالذهاب لعدد هذه المقالة العدد التاسعالرجوع إلى "الرسالة"

الزامر الاعمى

Share

جلست إلى دواوين الشعر التركى أقلب الأجيال بين يدى : اطالع مرة وجه "نجاتى" و "ذاتى" وأنظر أخرى الى "باقى" و "نفعى" وثالثة أرى "نديما" وراغب باشا " و "الشيخ غالب" ثم أعمد الى العصور الاخيرة فاذا اسناسى و "نامق كمال" و "ضيا باشا" و "توفيق فكرت" و "عبد الحق حامد" وغير هؤلاء .

وبينا أطوى العصور باللمحات , وأقلب الاجيال تقليب الصفحات , بصرت " بالصفحات " ديوان الشاعر الكبير صديقى الكريم محمد بك عاكف . فسارعت الى الجزء الاول فانفتح عن قطعة عنوانها " الزامر الاعمى " فقراتها ثم عمدت إلى القلم فترجمتها نثرا اذ ضاق الوقت دون نظمها وأنا أقدمها للقراء كما جاءت عفو البديهة فى الاختيار والترجمة : الزامر الأعمى

كنت أرى هذا السائل الضرير , يتأبط ذراع قائده , وفى يده قصبة عتيقة , ينبعث منها صوت قوى , كأنه النواح فى المأتم . ويمر به الناس فيقفون ويستمعون رحمة به ورثاء له . ثم يلقى كل منهم الى كشكوله البائس الذليل خمس بارات أو عشرا .

كان يبعث أناته فى قصبته المرضوضة فينبعث إلى أذنه فى  رنين العشرات والخمسات صدى البشرى، ورسالة المودة، رنات  لا تفنى فى أنين الناى الحزين، ولكنها تؤلف نغمة أخرى  تسايره. كم أحزننى هذا الصوت! وكم أمضى ذلك المرأى الأليم!

إنه من دهره فى ليال متتابعة مديدة، لا يتنفس فى آفاقها  المظلمة صبح، ولا يلوح فى وجهه لمحة من النور، تحدث عن  بسمات الرجاء والأمل. كلا. إن هذا الوجه الأغبر، هذا الوجه  التعس قد أقتمت فوقه سحب متراكمة من الشقاء: ماضيه ظلام،  وظلام مستقبله. سله عن الحياة فهى حقيقة مظلمة مديدة. تراها  نظراته حجابا من الظلمات دون حجاب. انه لا يبصر المصائب،  ولكن كل شىء حوله مصيبة، يمتد به العمر الشقى فى هذا العالم  البائس، ويتحسس ظلامه الذى ما ينتهى فلا يظفر بطريق تخرجه  إلى صبح الأمل المسفر.

وعلى كتفيه مزق من عباءة بالية قد اتخذها مجنا فى عراك الأيام، ولكن يد الريح العابثة تنازعه هذا الستر كلما هبت، فتكشف عن كتفيه، وتلقى بصدره أمواج المطر والبرد.

بينما أخرج السوق بصرت بسائل يبعث أنينا حزينا، وهو متكئ على أحجار تغشاها أوحال. وتحته حصير أبلاه مر الأيام  ولا يظله إلا طنف (سبيل) هناك. ولكن صوت الناس لا ينطلق  الآن بعيداً، وإنما سمعت عن كثب صدى كنسيس المحتضر.

ليت شعرى أكان يزمر لنفسه أم كان يئن؟ لا أحد يسمع  له! ولا أحد يقف عنده! ولكن المارة يلقون إليه بنظراتهم  ثم تمضى بهم السبل. ومن ذا الذى يصيخ إلى صدى تلفظه المقابر؟  أيها المسكين! وطّن على الموت نفسك! واقطع أنات الشكوى.  لا لا. أصخ! قد سمع فى الكشكول رنينا مديدا! يا لها نغمة من الرجاء مطربة! يا لها بشرى أستمع لها القلب والأذن معاً.

الماء يخترق الطنف، فينسكب المطر من ثقوبه فيضرب الكشكول البائس! سمع الأعمى الصوت فحسبه نبض الرحمة قد  جاشت به قلوب المارة. فمد يده، مدها إلى الكشكول، ولكن هيهات! قد خاب رجاؤه، وكذب ظنه، ارتدت يده المتجمدة من البرد! ارتدت إليه فارغة مبتلة!

اشترك في نشرتنا البريدية