رجعت إلى أوراق لى قديمة , يبلغ عمرها ثلاثين سنة أو ولو أذها , تريد قليلاً أو تنقص قليلاً وجعلت أفلى هذه الأوراق واحدة واحدة , فاذا أنا على أطلال الأيام فى مدينة قائمة من تاريخى القديم , نائمة تحت ظلهاتها التى كانت أنوار عهد مضى ؛ وإذا أنا منها كالذى اغترب ثلاثين سنة عن وطنه ثم آب إليه , فما يرى من شىء كان له به عهد فى أيام حدئانه ونشاطه إلا اتصل بينهما سر . ومن طبيعة انقلب العاشق فى حنينه أن يجعل كل شىء يتصل به كأنه ذو قلب مثله له حنين ونجوى !
وذلك التلاشى المحفوظ فى هذه الأوراق , يحفظ لى فيها وفيما يحتويه نفساً وطبيعة كانتا نفس شاعر وطبيعة روضة , فى عهد من الصبى كنت فيه اتقدم فى الشباب وفى الكون معاً , كأن الأشياء بخلق فى . خلقاً آخر ؛ فاذا قرضت شعراً واستوى لى على ما أحب: أحتست إحساس الملك الذى يضم إلى مملكته مدينة جديدة ؛ وإذا تناولت طاقة من الزهر وتأملتها على ما أحب , شعرت بها كأجمل غانية من النساء توحى إلى وحى الجمال كله ؛ وإذا وقفت على شاطئ البحر ترجرج البحر بأمواجه فى نفسى , فكنت معه أكبر من الأرض وأوسع من السماء . أما الحب ... ؟ أما الحب فكانت له معانيه الصغيرة التى هى كضرورات الطفل للطفل , ليس فيها كبير شئ ، ولكن فيها أكبر السعادة ، وفيها نضرة القلب
عهد من الصبي كانت فيه طريقة العقل من طريقة الحلم ؛ وكانت العاطفة - هى عاطفة فى النفس , وهى فى وقت معاً خدعة من الطبيعة ؛ وكان ما يأتى ينسى دائماً ما مضى ولا يذكر به ؛ وكانت الأيام كالأطفال السعداء ، لا ينام أحدهم إلا على فكرة لعب ولهو ، ولايستيقظ إلا على فكرة لهو ولعب ؛ وكانت اللغة نفسها كان فيها ألفاظا من الحاوى ؛
وكانت الآلام - على قلتها - كالمريض الذى معه دواؤه المجرب وكانت فلسفة الجمال تضحك من فيلسوفها الصغير , الواضح كل الوضوح , المقتصر بكل لفظ على ما يعرف من معناه , المتفلسف فى تحقيق الرغبة أكثر مما يتفلسف فى تخيل الفكرة !
هو العهد الذى من أخص خصائصه أن تعمل , فيكون العمل فى نفسه عملاً , ويكون فى نفسك لذة
فى أوراق تلك بحثت عن قصة عنوانها (( الدرس الأول فى علبة كبريت )) كتبتها فى سنة١٩٠٥، وأنا لا أدرى يومئذ انها قصة يسبح في جوها قدر روائى عجيب , سيأتى بعد ثلاثين سنة فيكتب فها السطر الأخير الذى تتم به فلسفة معناها وهأنذا أنشرها كما كتبتها ؛وكان هذا القلم إذ ذاك غضاً لم يصلب , وكان الغصن تميل به النسمة , على أن أساس بلاغته قد كان ولم يزل , بلاغة فرحه أو بلاغة حزنه ؛ وهذه هى القصة :
" عبد الرحمن عبد الرحيم " غلام فلاح , قد شهد من هذه الدنيا تسعة أعوام , مرت به كما يمر الزمن على ميت لا تزيده حياة الأحياء إلا إهمالاً ؛ فنشأ منشأ أمثاله ممن فقدوا الوالدين , وا نتزعوا من شملهم فتركوا للطبيعة تفصلهم وتصلهم بالحياة , وتضيق لهم فيها وتوسع
وهيأت الطبيعة منه إنساناً حيوانيا ً, لا يبلغ أشده حتى يغالب على الرزق بالحيلة أو الجريمة , ويستخلص قسوته كما يرتزق الوحش بالمخلب والناب ؛ ولن يكون بعد إلا مجموعة من الأخلاق الحيوانية الفاتكة الجريئة ؛ فان الطبيعة متى ابتدأت عملها فى تحويل الانسان عن إنسانيته , نزلت به إلى العالم الحيوانى ووصلته بما فيه من الشر والدناءة , تم لا تترك عملها حتى يتحول هو إليها
وألف " عبد الرحمن " فى بلده حانوت رجل فقير ، يستغنى بالبيع عن التكفف وعن المسألة ؛ فكان الغلام يكثر الوقوف عنده , وكان يطعم من صاحبه أحياناً كرزق الطير , فتاتا وبقايا ، إذ كان الغلام شحاذاً , وكان صاحب الحانوت
لا يرتفع عن الشحاذة إلا بمنزلة تجعل الناس يتصدقون عليه بالشراء من هناته التى يسميها بضاعة : كالخيط والابرة , والكبريت واللح , وغزال للولد , وكحل للصبايا، ونشوق للعجائر نسخة الشيخ الشعرانى , وما لف لفها مما يصعد ثمنه من كسور المليم ، إلى المليم وكسوره !
و تغفله الغلام مرة , وأهوى بيده إلى وذخائر الحانوت ، فالتقظت " علبة كبريت "، كان الفرق كل الفرق بين أن يسرقها وان يشتريها نصف مليم . ولكن من له " بالعشرين الخردة "؟ وهل عند مثله دينار من الذهب يرن رنيناً ويرقص على الظفر رقصة إنجليزية
وماذا يصنع بالعلبة ؟ همست نفسه أن تجادله ولما تسكن رعشة يده من هول الاثم . ولكن الغلام كان طبيعياً ولم يكن فيلسوفاً ، ولذلك رأى أن يحرز الحقيقة بعد أن وقعت يده عليها . وقد اصطلح الناس على أن مادة السرقة هى " مد اليد" أخطأت أم أصابت, وجاءت بالغالى أو جاءت بالرخيص: فضم أصابعه على العلبة وانتزعها , وترك فى مكانها فضيلة الأمانة التى لم يعرف له الناس قيمتها , فهانت كذلك على نفسه , وانطلق وهي تناديه :
أيها الغلام , أتدفع ثممن علبة الكبريت سنتين من عمرك، وهل خلا الناس ممن يعرفون لعمرك قيمة ؟
وارتد رجع الصوت الخفى إلى قلبه من حيث لايشعر , فضرب قلبه ضربات من الخوف , ونزا نزوة مضطربة ؛ قالتفت الغلام مرة أخرى , ثم أمعن فى الفرار وترك الأمانة تناديه :
أيها الغلام , إن لك فى الآخرة ناراً لاتوقد بهذا الكبريت، ولك فى الدنيا سجن كهذه العلبة , فالعب العب مادام الناس قد أهملوك , إلعب بالثقاب الذى في يدك فسيمتد فيك معنى اللهب حتى يجعل حياتك فى أعمار الناس دخاناً وناراً, وستكون أيامك أعوادا كهذا الكبريت تشتعل فى الدنيا و تحرق
وكان أذناب السياط كانت تلهب ظهر الغلام المسكين , ولكنه ما كاد يلتفت هذه المرة حتى كان فى قبضة صاحب الحانوت, وإذا هو بكلمة من لغة كفه الغليظة , خيلت له
فى شعرها أن جداراً انقض عليه , وتلتها جملة من قوافى الصفع جلجلت فى أذنيه كالرعد , وأعقب ذلك مثل الموج من جماعات الأطفال أحاط به , فترك هذا الزورق الانساني الصغير يتكفأ على صدمات الأيدى . فما أحس الغلام التمس إلا أن الكبريت الذى فى يده قد انقدح فى رأسه , وكانت أنامل صاحب الحانوت كأنما تحك أعواده فى جلد وجه الخشن !
وذهبوا به الى ( دوار ) العمدة يقضى فيه الليل , ثم يصبح على رحلة الى المركز والنيابة . وانطرح المسكين منتظراً حكم الصباح , مؤملاً فى عقله الصغير ألا يفسح النهار حتى يكون (( سيدنا عزرائيل )) قد طمس الجريمة وشهودها ؛ ثم أغفى مطمئنا الى ملك الموت وأنه قد أخذ فى عمله بجد , وأيقن عند نفسه أن سيشحذ فى الخميس مما يوزع فى المقبرة صدقة على أرواح العمدة , وصاحب الحانوت , والخفير الذى عهدوا اليه جره الى المركز... ! وكيف يشكك فى أن هذا واقع بهم وهو قد توسل بالولى فلان ونذر له شمعة يسرقها من حانوت آخر.. !
هكذا عرف الشر قلب هذا الصبي، وانتهى به عدل الناس إلى أفظع من ظلم نفسه، وكأنهم بذلك القانون الذى يصلحونه به على زعمهم، قد ناولوه سبحة ليظهر بها مظهر الصالحين، ولم يفهموه شيئاً ففهم أنهم يقولون له: هذه الجريمة واحدة، فعد جرائمك على هذه السبحة لتعرف كم تبلغ!
كانت في الحقيقة لعبة لا سرقة؛ وكانت يد الغلام فيما فعلت مستجيبة لقانون المرح والنشاط والحركة، كما تكون أعضاء الطفل لا كما تكون يد اللص؛ وكان أشبه بالرضيع يمد يده لكل ما يراه، لا يميز ضارة ولا نافعة، وإنما يريد أن يشعر ويحقق طبيعته؛ وكان كل ما في الأمر وقصارى ما بلغ - أن خيال هذا الغلام ألف قصة من قصص اللهو، وأن الكبار أخطأوا فى فهمها وتوجيهها. .! ليست سرقة الطفل سرقة، ولكنها حق من حقوق ذكائه يريد أن يظهر
وانتهى (( عبد الرحمن )) الى المحكمة , فقضت بسجنه فى
(إصلاحية الأحداث) مدة سنتين، واستأنف له ببعض أهل الخير في بلده؛ صدقة واحتساباً. . . إذ لم يكلف الاستئناف إلا كتابة ورقة. فلما مثل الصغير أمام رئيس المحكمة لم يكن معه لفقره محام يدفع عنه، ولكن انطلق من داخله محام شيطانى يتكلم بكلام عجيب، وهو سخرية الجريمة من المحكمة، وسخرية عمل الشيطان من عمل القاضى. . .!
سأله الرئيس: (ما أسمك؟) - : ((اسمي عبده، ولكن العمدة يسمينى: يأبن الكلب!) - : ((ما سنك؟)) - : ((أبويا هو اللى كان سنان))(١) - : ((عمرك إيه؟)) - : ((عمري؟ عمرى ما عملت شقاوة!)) النيابة للمحكمة: ((ذكاء مخيف يا حضرات القضاة! عمره تسع سنوات!))
الرئيس: ((صنعتك إيه؟)) - : ((صنعتي ألعب مع محمود ومريم، وأضرب اللي يضربني!))
- : ((تعيش فين؟)) - : ((في البلد!)) - : ((تاكل منين؟)) - : ((آكل من الأكلى!))
النيابة للمحكمة: ((يا حضرات القضاة؛ مثل هذا لا يسرق علبة كبريت إلا ليحرق بها البلد. . .!
الرئيس: ((ألك أم؟)) - : ((أمي غضبت على أبويا، وراحت قعدت في التربة، مارضيتش ترجع!))
- : ((وأبوك؟)) - : ((أبويا لآخر غضب وراح لها)) الرئيس ضاحكاً: ((وأنت؟)) - : ((والله يا افندي عاوز أغضب، مش عارف أغضب ازاي!))
- : ((إنت سرقت علبة الكبريت؟)) - : ((دي هي طارت من الدكان، حسبتها عصفورة ومسكتها. . . .))
النيابة " ولية ماطارتش العلب اللى معاها فى الدكان؟ " :- "أنا عارف ؟ يمكن خافت منى !"
النيابة للمحكمة: ((جراءة مخيفة يا حضرات القضاة، المتهم وهو في هذه السن، يشعر في ذات نفسه أن الأشياء تخافه)) فصاح الغلام مسروراً من هذا الثناء.. ((والله يا افندي إنت راجل طيب! أديك عرفتني، ربنا يكفيك شر العمدة والغفير!))
وأمضى الحكم فى الاستئناف , وخرج الصغير مع رجال من المجرمين يسوقهم الجند , تم احتبسوا الجميع فترة من الوقت عند كاتب المحاكمة , ليستوفى أعماله الكتابية ؛ ثم يساقون من بعد الى السجن
وجلس ((عبد الرحمن)) على الأرض، وقد اكتنفه عن جانبيه طائفة المجرمين يتحادثون ويتغامزون، وكلهم رجال ولكنه وحده الصغير بينهم؛ فاطمأن شيئاً قليلاً، إذ قدر في نفسه أنه لو كان هؤلاء قد أريد بهم شرٌ لما سكنوا هذا السكون، وأن الذي يراد بهم لا يناله هو إلا أصغر منهم، كصفعة أو صفعتين مثلاً. . . وهو يسمع أن الرجال يقتلون ويحرقون ويسمون ويعتدون وينهبون؛ وما تكون (علبة الكبريت) في جنب ذلك وخاصة بعد أن استردها صاحبها، وقد نال هو ما كفاه قبل الحكم؟
وما لبث بعد هذا الخاطر الجميل أن رد الاطمئنان في عينيه دموعاً كاد يريقها الجزع. غير أن القلق اعتاده فالتفت إلى كتّاب المحكمة مرة وإلى الجند مرة، ثم لوى وجهه ولم يستبح لنفسه أن يتجرأ على الفكر فيهم، لأنه قابل مهابتهم بآلهة بلده: العمدة والمشايخ والخفراء؛ فأدرك أن الجنود هم الحكومة القادرة، واستدل على ذلك بأزرارهم اللامعة، وخناجرهم الصقيلة، وتمشت في قلبه رهبة هذه الخناجر، فاضطرب خشية أن يكونوا قد أسلموه إلى من يذبحه، فنظر إلى الذى يليه من المجرمين وسأله: ((راح ياخذونى فين؟)) فأجابته لكمة خفية انطلق لها
دمعه، حتى أسكته الذي يليه من الجانب الآخر، وكان في رأيه من الصالحين!
ثم اتصل الجزع بين قلبه وعينيه، فهما تضطربان إلى الجهات الأربع، وكأنما يحاول أن يستشف من أيها سيأتيه الموت ذبحاً. ولم يكن فهم معنى (الإصلاحية) ، وحكم القضاة عليه كأنه رجل يفهم كل شئ، ولم يرحموا هذه الطفولة بكلمة مفسرة. وعدل التربية غير عدل القانون، فكان الواجب على القاضي الذي يحكم على الطفل، أن يجعل حكمه أشبه بصيغة القصة منه بصيغة الحكم؛ وأن يدع الجريمة تنطلق وتذهب فلا يقول لها امكثي. . .
وبقي للخناجر رهبتها في نفس هذا المسكين، فلو أنهم قادوه إلى حبل الشناقة لأفهمه (الحبل) معنى العقوبة، أما وهو بين هذه الخناجر المغمدة - وفي الخناجر معنى الذبح - فإنما هو الذبح لا غيره
وطزقت أذنيه قهقهة المجرم عن يمينه فاستنقذته من هذا الخاطر , فثبتت عينه فى الرجل , فاذا هو يرى وجهاً متلألئاً ، وحسبماً رابط الجأش , وهزؤا وسخرية بهؤلاء الجنود وخناجرهم واستراح الغلام الى صاحبه هذا , وألح بنظره عليه , وابتدأ يتعلم فى وجهه الفلسفة ؛ وليست الفلسفة مقصورة على الكتب , بل إن لكل إنسان حالة تشغله , فنظره فى اعتبار دقائقها وكشف مستورها هو الفلسفة بعينها
وقال الغلام لنفسه :(( هذا الرجل أقوى من كل قوة ؛ فهو محكوم عليه ولايبالى , بل يقهقه ضحكا ؛ فهذا الحكم إذن لا يخيف . لا ، بل هو تعود الأحكام , إذن فمن تعود الأحكام لم يخف الأحكام ! إذن يا عبد الرحمن ستتعود , فان الخوف هذه المرة قد غطك من ( علبة الكبريت ) فى حريق متسعر ؟ وما قدر ( علبة الكبريت )؟ فلو كانت السرقة جاموسة ما لقيت أكثر من ذلك ؛ يا ليتني إذن ...ولكني لا أزال صغيراً ، فمتى كبرت ... آه متى كبرت ...)) وبدأ القانون عمله فى الغلام ؛ فطرد منه الطفل وأقر فيه المجرم
وأطرق "عبد الرحمن" هادئا ًساكناً ، وقامت فى نفسه محكمة من الأبالسة , بقضاتها ونيابتها , يجادل بعضهم بعضاً ,
ويداولون بينهم أمر هذا الغلام على وجه آخر وقال شيطان منهم : "ولكننا نخشى أمرين : أحدهما أن ( الاصلاحية ) ستخرجه بعد سنتين شريفاً يحترف ؛ والثانى ان الناس ربما تولوه بالتربية والتعليم فى المدارس رحمة وشفقة , فيخرج شريفا يحترف "
وما أسرع ما نفي الخوف عنهم قول الغلام نفسه بلهجة فيها الحقد والغيظ , وقد صفعه الجندى الذى يقوده الى السجن -: " ودا كله على شان علبةكبريت ...؟ "
وفى سنة ١٩٣٤ قضت محكمة الجنايات بالموت شنقاً على قاتل مجرم خبيث , عيار متشطر , اسمه " عبد الرحمن عبد الرحيم " ..؟

