تحطمت كأس عمرى وهي متزعة ، وتصرمت حياتى زفرات فى كل نفس , وعى بأمنا كما ما أرسلت من عبرات وحسرات , وقرع الموت بجناحه الناقوس الباكى على مؤذنا باعتى الأخيرة ، فليت شعرى أنوح أم أغنى .!؟
لأغن مادامت أناملي لا تزال على القيثار ، لأغن مادامت المنون تلهمني، وأنا على باب الآخرة ماتلهم البجعة من صرخة موزوته وأنة ملحونة , وإذا لم تكن النفس شيئا غير الحب والألم فلم لا يكون وداعها لحنا قدسيا ؟؟!.
ان القيثار يبعث أجمل أنغامه حين ينكسر , والمصباح يرسل أبهى أضوائه حين يخمد , والبجعة ترفع طرفها الى السماء حين تسلم الروح , والانسان وحده يرجع البصر إلى الوراء ليعد أيامه ويبكيها !!
وما هذه الأيام التى تستدر حوالب عينيه؟؟ شمس تشرق .متقطعة، وساعات تمر متشابهة، وخير تمنحه ساعة فتسلبه أخرى، ثم عمل يتلوه راحة، وألم يتبعه أحيانا حلم! ذلك هو اليوم ، ثم يمحو آيته الليل!
ليبْك ذلك الذي أشتد على حطام الدنيا حرصه، وتعلق بأمانيها سببه، ثم يرى حبل مستقبله ينبت، وظِل آماله يتقلص! أما أنا فأترك الدنيا في سهولة ويسر لأن جذورى منها كجذور النبتة الرخوة من الأرض , تهب عليها رياح المساء فتقلعها !
الشاعر أشبه شىء بالطيور العوابر ، لا تعشش على الضفاف ولا تقع على غصون الغاب. وانما تهدهد نفسها على متون الموج , ثم تمر مفردة على بعد من الشاطئ ، فلا يعرف الناس من أمرها , غير مايسمعون من صوتها !
أبدا لم تدرب يدى على الوتر الرنان يد مخلوق ؛ لأن ماتلهمه روح الله لا تعلمه يد انسان فالجدول لايتعلم كيف يجرى فى المنحدر ،والنسر لا يتعلم كيف يشق بجناحيه الهواء ، والنحلة لا تتعلم كيف تؤلف العمل !
الناقوس تقرعه القوارع في مكانه العالى ليوم بشرى أو يوم نعي، فينوح مرة ويشدو مرة، وأنا كنت بهذا الناقوس أشبه! طهرني الألم كما طهره اللهب , وحركت الأوتار المختلفة أوتار قلبى فأخرجت لكل عاطفة نغمة!
أنا كالقيثارة ( الاولية )(1) تعزف طول الليل من تلقاء نفسها على خطرات النسيم ، وتمزج خرير المياه بأنينها الرخيم .
فيقف السائر حزيران دهشأ مما يسمع ! يطرب ويعجب ولا يدرى مصدر هذه الزفرات المقدسة !
قيثارتى تخضل غالباً بالدموع! وما الدموع للمرء إلا كندى السماء للأرض! وهيهات أن ينضج القلب تحت السماء الصافية! فالكأس المصدوعة يسيل عنها عصير الكروم، والريحان الذابل إذا وطئته قدماك، تضوع شذاه بين خطاك!
خلق الله نفسي من نغمة محرقة، فمن يتصل بها يحترق بلهبها! فيا عجبا لمنحة القدر!! أنا أسرفت في الحب ومن ذلك الإسراف أموت! ما لمست شيئاً قط إلا حال إلى رماد! كذلك رجوم السماء الساقطة على أشجار الخلنج، تنطفيء بعد أن تدمر كل شىء!
ولكن العمر! لقد استوفى اجله. . والمجد! آه! وما يعنينى من صدى نغمة باطلة تنتقل من عصر الى عصر، وسمعة كاللعبة البراقة تنحدر من جيل الى جيل؟ أيها الذين وعدهم المجد سلطان الغد! استمعوا الى هذا اللحن الذي يخرج من قيثارتي! هل تجدون لرنينه أثراً في الأذان، بعد ما حمله الهواء الى غير هذا المكان؟!
شهد الله أني منذ حييت لم أذكر هذا الاسم العظيم الا بازدراء، ولطالما عصرت هذه الكلمة التى اخترعها هذيان الانسان فلم أجد غير هواء، هنالك لفظتها كما تلفظ الشفتان قشرة يابسة.
فى سبيل هذا الأمل الخالب , فى هذا المجد الكادب . يرمى الانسان فى مجرى الزمن اسمه وهو عابر , فيلقفه التيار . وتضعفه الأيام كلما سار , حتى يصير حطاما تعبث به أمواج الدهر ، ثم تحمله على غواربها من عصر إلى عصر, حتى تلقى به فى لجج النسيان ؟
أنا كذلك ألقى اسمى بين هذه الأسماء العائمة , على هذه الامواج المتلاطمة ، ثم اتركه على هوى الرياح والأمطار يطفو ويرسب ! فهل يكون بذلك شأنى أعظم ومقامى أرفع ؟ ولماذا وكل ما هنالك أسم !؟ وهل تسأل البجعة الطائرة فى جو السماء اذا كان ظلها لايزال طافيا على أديم هذه الغبراء؟ !
تسألنى لماذا كنت أغنى ؟ سل البلبل لماذا تتجاوب . أغاريده وأناشيد الجدول طول الليل ؟! أنا أنشد يا صحابى كما يتنفس الانسان ،ويشدو العصفور ، ويعزف الهواء ويخر الماء !
الحب والدعاء والغناء ثلاث تقسمن كل حياتى ..! ولم آس ساعة الموت على فائت مما يتشوف اليه الناس فى دنياهم إلا على زفرة حارة تتصعد الى الله , وسكرة طروبة تهبط من القيثار , وصمتة عاشقة تعمق حين يتعانق قلب وقلب !
إن مثولك خاشعا أمام الجمال تسمع رجفان أوتار المزهر , وترى حديث الهوى يمتزج مع أنغامه ويسرى فى حشاك , وتستقطر الدموع من العين المعبودة كما يستقطر النسيم انداء الفجر من الزهرة المطلولة ...
وترى طرفها الشاكي يصعد حزينا فى السماء كأنما يطير مع النغم ، ثم يرتد واقعا عليك وهو بالحرارة العفيفة يجيش . وتبصر من خلال أهدابها المسبلة شعاع نفسها كالنار المضطربة فى حلك الليل البهيم .
وترى ظلال أفكارها على جبينها الزاهر ترف، والكلام على شفتيها المثقلتين يموت، ثم تسمع بعد هذا الصمت الطويل هذه الكلمة ترن حتى تبلغ أذن الجوزاء! هذه الكلمة، كلمة الآلهة والناس هى: (إنى احبك!) ذلك هو الذى يساوى فى الحياة زفرة !!
زفرة !! حسرة !! كلام لا معنى له ! على جناح الموت، روحي تطير إلى السماء! تطير الى حيث ترى العين شعاع الأمل يضيء! تطير إلى حيث طارت النغمة التى خرجت من مزهرى! تطير إلى حيث صعدت جميع زفراتى!
الايمان - وهو عين الروح - قد اخترق ظلماتى كما مخترق عين العصفور ماوراء الظلال الحزينة . ثم باحت لى غريزته النبوية بما استسر من حظى ! وكم مرة اقتحمت نفسى آفاق المستقبل حتى بلغت السماء محمولة على أجنحة اللهيب فتقدمت بذلك الموت !
لا تنقشوا اسمي على قبري الكئيب العابس، ولا تثقلوا بالبناء ظلى الخفيف، إن قليلا من الرمل يكفينى! لست واأسفاه حريصاً ولا غيوراً!. ثم لا تتركوا من الفراغ أمام القبر إلا مقدار ما يضع الزائر العابر ركبتيه!
حطموا هذا المزهر وذروا حطامه فى الهواء والماء واللهب فانه لم يجاوب أهازيج النفس إلا بنغمة واحدة ! ان مزهر الساروفين (١) يرتجف تحت أناملى ! وعما قليل أعيش معهم فى عالم النغمات ، وأقود بقيثارتى ألحان السموات !
وعما قليل !! ان يد الموت الثقيلة قد قطعت الوتر ! انقطع بعد أن أرسل فى أمواج الهواء نغمة شاكية صماء . صمت مزهرى البارد يارفاقى ! فخذوا مزاهركم وأدخلوا نفسى عالم البقاء . بين خفق الأوتار وترجيع الغناء ..!
