الشافعي هو أحد الأئمة الأربعة الفقهاء: أبي حنيفة النعمان بن ثابت الكوفي المتوفى سنة (١٥٠٠هـ - ٧٦٧م) وأبي عبد الله مالك بن أنس الأصبحي المدني المتوفى سنة (١٧٩هـ - ٧٩٥م) وأبي عبد الله محمد بن إدريس الشافعي المكي المتوفى سنة (٢٠٤هـ - ٨٢٠م) وأبي عبد الله أحمد بن حنبل البغدادي المتوفى سنة (٢٤١هـ - ٨٥٥م)
وهؤلاء الأئمة هم اللذين استقرت مذاهبهم فى الفقه الإسلامي بين جمهور المسلمين منذ نحو ألف عام. وتلاشى ما عداها من المذاهب كمذهب (الحسن البصري) المتوفى سنة (١٦١هـ - ٧٧٧م) ومذهب (سفيان الثوري) المتوفى سنة (١٦١هـ - ٧٧٧م) ومذهب (عبد الرحمن بن عمرو الأوزاعى) المتوفى سنة (٢٤٠هـ - ٨٥٤م) ومذهب (محمد بن جرير الطبرى) المتوفى سنة (٣١٠هـ - ٩٢٢م)
وطالت مدة المذهب الظاهري الذى أسسه (داود بن علي الأصفهاني)) المتوفى سنة (٢٧٠هـ - ٨٨٣م) وزاحم المذاهب الأربعة ودرس بعد القرن الثامن والتنافس بين المذاهب الأربعة على الغلبة والانتشار والسلطان قديم يرجع إلى عهودها الأولى، ولعل بعض آثاره لا تزال باقية إلى اليوم
ولئن كان هذا التنافس قد أدى فى بعض الأحايين إلى إثارة أحقاد وفتن بين العامة فانه فى أكثر أمره كان سبب حياة عقلية ونشاط فكري وتسابق إلى الإتقان والكمال فى البحث العلمي فان أهل كل مذهب كانوا لا يفتأون يتفننون فى جعل مذهبهم ميسراً لإفهام الناس وأذواقهم، متسعا لما يتجدد من حاجاتهم، متميزا بلطف الاستنباط وحسن التخريج، وكثرة الجمع للمسائل، وجودة التأليف حتى أصبحت علوم الأحكام الشرعية أكمل مظهر للمجهود العقلي العظيم فى الإسلام بوفرة أبحاثها ومؤلفاتها التى لا يحصى
عديدها وبما فى كثير من هذه المؤلفات والأبحاث من ابتكار وإبداع لاجرم كان التراث الفقهى الإسلامي من أنفس ما أدخر البشر من مباحث المتفقهين.
ولا نزاع فى أن لأشخاص واضعي المذاهب أثراً فى رواج مذاهبهم وإقبال الناس عليهم وتغلبها على ما عداها. وقلما تمتاز عند الجمهور مقالات المفكرين عن صورهم وأشخاصهم. (١)
ومن أجل هذا كان من وسائل أهل المذاهب الأربعة لنشر مذاهبهم والدعوة لها: وضع المصنفات فى مناقب الأئمة أصحاب هذه المذاهب، وفي الترجمة لحياتهم على وجه يبرز فضائلهم ويبين مزايا مذاهبهم
وقد تفرد الأئمة الأربعة بكثرة ما دون من المؤلفات فى تراجمهم حتى ليقول (أبو زكريا النووي) المتوفى سنة 676هـ - 1277م فى شرحه للمهذب المسمى بالمجموع: (وقد أكثر العلماء من المصنفات فى مناقب الشافعي رحمه الله وأحواله من المتقدمين كداود الظاهري وآخرين.، ومن المتأخرين كالبيهقي وخلائق لا يحصون)
ويقول أبو حفص عمر بن أبي الحسن الشافعي المعروف بابن الملقن فى كتابه (العقد المذهب فى تاريخ المذهب) المؤلف فى القرن الثامن الهجري: (وترجمة الشافعي حذفناها فى هذا المؤلف لأنها أفردت تأليفا فبلغت نحو أربعين مؤلفا)
على إن كثرة هذه المؤلفات وان وفرت للمؤرخ مراجع البحث فإنها تقوم فى الغالب على العصبية لإمام على إمام، فلا تخلو من سرف فى المدح وسرف فى الذم، وجدل فيما ينسب لهذا من المناقب وما ينسب لهذا من الهنات، ولا تخلو من اعتماد على روايات ظاهرة البطلان وعلى الأحلام والرؤى.
ومن أمثلة ذلك: ما ورد فى كتاب مناقب الإمام الأعظم أبى حنيفة
النعمان لمحمد بن شهاب المعروف بابن البزاز الكردي صاحب فتاوي البزازية المتوفى سنة ٨٢٧هـ ١٤٢٣م، من عقد فصل لصفة الإمام فى التوراة.
وقلما تجد كتابا فى مناقب الأئمة إلا وفيه باب لما رأى الإمام المترجم له فى المنام وما رؤى له.
نعم لكل ذلك وزنه ودلالته فى نظر الباحث، لكن التقصي لهذه المقالات فى مصادرها والمقارنة بين رواياتها المختلفة واعتبار حجج المثبتين لها والمزيفين مما لا يدخل فى غرضنا ولا يتسع له المقام. غرضنا من هذا البحث أن ندرس ما يتعلق بأثر الشافعي فى تكوين العلم الإسلامي.
ولما كان وصف الأثر العلمي للأمام يستدعي تصوير شخصيه التى صدر عنها هذا الأثر، فأنى اجعل هذا البحث قسمين: أ - ما يتعلق بالشافعي فى خاصة نفسه من نشأته وسيرته. ب - ما يتعلق بأثر الشافعي فى وضع علم (أصول الفقه) وأتناولهما على هذا الترتيب.
١- نشأة الشافعي وسيرته
يقول أبو عمر يوسف بن عبد البر النمري المالكي المتوفى سنة 463هـ فى كتابه (الانتقاء فى فضائل الأئمة الثلاثة الفقهاء: مالك، والشافعي، وأبي حنيفة رضي الله عنهم) لا خلاف علمته بين أهل العلم والمعرفة بأيام الناس من أهل السير والعلم بالخبر والمعرفة بأنساب قريش وغيرها من العرب، وأهل الحديث والفقه أن الفقيه الشافعي رضي الله عنه هو محمد بن إدريس بن العباس ابن عثمان بن شافع بن السائب بن عبي ابن عبد يزيد بن هاشم بن المطلب بن عبد مناف ابن قصي بن كلاب بن مرة بن كعب بن لؤي بن غالب بن قهر بن مالك بن النضر بن كنانة، ويجتمع مع النبي صلى الله عليه وسلم فى عبد مناف بن قصي، والنبي صلى الله عليه وسلم (محمد بن عبد الله بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف).
والشافعى محمد بن إدريس بن العباس بن عثمان بن شافع، وإلى شافع ينسب، وقد تقدم انه شافع بن السائب بن عبيد بن عبد يزيد ابن هاشم بن عبد المطلب بن عبد مناف بن قصى .
فالنبى ﷺ هاشمي، والشافعي مطلبي، وهاشم والمطلب أخوان ابنا عبد مناف، ولعبد مناف أربعة بنون: هاشم والمطلب ونوفل وعبد شمس (ص٦٦) وهذا الذى لم يكن
يعرف فيه ابن عبدالبر خلافا من نسب الشافعي قد حدث فيه الخلاف.
قال فخر الدين محمد بن عمر الرازي المتوفى سنة ٦٠٦هـ - ١٢٠٩م فى كتابه فى مناقب الإمام الشافعي: (وطعن الجرجاني وهو واحد من فقهاء الحنفية فى هذا النسب وقال: إن أصحاب مالك لا يسلمون أن نسب الشافعي رضي الله تعالى عنه من قريش، بل يزعمون أن شافعا كان مولى لأبي لهب فطلب من عمر أن يجعله من موالي قريش فامتنع، فطلب من عثمان ذلك ففعل، فعلى هذا التقدير يكون الشافعي رضي الله تعالى عنه من الموالي لا من قريش). ص٥
وعرض الرازى للرد على هذه الدعوى بما لا نرى حاجة للإطالة به ما دام صاحب الطعن يعزوه إلى أصحاب مالك، وقد نقلنا عن أمام من أئمة المالكية ما ينقض هذه الدعوى التى يقول فى أمرها الرازي: (واعلم أن الجرجاني إنما أقدم على هذا البهتان لأن الناس اتفقوا على أن أبا حنيفة كان من الموالي، ألا انهم اختلفوا فى انه كان من موالي العتاقة أو من موالي الحلف والنصرة، وطال كلامهم فى هذا الباب وأراد أن يقابل ذلك بمثل هذا البهت، وما مثله فى إلا كما قال الله تعالى: (يريدون أن يطفئوا نور الله بأفواههم والله متم نوره ولو كره الكافرون)) ص7 و8
وقد يكون أصل هذه الحكاية ما ذكره الخطيب البغدادى فى ترجمة للشافعي من أن أم شافع أم ولد. فالشافعي من جهة أبيه قريشي مطلبى ليس فى ذلك نزاع يقام له وزن، وان كانت أم جده ليست من العرب.
وقد ذكر الكثيرون ممن ترجم للشافعي: إن جده السائب اسلم يوم بدر، وكان صاحب راية بني هاشم مع المشركين فأسر ففدى نفسه وأسلم وروى: انه اشتكى فقال عمر: اذهبوا بنا نعود السائب ابن عبيد فانه من قريش، قال النبي صلى الله عليه وسلم: حين أتى به وبعمه العباس: هذا أخي. أما ابنه شافع فلقي النبي وهو مترعرع، فالسائب بن عبيد صحابي، وابنه شافع صحابي، وأخوه عبد الله بن السائب والي مكة صحابى.
وروى ابن حجر العسقلاني الشافعي المتوفى سنة (٨٥٢هـ -
١٤٤٨ م) فى كتاب (الإصابة فى تمييز الصحابة) عند الكلام على عبد يزيد بن هاشم بن المطلب روايات قال على أثرها: (وعلى هذا فيكون فى النسب أربعة أنفس فى نسق من الصحابة: عبد يزيد وولده عبيد، وولده السائب بن عبيد، وولده شافع بن السائب) ج٨ ص١٩٣
ويظهر أن بيت الشافعي كان بيت حكم وعلم فى مكة. فقد رأينا أن عبد الله بن السائب أخا شافع بن السائب كان واليا لمكة. وقال ابن حجر العسقلاني فى كتابه (توالي التأسيس بمعالي ابن إدريس): (وأما عثمان بن شافع فعاش إلى خلافة أبي العباس السفاح) وله ذكر فى قصة بني المطلب لما أراد السفاح إخراجهم من الخمس وأفراده لبني هاشم، فقام عثمان فى ذلك حتى رده
على ما كان عليه فى زمن النبي صلى الله عليه وسلم) ص٤٥ وذكر ابن عبد البر فيمن أخذ عن الشافعي علمه من أهل مكة أبا إسحاق إبراهيم بن عبد الله بن محمد بن العباس بن عثمان بن شافع قال: (وهو ابن عمه، وروى أيضا عن ابن عيينة وغيره وكان، ثقة حافظاً للحديث ولم ينتشر عنه كبير شيء فى الفقه، وكان منشؤه بمكة وتوفي بها سنة سبع وثلاثين ومائتين، وحدث عن جماعة) ص١٠٤ ولسنا نعرف من أمر إدريس والد الشافعي إلا انه كان رجلا حجازيا قليل ذات اليد، وانه خرج مهاجرا من المدينة حين ظهر فيها، بعض ما يكرهه، أو خرج من مكة إلى الشام لحاجة فى رواية اخرى، وأقام بغزة أو بعسقلان من بلاد فلسطين ثم مات بعد مولد الشافعي بقليل.
أما أم الشافعي فهي أزدية فى ارجح الروايات، وهي الرواية المشهورة المعزوة إلى الإمام نفسه، وذكر بعض المؤرخين أن كنينها (أم حبيبة الأزدية). ونقل بعض أصحاب التراجم أن أم الشافعي هى فاطمة بنت عبيد الله بن الحسن بن الحسين بن علي بن أبي طالب. وقيل: فاطمة بنت عبد الله المحض بن الحسن المثنى بن الحسن بن علي. وقالوا: إنهم لا يعلمون هاشميا ولدته هاشمية إلا علي بن أبى طالب والشافعي.
ورجح هذا القول ابن السبكي فى كتاب (طبقات الشافعية الكبرى) لكن الفخر الرازي يرى: إن هذا القول شاذ، ويقول ابن حجر العسقلاني: انه لم يثبت ويرده كلام الشافعي نفسه. قال ابن السبكي: (ولله درها من أي قبيلة كانت!). قال ابن حجر: (ومن ظريف ما يحكى عن أم الشافعي من
الحذق: إنها شهدت عن قاضي مكة وهي اخرى مع رجل. فأراد القاضي أن يفرق بين المرأتين، فقالت له أم الشافعي: ليس لك ذلك، لأن الله سبحانه وتعالى يقول: (أن تظل إحداهما فتذكر تحداهما الأخرى) فرجح القاضي لها فى ذلك. وهذا فرع غريب واستنباط قوي).
ولو أن أم الشافعي كانت بهذه المثابة من دقة التفريع وقوة الاستنباط لعرف التاريخ على الأقل اسمها وعرف أين وافاها حمامها وفي أي زمن.(١) هذه السيدة التى يختلفون فى نسبها ويختلفون فى اسمها هى التى كفلت طفلها يتيما غريبا فقيراً، ولم تزل ترعاه بعنايتها وتتولاه بهديها حتى أصبح بين المسلمين إماماً.
خرج إدريس بن العباس والد الشافعى من مكة مهاجراً يفر من الظلم أو يفر من الفقر أو يفر من كليهما، وقد يكون فى طريقه إلى فلسطين أقام فى المدينة زمنا، فقال بعض الرواة: إن هجرته كانت من المدينة ثم نزل فى غزة أو فى عسقلان، وهما ثغران من ثغور فلسطين متجاوران، وعسقلان هى المدينة، وأقام هناك مع زوجه التى وضعت له طفلا ذكرا لم يكد يتنسم الحياة حتى أدرك الموت أباه.
هذا مولد الشافعي، ولا خلاف بين الرواة فى أن الشافعي ولد (سنة ١٥٠ هـ - وهي السنة التى مات فيها أبو حنيفة على الصحيح كما ذكر ابن حجر وغيره (٢) (يتبع)
