فى مقال الأستاذ قدرى لطفى الذى نشر بالعدد الخامس عشر من الرسالة أشياء كثيرة يحسن الاجابة عنها, لولا أنى احببت أن أكتب هذا المقال عن رأيى فى الشعر المرسل لا فى الرد على الأستاذ. ولكنى لا أترك مقال الأستاذ هكذا بل سأطلعك على بعض فقرات ترى منها أنى لم أهمل الاجابة عنه لانها شاقة بل لأنها من السهولة بحيث يعرفها القارئ متى قرأ المقال.
انظر إلى قوله مثلا: (أما تمام المعنى فى البيت الواحد فلم يكن من خصائص الشعر العربي وإنما كان من خصائص الشعراء العرب) . .!! وخبرنى بعد معنى هذا القول ومدى نصيبه من الصحة.
ثم أنظر إلى قوله (ولا أحسب أحدا يدعونا إلى ترك الشعر القديم وإهماله لنفسح المجال للشعر المرسل فى غير حاجة ملحة ولا ضرورة ملجئة) وخبرني من ذا الذى يريد للفن أن يخضع للضرورات الملجئات والحاجات الملحات, وخبرنى أيضا إذا دعونا إلى الشعر المرسل كان معنى هذا أن نهمل الشعر المقفى, لم لا يجوز وجودهما معا, وكلنا يعلم أن الشعر المرسل فى كل لغة وجد فيها لم يمح الشعر المقفى وانما وجد بجانبه.
وأمثال هذين المثلين كثيرة فليقرأ القارئ مقال الأستاذ فهو خير دليل على ما زعم.
ولقد تورط الأستاذ أبان ثورته غيرة على القافية فى غير هذا النوع من الخطأ. فقد زعم أني قلت: (أني لا أشعر بفقد القافية ما دام المعنى كاملا فى البيت) ؛ زعم الأستاذ انى أريد بذلك حكما أو تأثيرا فى الحكم على قصيدتى. وانا وان كنت لا ألوم الأستاذ على هذا النوع من الفهم لما يقرأ الا اننى أذكر له أنى لو لم أدون فكرتى فى هذا النوع من الشعر
المرسل الذى نظمت به قصيدتى لأسأت إلى نفسى وإلى قارئى لأنى أؤمن تماما أن من واجب الكاتب أن يصور للقارئ فكرته واضحة جلية, ولما كانت فكرتى شيئا يتعلق بالحس فقد صورت للقارئ شعورى. ولكن الفرق بين طريقتى فى التعبير وبين طريقة الأستاذ هو أنى دونت شعوري ونسبته الى نفسى, أما هو فقد دون شعوره وعممه متخذا نفسه مقياسا لكل قارىء, أنظر إلى قوله: (ولكن اصطدام القارئ بحروف متغايرة فى أواخر الأبيات يشعره بفقدان الوزن فى ثناياها!!)
ولندع مقال الأستاذ لأدون رأيي فى مسألة الشعر المرسل واضحا جليا حتى لا يتورط غير الأستاذ فيما تورط فيه.
الجدال فى الشعر المرسل لا يقوم على أساس, فالمسألة ليست من مسائل الحساب أو المنطق, وإنما هى مسألة حس. أنت تسمع نغما فيعجبك, وأنا أسمعه فلا يعجبنى, فاذا تناقشنا أعواما ما استطاع أن يقنع أحدنا الآخر. أذنى تستسيغ الشعر العربى مرسلا, وقد تكون أذني شاذة, ولكنك لن تقنعنى بعدم استساغته. ستقول لى: ولكن المسألة ليست فوضى, فهناك الذوق العام, ولكني وإن كنت أحترم الذوق العام لا أقبل حكمه دائما, وفي كل الأحوال, فالذوق العام له تاريخ فى مثل هذه الأحوال يجعلني أتشبث برأيي. فقد يستسيغ الذوق العام غدا ويشغف بما لم يطق سماعه بالأمس, وفى مسألة الشعر المرسل خاصة كان للذوق العام تاريخ يعيد نفسه منذ كان هذا النوع من الشعر بغيضا غير مستساغ أول ظهوره فى كل لغة ظهر فيها, فلا ضير أن يكون كذلك فى اللغة العربية أيضا.
ثم هناك ناحية أخرى, فالذوق العام لا يستطيع اليوم أن يحكم حكما عادلا فى الشعر المرسل لأنه لم يسمع منه الا القليل, وقد لا يكون فى هذا القليل شئ جميل رائع كالذى فى الشعر المقفى.
وقد تقول لي أخيرا أن طبيعة اللغة العربية لا توافق مثل هذا النوع من الشعر, وأنا وإن كنت لا أستطيع التحدث عن طبيعة اللغة العربية بمثل هذه السهولة الا انى أزعم أنها قد تتحور
قليلا فتقبله. وأنت إن استطعت الحكم على الماضي والحاضر فلن تستطيع الحكم على المستقبل. ولكن ما بال طبيعة اللغة قبلت تغيير القافية فى القصيدة الواحدة إذا غيرتها كل خمسة أبيات مثلا, ولا تقبلها إذا غيرتها فى كل بيت؟. ثم ما بال طبيعة اللغة قبلت تغيير القافية فى كل بيت إذا ما راعيت القافية بين شطرى كل بيت على حدة, ولا تقبل تغير القافية دون مراعاة الموافقة بين الشطرين؟ ثم ما بالها أخيرا قبلت تغير البحور فى القصيدة الواحدة ولا تقبل تغير القافية ولزوم بحر واحد؟ ستقول ولكن فى كل هذا نوعا من القافية كافيا لإحداث تلك الموسيقى المألوفة. إذن أصبحت تقتنع بشيء من القافية بعد أن كان الشعر العربى لا يقنع الا بالقافية كلها متبعة من أول القصيدة الى آخرها. وإذا قبلت اللغة بعض التغير فاني أزعم أنها ستقبل التغير كاملا.
وما رأيك فى أنى أرى فى الشعر المرسل أنواعا جديدة من الموسيقى يعجز عنها بل قد يفسدها الشعر المقفى ؟
الوزن فى القصيدة ليس بالنغم الخافت الذى تسمعه الأذن, فهو عندي وأظن عندنا جميعا أقوى موسيقى فى الشعر, ثم هناك موسيقى الألفاظ وموسيقى الحروف, فهل من المحتوم وجود القافية المكررة المحركة بحركة معينة حتى نشعر بأن هناك موسيقى؟
والغريب أنه بينما نحن نتناقش فى الشعر المرسل يتناقش الأدباء الأمريكيون الحديثون فى الشعر الحديث الذى لا وزن له ولاقافية .
ليطمئن قرائى فسيفنى عمرى فى الدعوة إلى الشعر المرسل, فهل يتيسر لي أن أدعوا إلى هذا الشعر الحديث الذى لا أستسيغه الآن؟ ولكنى لا أعرف, فقد أستسيغه غدا.
وأخيرا أرى كما أسلفت أن المجال ليس مجال جدال وإنما خير رد على خصوم الشعر المرسل هو أن أكتب وأن يكتب غيري من أنصار الشعر المرسل قصائد نستطيع أن نقنع بها الذوق العام الذى نحترمه جميعا, وأن نقنع بها أيضا من يهمنا إقناعهم.

