الرجوع إلى البحثالذهاب لعدد هذه المقالة العدد الخامس عشرالرجوع إلى "الرسالة"

الشكل والموضوع

Share

فى الأدب كما فى القانون شكل وموضوع، وكما يرفض القاضى الطعن فى حكم ما شكلا ويقبله موضوعا، فقد يرفض القاريء قصيدة ما شكلا وان قبلها موضوعا، والشكل فى الأدب لا يقل فى خطره عن الموضوع، فكم من قطعة أدبية أفسد أسلوبها موضوعها، وكم من قصيدة ذهب قبح نظمها بجمال معناها، وكم من قصيدة رقيقة اللفظ جميلة الأداء، فى كلماتها عذوبة وفى نظمها اتساق، غير أن المعنى الجليل فارق فيها اللفظ الجميل، والخيال السامى بعد فيها عن الأداء الحسن، وهى مع ذلك خالدة على الدهر سائرة كالمثل.

وقد قرأنا للآنسة الأديبة سهير القلماوى فى عدد الرسالة الماضى قصيدة نظمتها، فراعت فيها كما قالت خاصتين من خواص الشعر العربى وهما الوزن وتمام المعنى فى البيت الواحد، وأهملت الخاصة الثالثة وهى القافية، فعنيت بالموضوع وأهملت الشكل، وكان الأجدر بها وقد أرادت أن تتبع سنة التجديد فى الشعر العربى ألا تجيء الى ركن من أهم الأركان الفنية فيه فتمحوه وتهمله وتقرب الشعر بذلك الى النثر، فلست أرى الشعر المرسل الا نثرا موزونا نخشى أن تمتد اليه يد التجديد فتنتزع منه الوزن أيضا. ولو قد أنصفت لأهملت تمام المعنى فى البيت الواحد وراعت القافية فهى التى تعد بحق وباطراد من خواص الشعر العربى البارزة التى تميزه من كل شعر سواه، والتى أكسبته روعة خاصة، وأشركت الحس مع العقل فيه، وهيأت له السمع والادراك، وجمعت للقارئ بين لذة التوقيع ولذة الفكر والفهم، وربما قيل أن التوقيع انما جاء من الوزن لا من القافية، ولكن اصطدام القارئ بحروف متغايرة فى أواخر الأبيات يشعره بفقدان الوزن فى ثناياها.

اما تمام المعنى فى البيت الواحد فلم يكن من خصائص الشعر العربي، وانما كان من خصائص الشعراء العرب، فليس يدخل اذن فى أصول الفن الشعرى التى لابد للشعر منها كالوزن القافية، فقد كان العرب أميل الى الايجاز والالمام بالمعنى فى غير توسع ولا اطناب، ومن هنا كان حرصهم على اتمام المعنى فى البيت الواحد كبيرا، حتى جرى الكثير من أبياتهم

مجرى الأمثال لاحتوائه على المعنى الجليل فى اللفظ القليل، ومن هنا جاز لنا وقد تغير العصر وبعد الزمان وتغيرت الأذواق الا نتبع سنة القوم فى ضرورة اتمام المعن فى البيت الواحد، على أن الشعر العربى لم يخل من قصائد لا يمكننا أن نقف فيها على كل بيت لعدم تمام المعنى فيه، ولكنه خلا تماما من قصيدة لم تنته بحرف واحد.

وقد يقال أيضا أن الشعر اذا أطلق من قيده وأعفى الشعراء من التزام القافية فيه أصبح الأمر مألوفا تقبله الأذواق وتعتاده الأسماع، ولكننا اذا عدنا الى قراءة الشعر العربى القديم وما نظمه المحدثون من شعر مقفى، وهذا كله كثير ثمين فسنشعر بالفرق بين الشعرين وسنعود الى القافية نستحسن مراعاتها والتزامها، ولا أحسب أحدا يدعونا الى ترك الشعر القديم واهماله لنفسح المجال للشعر المرسل فى غير حاجة ملحة ولا ضرورة ملجئة، واذن فالتجديد فى الشعر بارساله دعوة لا تقوم على أساس من الفن يصلح لأن يطغى على القافية فيمحوها من الشعر العربى

وتشعر الآنسة ان المعنى اذا تم فى البيت الواحد لم نحس باهمال القافية، وهذا صحيح اذا كان الشعر معنى فقط لا دخل للحس فيه، ألا ترى الآنسة أن بعض أبيات قصيدتها وقد راعت فيه القافية كان ألذ للسمع من البعض الآخر الذى أهملتها فيه

هذا قولها: قد أوهنت عظامه السنين      وغضنت جبينه العصور وقسوة المسعى وراء العيش   قد أفقدته جزءه الانسانى

ألا ترى أن اهمال القافية فى البيت الثانى قد جعله نابيا غريبا على السمع، فقبله الادراك لحسن معناه، ورفضه السمع

لاختلافه مع سابقه فى مبناه ؟ وهذا قولها : يا سادة العبيد والأراضى  كيف لقاء الرب يوم الدين ؟ يوم مثوله أمام الله    بعد سكون الساع والسنين

ألا ترى أن مراعاة القافية فيه قد كسبه جمالا وتهيأت له الاسماع والافهام؟ أؤكد للآنسة أن اهمال القافية لا يغنى عنه تمام المعنى فى البيت الواحد، وان شعور الكاتب نفسه لا يكفى دائما للحكم على آثاره الأدبية ،

اشترك في نشرتنا البريدية