الرجوع إلى البحثالذهاب لعدد هذه المقالة العدد 93الرجوع إلى "الرسالة"

الشهيد الغريب، عثمان بن مظعون

Share

بات   (عثمان بن مظعون الجمحي)  ليلته يقلب الرأي، ويستلهم  الفطنة؛ وإن الهم ليصطرع في رأسه، وأن الشك ليتلجلج  في صدره، وإن بين عقله وعاطفته لحرباً مشبوبة ومعركة طاحنة  

أحق ما يقول محمد بن عبد الله؟ فما هذه اللاتُ والعُزَّى،  ومَناةُ الثالثة الأخرى؟ وما ديننا الذي أورثنا آباؤنا ومضى  عليه أسلافنا؟ أذلك الحق أم دين محمد؟

إني لأعرفه مذ كان - أصدق العرب حديثاً وأعظمها  أمانة؛ أفيكذب حين يبدو الشيب في صدغيه، ثم لا يكون  كذبه إلا افتراءً على الله. . .؟

أما ورب الكعبة لقد جاء محمد بأمر عظيم، إن يكن الصدق  فما يقعد بي أن أكون في السابقين إليه. . .؟

فلما أسفر الصبح غدا عثمان على محمد في مجلسه ليسمه منه؛  فما هو إلا أن تلا عليه آياتٍ من الكتاب حتى اهتزت نفس  عثمان، ونفذت السماء إلى قلبه، وغمره النور الإلهي، وشرح  الله صدره للإسلام، فتمت به عدة المؤمنين أثنى عشر. . .

وانطلق عثمان إلى أهله يدعوهم إلى الله؛ فما تلبث أخواه    (قدامة وعبد الله)  أن آمنا بما آمن، وآمن من بعدهم بضع  عشرة من بني عمه وولده؛ وإذا المؤمنون يزيدون ويكثرون،  وإذا الدين الجديد يتنقل نبؤه في همس من فم إلى أذن، وينفذ  في رفق من قلب إلى قلب، ثم يتدافع في قوة حتى ينتظم الأربعين  من شباب قريش وكهولها. ثم إذا هو من بعدُ نداءٌ عام، يدعو  إليه رسول الله من فوق   (الصفا) ، فيفشو أمره، ويتحدث  به الناس، وتتناقله القبائل، وتتقاذفه فلوات شبه الجزيرة؛ فما  ينكر على محمد دعوته إلا الملا من أشراف العرب. . .

كنت ترى السادة من قريش أهل الرفادة والسقاية -  ينزلون عن جاههم وسلطانهم بهذا لهوان لمحمد؛ أم تحسبهم

أ يتركون ما كان يعبد آباؤهم مختارين انقياداً لهذا الداعي؟ إن كبرياء النفس البشرية هو إيمانها بنفسها؛ فما يغلبها على  كبرياءها إلا الإيمان الأكبر؛ وما إن تبلغ هذا الإيمان إلا مقهورة  عليه، نازلة على سلطانه الأقوى، من قادة له انقياد الرضى والاستسلام؛  فإذا هي بلغت ذاك فقد تبدلت النفس غير النفس؛ فما تتكبر  إذ تتكبر بنفسها ولكن بما تدين، وما تفاخر حين تفاخره  بخصائصها الذاتية، ولكن بقوة العقيدة التي اعتنقت؛ ويعود  تعصبها لنفسها تعصباً للحق الذي آمنت به،ومن ثم كانت   مدافعة العرب للنبى شديدة ، حتى اذا دمغهم الحق ونال من كبرياء انفسهم ، اذا هم ابر الناس به ،وأخلصهم في طاعته،  وأشدهم استبسالاً في الدعوة إلى دينه والذياد عنه؛ فكانت  هذه المعجزة الإنسانية الكبرى التي انبثق لها هذا الفجر الضاحك  فأشرق بالسلام على البشرية كلها، وامتد امتداد القدر يقبض  راحته على الدنيا، وانبسط انبساط الأمل بتناول كل ما في الوجود،  ورسم للانسانية حدود سعادتها في معاني الإخاء والمساواة  والحرية!

تذامر الملاُ من أشراف مكة على محمد وأصحاب محمد ليفتنوهم  عن دينهم، فآذوهم في أنفسهم وأهليهم وأموالهم، وأخذوا بكل  نكال، حتى بلغوا من تعذيبهم الغاية ولم يبلغوا من مسلم أربا؛  ورأوا أمر الله أغلب من أمرهم في هذه القلوب، فمضوا يقتنون  في الكيد لهم ما يتورعون من شر. وأيقن المستضعفون من  المسلمين أن لا مقام لهم على هذا الهوان خوف الفتنة، فجلوا عن  أراضيهم وديارهم فراراً إلى الله بدينهم. . .!

وأنطلق عثمان بن مضعون يقدم الفوج الأول مهاجرين إلى  الحبشة، تفيض أعينهم من الدمع حزناً، أن تركوا أموالهم وأولادهم  وعشيرتهم، منهم الراجل قد ثقلت عليه نفسه، والراكب قد  ناء بما يحمل من همه. حتى انتهوا إلى البلد الذي أرادوا.

وأمنوا الفتنة، يروحون ويغدون في ظل ملكٍ كريم.  أتراهم على ذلك قد اطمأنت بهم الدار؟ ومن أين للغريب  النازح عن أهله وأحبابه أن تستقر به الدار!

وطال بهم الحنين إلى بلدهم والى مشرق النور من وجه النبي

الكريم، يستروحون من كل نسمة تهب من أرض الحجاز  ذكرى تشوق وحنيناً يستجد. فما كذبوا أن جاءهم بشير  بإسلام قريش، فقفلوا آملين مستبشرين، وما منهم إلا مشرق  الوجه تحدثه نفسه حديث المبعد يوشك أن تستقر به النوى  ويلقى عصاه بين أحبته وأهله وملاعب صباه!

ثم ما هي إلا أن دانوا مكة وبدت لهم أعلامها وهبت  عليهم نسماتها، حتى انكشف لهم أن إسلام قريش لم يكن إلا  أمنية. . . فألقوا على الوطن المهجور نظرة اللهفان فاتته المنى،  ثم لووا عنان الركب عائدين إلى المهاجر، وإن قلوبهم لتتلفت مودعة  وما سعدت باللقاء. . .!

وتحدرت دمعتان على وجه عثمان إذ حضرته صورة المصطفى  من الله، فهفت نفسه إلى لقائه، وهان عليه مايستهدف له من  أذى المشركين ما دام سعيداً بطلعة النبي، يراه في كل غدوة  ورواح، ويتمتع به كلما حلا له أن يستمتع.

ودخل مكة في جماعة من المهاجرين مستخفين على حذر  ورقبة، حتى لقيه   (الوليد بن المغيرة المخزومي)  فأستظل بجواره

وأمن عثمان عدوان المشركين في حماية أعز قريش وأمنعها،  ومن ذا يجرؤ أن يستبيح ذمة الوليد في جاره؟ فأنه ليغدو ويروح  لا يناله شر ولا يعرض له أحد بسوء. . .

وخرج عثمان مرة لبعض شأنه، فإذا هو يبصر رجل من  أصحاب رسول الله مطروحاً على الرمضاء عارياً في حر مكة  وقد حميت الظهيرة وقد وضعت على صدره صخرةُ ينوء بها الفحل،  تعذيباً له بما آمنة بمحمد!

واهتزت نفس عثمان مما رأى، وبرح به الألم مما ينال أخاه  المسلم فلا يستطيع له دفعاً، فصغرت نفسه في عينه، ومضى والهم  يجثم على صدره أثقل من صخرة العذاب على صدر أخيه!

ومشى خطوات، فإذا هو يشاهد شراً مما رأى: هذا أبو بكر،  يلقاه سفيهُ من سفهاء مكة فيحثوا عليه التراب، وأولاء جماعةُ  من المشركين يشهدون سفاهة صاحبهم فيضحكون ويسخرون.!

وزاد الهم بعثمان، وغشيته غاشية من الحزن والألم! إنه  ليحس التراب على رأسه، وإنه ليشعر بمثل حر الرمضاء يشوي  جسده هو، وإن قلبه ليفيض غماً. إنه ليرى نفسه في جوار  سيد قريش، فما يمنعه ذلك أن يلقي من آلام النفس فوق ما يلقى  

صحابته من آلام الجسد!

وسار مثقل الرأس، يحمل همه على كفيه، ضيق الخطى  كأنما يطأ الشوك. وإذا واحدٌ من المسلمين يلقاه فيحدثه بما لقي    (آل ياسر)  من أذى بني مخزوم: لقد مات   (ياسر)  في العذاب  وماتت زوجه   (سمية)  طعيناً بيد أبي جهل، وهذا   (عمار بن  ياسر)  لا طاقة له بدفع ما يلقى من أذى بني مخزوم، وما أراه إلا  موشكا أن يلحق بأبويه. . .!

واشتد به الهم إذ سمع ما سمع بعد إذ رأى ما رأى، ومضى  يتحدث إلى خواطره، فإذا هو على الأمان والطمأنينة في عذابٍ  أشد مما يلقى إخوانه المستضعفون. وقال لنفسه: والله إن غدوّي  ورواحي آمناً بجوار رجل من أهل الشرك، وأصحابي وأهل ديني  يلقون من البلاء والأذى في الله ما لا يصيبني - لنقصٌ كبير في  نفسي! إنه والله الفرارُ من الأجر والمثوبة، وإن لهم عند الله  لمنزلة هيهات أن يعزيني عن فقدها أنني في سلامة الأذى. بل  إنه الفرار من حمل أثقال حمل الإيمان، وإنه لأرْوَح لقلبي أن ألقي  ما يلقى إخواني في الله، فأني لأوشك أن يغلظ قلبي فما آمن على  نفسي من أوضار الشرك!

يا نفسي، ما برهانك على أنك مؤمنة إذا لم تحملي أثقال  الحياة راضية؟

ما دليلك على أنك قاسيت في سبيل دينك وإنك لتفرين  فرار المتمسك بدنياه؟

ماذا قدمت - يا نفس - لله من حظك وراحتك فيكون  لك في الآخرة أن تدعي وتستطيلي؟

ألا إن الإيمان هو أن ينالك ما نال المؤمنين، وإن عذاب  الناس لهو ثواب الله، وما يصدق الخبر عن بسالة الجندي  إلا أن تشهد له جراحه، وما أنا رجلاً إن لم أكن الآن رجلاً. . .!

ومشى إلى الوليد بن المغيرة فقال له:   (يا أبا عبد شمس،  وَفَتْ ذمتك، وقد رددت إليك جوارك!)

قال الوليد:   (يا ابن أخي، لعله آذاك أحد قومي. .؟) قال عثمان:   (لا، ولكني أرضى بجوار الله ولا أريد أن  أستجير بغيره. .!)

قال الوليد:   (فانطلق بنا إلى المسجد فاردد علي جواري  علانيةً كما أجرتك علانية)

فانطلقنا حتى أتيا المسجد، فقال الوليد:   (هذا عثمان  قد جاء يرد على جواري)

وقال عثمان:   (صدق، قد وجدته وفيا كريم الجوار، ولكني  قد أحببن ألا أستجير بغير الله، فقد رددت عليه جواره!)

ثم افترقا. وجلس عثمان يستمع إلى إنشاد   (لبيد بين ربيعة)   في مجلس من قريش، فقال لبيد:   (ألا كل شيءً ما خلا الله باطل)

قال عثمان:   (صدقت!) قال:   (وكل نعيم لا محالة زائل!) قال عثمان:   (كذبت. . .!)

وأعاد لبيد، وعاد عثمان يقول:   (كذبت؛ نعيم الجنة  لا يزول أبداً)

فغضب لبيد وقال:   (يا معشر قريش، والله ما كان يؤذي  جليسكم؛ فمتى حدث هذا فيكم؟)

قال رجل من القوم: (إن هذا سفيه في سفهاء معه قد  فارقوا ديننا؛ فلا تجد في نفسك من قوله!)

ورد عليه عثمان حتى شرى الشر بينهما، فقام الرجل فلطم  عين عثمان فاخضرت، والوليد بين المغيرة بمجلس قريب يرى  ما بلغ من عثمان، فقال:   (أما والله يا ابن أخي، إن كانت عينك  عما أصابها لغنية، لقد كنت في ذمة منيعة!)

قال عثمان:   (والله إن عيني الصحيحة لفقيرة إلى مثل  ما أصاب أختها في الله، وإني لفي جوار من هو أعز منك وأقدر!)

فقال له الوليد:   (هلم يا ابن أخي، فعد إن شئت إلى جوارك!) قال عثمان:   (لا. . . . . . . . .)

وسار في سبيله عامر القلب بالإيمان، طيب النفس بما  يبذل في سبيل الله، قرير العين بأنه لم يلجأ إلا إليه. . .

ومضى المشركون في عدوانهم لا رفق ولا هوادة؛ وآذى  النبي ما يلقى صحابته، فدعاهم إلى اللحاق بمن سبق من المهاجرين  إلى الحبشة.

وخرج عثمان فيمن خرج، عائداً إلى المهاجر النائي طاعةً  لرسول الله. فأقام هناك ما أقام، ضيق النفس على سعة من  العيش، مكروباً من الغربة على الأمان والأذى!

وتصرمت السنون عاماً بعد عام وهو يكافح الشوق والحنين،

حتى أذن له أن يفارق الحبشة بعد ست سنين، لا إلى مكة الحبيبة  إليه، ولكن إلى المهجر الثاني، إلى المدينة، من مغترب إلى  مغترب. فما مضى عام وبعض عام على مقامه حتى مل غربته،  فودع دنياه إلى الوطن الباقي بقاء السموات والأرض، إلى جوار  الله. ومات أول من مات من المهاجرين بالمدينة!

وقبله النبي   (صلى الله عليه وسلم)  وهو يبكي وعيناه تذرفان،  ووسده الثرى ونفض يديه من ترابه، ولكن ذكراه ظلت  حية في قلبه؛ فلما مات ولده   (إبراهيم)  زوده بالتحية إلى الشهيد  الغريب، وودع ولده الواحد وهو يقول:   (ألحق بسلفنا الصالح  عثمان بن مضعون!) .

يا ابن مضعون، فرغت من أمر الدنيا وآلامها، بعد أن  قضيت أيامك على الأرض تتقاذفك الفلوات من غربة إلى غربة.  ولم تبك، وبكت لك دموع النبوة؛ دموع تقدمك إلى الله  يثيبك، وتقدمك إلى التاريخ يترحم عليك. وفي الوقت الذي  يسلب الملوك فيه تيجانهم وضع عليك التاج. . .!

طنطا

اشترك في نشرتنا البريدية