الرجوع إلى البحثالذهاب لعدد هذه المقالة العدد 69الرجوع إلى "الرسالة"

الشيخ علي يوسف

Share

في يوم ٢٥ أكتوبر  من سنة ١٩١٣والقلوب  واجفة والأبصار زائغة  ومصاير الأمور تتوائب  للأوهام في صور مبهمة  غامضة، تضطرب بين  اليأس كله، وبيت الرجاء  كله، والناس يتساءلون  متهامسين من الخوف ومن  الورع: ترى ماذا عسى  أن يكون قسم مصر من

هذه الحرب العامة، وماذا كتبت لها الأقدار في صفحتي  الليل والنهار؟

في ذلك اليوم من تلك الأيام السوداء مات رجل ليس  مثله في مصر كثير، رجل إذا أحبه ناس أشد الحب،  فلأنه قوة كبيرةً في مصر. وإذا كرهه ناس أشد الكره،  فلأنه قوة كبيرة في مصر، فالشيخ علي يوسف، على تفرق  الأهواء فيه، كان قوة هائلة في هذه البلاد يحسب الناس جميعاً  لها كل حساب

ولقد كنت من الذين أبغضوا علياً أبعد البغض،  ثم كنت من الذين يحبونه أغلى الحب، ولا والله ما رأيته في حالي  بغضي وحبي له إلا رجلاً عظيماً!

مات الشيخ علي يوسف في ذلك اليوم فما قامت الدنيا لموته كما  كان ينبغي أن تقوم، ولا قعدت الدنيا لموته كما ينبغي أن تقعد؛  بل لقد شيع ودفن كما يشيع ويدفن أوساط الناس، وكأن  الناس لم يشيعوا فيه مفخرة من مفاخر مصر، ولا أودعوا الضريح  كنزاً من كنوزها الثمان!

لا أقول أنه الإهمال السئ، ولكن أقول أنه الظرف السيء،  ولا أريد المزيد

والآن تسأل الشباب المثقفين المتعلمين عن الشيخ علي يوسف  وكيف كان خطبة في البلاد من إحدى وعشرين سنة فقط؛ فترى  أقلهم من لا يعرف عنه كثيراً، وترى أكثرهم م لا يعرف عنه  كثيراً ولا قليلاً!

أهكذا، وبهذه السرعة السريعة، تختفي سير الرجال عندنا  كما تختفي الصور إذا ساد الظلام، أو كما تختفي أشباح الرؤى ساعة  الهبوب من المنام؟

وإنني لأضيف الوزر في هذا أيضاً على الظروف. والحمد لله الذي  جعل لنا من هذه (الظروف) تكأة نعتمد عليها كلما غشيتنا غاشية  من الإهمال، أو طاف بنا طائف من سيئ الأعمال!

ولقد قلد الشيخ علي منصب مشيخة السجادة الوفائية،  فاستحق بهذا أن يسمى السيد علياً؛ وقلده الخليفة العثماني الرتبة  الأولى من الصنف الثاني، فأستحق بذاك أن يدعى علي بك أو علي  باشا يوسف؛ ولكنني لا أعبر عنه إلا بالشيخ علي يوسف. هذا  الاسم الذي طالما رن في الآذان، وتجاوبت به الأصداء من كل  مكان: الشيخ علي يوسف! الشيخ علي يوسف! وحسبه بهذا لقباً،  بعد ما أعتز بنفسه حسباً، وكرم بالرسول الأعظم نسباً

كان الشيخ علي يوسف رجلاً عصامياً بأوفى معاني الكلمة.  نجم في (بلصفورة) من بلاد مديرية جرجا، في أسرة إذا كرم أصلها  فقد رقت حالها. ولا تنس أن المال هو كل شئ في هذا الزمان.  وتعلم القراءة والكتابة في كتاب القرية، وحفظ القرآن  الكريم. ثم انحدر إلى بني عدي من أعمال مديرية أسيوط.  فطلب العلم هناك على الشيح حسن الهواري، ثم قدم الأزهر  فطلب العلم فيه بضع سنين

وإلى هنا كانت حياة الشيخ علي حياة عادية بحتاً، فلم يزد  خطبه على مجاور مغمور في ذلك الخضرم الزاخر بآلاف المجاورين.

وتستشرف نفس الفتى للأدب. والأدب في ذلك الوقت أن  تقول شعراً مقفى موزوناً. فإذا أعوزك العروض، وعميت عليك  أوزان الشعر، فحسبك أن يكون المصراع في طول المصراع. فإن

زاد الكلم ففي تصغير الكتابة وتدقيق الحروف متسع للجميع  وعلى شرط أن تتغزل. فتتغزل كلما طلبت مديحاً، وتتغزل كلما  أردت رثاءً، وتتغزل كلما ابتغيت هجاء. وكانت هذه، وخاصة  في البيئة الأزهرية أهم فنون الشعر إن لم تكن جميع فنون الشعر.  وعلى هذا قرض الشعر المجاور على يوسف فذهب له به بين  المجاورين صيت وذكر

ولقد كان الأدب يحمد من المجاور عند أشياخه إلا أن يسرف  فيه ويجرد له صدراً كبيراً من وقته، فإنهم كانوا يكرهون ذلك  منه، لأنه في الواقع يشغله، بقدر ما، عن توفير الذهن على الدرس  والاستذكار ويرون هذا منه آية على (عدم الفتوح) والعياذ  بالله! وحسبة في العام قصيدة يمدح بها شيخة يوم يختم الكتاب،  وقصيدة أو اثنتين يرثي بهما من يموت من علية العلماء

وأسرف الشيخ علي في قرض الشعر، فمدح ورثى، وتغزّل  (بالطبع) وهجا، حتى اتسق له من هذا النظم ما جمعه بعد في  ديوان كامل، وبهذا أصبح مجاوراً ممتازاً وإن حق علية القول،  وتراءى شبح الهول!

إذن أصبح مجاوراً ممتازاً بين المجاورين بالأدب،  أو إن شئت قلت، لقد أدركته من الناحية الأزهرية  حرفة الأدب

ولقد دعاه هذا إلى الاختلاف إلى مجالس الأدباء، ومساهرتهم  ومسامرتهم والتروي عنهم، ثم إلى غشيان دور بعض العلية ممن  كانوا يجلسون لأهل العلم والفضل والأدب، فيتحاضرون  ويتذاكرون. وأقبل الشيخ على هذا الشأن بقدر ما أدبر عن  الكد في دروس الأزهر. ثم جعل يرسل المقالات المنثورة في  الصحف والمجلات التي كانت قائمة في ذلك الوقت، وكان يكتب  أول الأمر على طراز الكاتبين في عصره: مقدمات طويلة تمهد  بين يدي كل موضوع ولو لم تدع إليها حاجة الكلام، واحتفال  للمحسنات البديعية تستكره استكراهاً، ولو استهلكت الغرض  المطلوب

على أن من حسن حظ الشيخ علي أنه ابتدأ في معالجة  الكتابة في الوقت الذي انبعثت فيه تلك النهضة البيانية الفاخرة،  تلك النهضة التي نفخ ضرامها بالإرشاد والتنبيه السيد جمال الدين

الأفغاني، وبالفعل من الإنشاء والتعليم والتأليف الشيخ حسين  المرصفي، وللشيخ علي طبيعة، وفيه فطنة قوية، فجعل يدرّب  قلمه ويروضه على إرسال البيان سهلاً جزلاً خالياً من الاعتساف،  متطلقاً من تكاليف البديع

وفي هذا المقام يجدر بي أن أنبه إلى شيء جدير بالانتباه:  ذلك أن حسن البيان وجودة المقال لا ترجع في جميع الأحوال إلى  تمكن الكاتب من ناصية اللغة، وتفقهه في أساليبها، وبصره  بمواقع اللفظ منها، واستظهاره لصدر صالح من بلاغات بلغائها،  إلى حسن ذوق ورهافة حس، بحيث يتهيأ له أن يصوغ فكرته  أنور صياغة، ويصورها أبدع تصوير. بل إن ذلك ليرجع في بعض  الأحوال، وهي أحوال نادرة جداً، إلى شدة نفس الكاتب  وقوة روحه. فقد لا يكون الرجل وافر المحصول من متن اللغة،  ولا هو على حظ كبير من استظهار عيون الكلام، ولا هو بالمعنى  بتقصي منازع البلاغات، ومع هذا لقد يرتفع بالبيان إلى ما تتقطع  دونه علائق الأقلام. ذلك لأن شدة نفسه، وجبروت فكرته.  تأبى إلا أن تسطو بالكلام فتنتزع البيان انتزاعا. ولعل في بيان  السيد جمال الدين الأفغاني، وهو غريب عن العربية، وقاسم بك  أمين وهو شبه غريب عنها، أبين مثال على هذا الذي نقول.  ولقد يعجب القارئ اشد العجب إذا زعمت له أن المرحوم  حسين رشدي باشا، وكان رجلاً قل أن تطرد على لسانه ثلاث  كلمات عربية متواليات، لقد كان أحياناً يرتفع بالعبارة إلى  ما يتخاذل من دونه جهد أعيان البيان!

والآن أستطيع أن أزعم أن الشيخ علي يوسف، على أنه تعلم  في الأزهر، وقرأ طرفاً من كتب الأدب، وأستظهر صدراً من  مظاهر البلاغة في منظوم العربية ومنثورها - إلا أنه لم يكن  مديناً في بيانه لشيء من هذا بقدر ما كان مديناً لشدة روحه  وسطوة نفسه. وانك لتقرأ له المقال يخلبك ويروعك، وتشعر  أن أحداً لم ينته في البيان منتهاه. ثم تقبل على صيغة تفتشها  وتفرها، فلا تكاد تقع على شئ من هذا النظم الذي  يتكلفه صدور الكتاب. وبهذا أنشأ الرجل لنفسه أسلوباً، أو على  الصحيح لقد خط قلمه القوي نهجا من البلاغة غير ما تعاهد عليه  الناس من منازع البلاغات

اشترك في نشرتنا البريدية