للأمم (معامل) تصنع فيها المصنوعات المعنوية من شرائع وسياسات وأخلاق وعادات كما تصنع فيها المصنوعات المادية من أنسجة وأحذية وألبسة وآلات، ولا تقل هذه دلالة عن تلك على مبلغ أصحاب (المعامل) من الارتقاء العقلي، بل ربما كانت المصنوعات المادية أدق في التعبير عن ذهنية الأمم من المصنوعات المعنوية لأنها محسوسة ملموسة تقبل الموازين، وأما تلك فهي أوضاع ومقاييسها معنوية مثلها.
ولكل عصر من العصور طابع خاص بالصناعة التي راجت فيه فعصر الفروسية مثلا_وهو من أقرب العصور التي عرفناها امتاز بصنع اللجم والركب والسروج كما امتاز بصنع المحركات للسيارات والطيارات وآلات الزراعة، وقد أحب الفرسان الخيل والعدو على ظهورها وعقدوا بناصيتها الخير فتفننوا في الأدوات التي تلازم ركوبها وأما نحن فقد فتنا بالسرعة واستخراج أعظم محصول بأقل مجهود فبرعنا في عمل (الموتورات) .
نحن في الشرق من أسبق الأمم إلى عمل المصنوعات بالمعنيين
المتقدمين، لكننا تراجعنا فيهما كليهما، فحلقات الدروس وما يجري فيها من بحث عن موضوعات عقيمة سخيفة بالية وهي لا تقاس بما كان عليه السلف في العصر العربي الذهبي، تدل على هذا التراجع كما تدل عليه المصنوعات الهزيلة الخالية من المتانة والذوق والمعروضة في الأسواق والحوانيت. وزيارة واحدة لمكتبة من المكاتب الكبرى فى دمشق أو بغداد أو القاهرة وتقليب صفحات من بضعة كتب من الكتب المصفوفة على رفوفها هي مثل زيارة لمتحف من متاحفها وإلقاء نظرة على ما يعرض فيه من النفائس فيها المقنع الكافي على صحة ما قلنا.
وقد دخلنا الآن في دور النهضة ويلوح لي إننا سبقنا إلى مباشرة المصنوعات المعنوية ولكننا من حسن الحظ أخذنا أخيراً في مباشرة المصنوعات المادية أيضا كما تشهد المعامل والمصانع الحديثة المنصوبة في هذا القطر السعيد وما جاوره من الأقطار العربية الشقيقة.
ولا اعرف حافزا دفع الأمم الأخذ بالصنائع مثل الحرب العامة. فقد كان من نتائج الحصار الذي عانته الشعوب في غضونها وانقطاع أسباب المواصلات بينها أن التجأ بعضها إلى مصنوعات تكاد تكون من عمل القرون الخالية، ولا أزال أذكر كيف أن انقطاع الثقاب والنفط (الكاز) عن سورية مثلا في سني الحرب العالمية عاد بالاهلين إلى استعمال القداحة وسراج زيت الزيتون، وكان هذا الحافز أشد ظهورا في الحاجات والأدوات يتوقف عليها تسيير دفة القتال كما هو ظاهر من إخفاق روسيا العزلاء في هجومها المتكرر على ألمانيا والنمسا وتركيا وخروجها من الحرب أخيرا على تلك الحالة المزرية منكسة الأعلام.
لا جرم أن الأمم التي شعرت يومئذ بنقص مصنوعاتها وتعلقها على غيرها من الأمم وارتباطها بها اقتنعت بعد هذه الدروس الخطرة المملؤة بالكوارث أن لابد لها من الاستقلال الصناعي وهو لا يقل شأنا عن الاستقلال السياسي، بل لا يتم هذا بالمعنى الصحيح من غير ان يتحقق ذاك. لان الأمة التي تنتظر غيرها أن يعمل لها البنادق والمدافع للدفاع عن حوزتها هي أمة غير مستقلة في أهم شؤونها.
وزاد الشعور بهذه الحاجة تلك الوطنية الاقتصادية الحديثة التي تحاول أن تصدر كل شيء وألا تستورد شيئا، وما هذه الحواجز الجمركية القائمة بين الشعوب إلا عنوان هذه الوطنية الصارمة، ويكون جزاء الأمة المتساهلة في هذا الباب إغراق أسواقها بمصنوعات غيرها واختناقها بمصنوعاتها، وعرفت إنكلترا من بين سائر الأمم بالميل في تجارتها إلى (الباب المفتوح) ولكن حوادث الزمن أرغمتها على إغلاقه كما علمت غيرها أن تكون متشددة، وما لم يقم التفاهم مقام التنازع، وهذا مستبعد في الأحوال
الحاضرة، فان هذه الحواجز ستشتد وتقوى.
إن نهضة مصر الصناعية هي مثل النهضة الصناعية في الأقطار العربية الشقيقة تدل على تغير جوهري في الذهنية العامة وشعور بالحاجة إلى الاستقلال والاعتماد على النفس، وهذا هو ركن عظيم من أركان الانقلاب السياسي المنشود، لان الحاجة تفتق الذهن
وهي أم الاختراع.
