قبل الكلام على واحد من هذه الثلاثة يجب ان نتكلم على النفس التى هى مصدر العلم والفن اللذين هما مصدر الحياة التى هى مصدر العلم
والنفس هنا هى جماع ما فى الجسم من جوهر، واما النفس التى هى نواة الحياة فى الحي مجردة عن الخصائص التى تعرضها، فهي السر الكامن فى الجسم الحي الحساس ينبعث عنه الفعل أو ينفعل هو بما يعرضه فى الحياة.
فهي (١) على هذا التحديد الاعتباري. مجمع الخصائص فى الإنسان كالإرادة والفكر والعقل ونحوها من أمهات العمل الخارجي او الداخلي
ولما كان المرء عبارة عن شخصيته التى يمتاز بها، وهي نتاج هذه الخصائص، وكان هذا الجسم قشرة لذلك الجوهر أطلقت النفس على المرء بمجموعه قلبا وقالبا.
فالنفس التى هى مصدر العمل وعكسا هى أم الإرادة التى هى مصدر العمل طردا لا عكسا، أي ان النفس تفعل وتنفعل واما الإرادة فتفعل ولا تنفعل إذا صح ان كبت الإرادة انما هو انفعال النفس لا انفعال الإرادة كما سيمر بك.
اما مصدر هذه النفس وإرادتها التى يتطور بها الإنسان بله الحيوان روحا وبدنا فإنما هو تلك القوة المالئة هذا الكون او لعلها هى نفس الكون او لعل الكون إحدى جزئيات معناها الكلي. ولم اكن لأومن كل الإيمان انها "أى النفس الناطقة" نتيجة تفاعل هذه الخلايا او انها احدى خواص هذا التركيب الجسدي، أو انها هى هو، أو انه ظرف يشتمل عليها وان كان بعضها اقرب إلى العقل من البعض الآخر.
لا أومن بشيء من ذلك ولا بعدمه على رغم أني اعتقد باقتسام خصائص النفس اجزاء الجسم كالدماغ والقلب والأعصاب.
لا أومن كل الإيمان ولا اجحد كل الجحود ضرورة انه لم يثبت لدي ان الكائن مطلقا إنما هو نتيجة تفاعل المكين
كما لم يثبت لدى عدمه مطلقا
فقد تكون الروح من الجسد مكان اللون والنور من الأجرام المرئية كما قد تكون منه مكان الطعم من الثمر والعطر من الزهر وقد تكون منه مكان الصدي والسير من السيارة كما قد تنزل منه منزلة السائق منها فتكون غيره.
ولعلي لم آل جهدا فى التفكير بما يقفني على هذه القوة "مصدر النفس" واكتناه حقيقتها الغامضة أو لعلي لم أحجم عن درس أي كتاب اتصل بي صادرا عن أي مفكر فى العالم للبحث عن هذه القوة، فلم يزدني كل ذلك علما بما وراء ما أحس إلا انه أمر فاتني حسه ففاتني اكتناة سره، ولم أكن لأقول فيه إلا من وراء الحدس والظن
ولعل ما نقوله فى تلك النفس التى توحي إلينا الفكر وتحرك ألسنتنا بالنطق، انما هو من قبيل الخوض فى هذا التيار الحافل بأسرار هذه القوة الغامضة فلم نقل فيه إلا تخرصا وحدسا.
ثم ما هى حقيقة هذه الإرادة؟ وما هو هذا الفكر؟ هل هى وليدة انفعال تلك القوة العليا؟ وهل هذا الفكر الذى نجول به فى عالم النفس هو وليد ما يصدر عن هذه الإرادة من عمل؟ ام هما معا فعل تلك القوة الاولى أم نتيجة انفعالها ؟
وهل من الممكن لو لم يصدر عن الإرادة عمل فى الحياة ان يتكون هنالك فكر يتدبر هذا العمل فنقول قد كانت إرادة ولم يكن فكر وسيبقى وتهرم الإرادة ثم تموت؟ أي أن الإرادة هى التى أوجدت الفكر، والفكر سيتغلب عليها بما يعضده من نواميس الاجتماع التى يسنها فيخلق الإرادة حينئذ من جديد ويصبح الإنسان ملكا
ومهما يكن من شيء فلا بد لنا قبل التعمق فى لبحث عن الفكر من تحرير الإرادة، وهذا التحرير يستلزم كلمة تتناول ما وراء هذا العمل الخارجي من عامل داخلي
الانفعال: هو الانتقال من عوارض النفس بما يفاجئها من حوادث خارجية او تصورات داخلية، فالغضب الذى هو نتيجة انفعال النفس بما يثير حفيظتها ويمتهن قدرها والسرور الذى هو نتيجة انفعالها بما تتلقاه من نبأ سار هما من العواطف التى هى
نواة الشاعرية فى النفس والتي تنبعث عن هذا الانفعال.
وقد يكون الانفعال غير مفاجئ فينجم عن أمر الإرادة للنفس بما يكبتها كاليأس الذى يتسرب إلى النفس تدريجا بما تحدوها الإرادة إلى فعله من وراء الأمل فتخفق فى تحصيله جملة ويبقي لها رجاء بالحصول عليه، ثم يضمحل هذا الأمل تدريجا فيضغطها اليأس ويكون من وراء ذلك حزن عميق ينشأ عن انفعالها بالإخفاق
وقد ينشأ هذا الانفعال العميق بما تتلمسه النفس الشاعرة أمام مشهد اجتماعي له جلاله كالأثر الفخم والجند الزاحف او منظر طبيعي له جماله كالحدائق الغضة والخمائل الملتفة والمروج الخضراء، كل ذلك يفعل فى النفس ما يبعث فيها السرور او الحزن فتنفعل به. فالانفعال من عوارض النفس لا الإرادة، ضرورة انها تنفعل بما لا تريد
الإرادة : أكما تتأثر نفسك الشاعرة بأحد المشاهد الاجتماعية أو المناظر الطبيعية فتنقبض أو تنبسط، والفكر من ورائها يشرف على ثورتها ويحول دون طغيانها فينشأ بين جمالها وجلاله أثر فى الخارج هو نتيجة فعله وانفعاله، أكذلك كانت هذه النفس وليدة القوة الاولى مصدر القوى الكونية، وكانت الإرادة من لوازمها الذاتية ضرورة بقاء الحي حيا فهي لا تنفك عن النفس منذ الأزل (١) ؟
ثم لا بد لنا من تمهيد بسيط هو أن فى الأثر جزءا من مؤثره، سواء أكان الأثر معنويا ام ماديا كالحكمة والفن فى الإجرام التى نبتدعها. فالحكمة فى الأثر أعني الغاية التى كان لها إنما هى جزء من عقل المؤثر المجرد يشير إلى عظمته فى نوعه من هذه الناحية، والفن فيه هو جزء من عقله المتخيل المبدع يشير إلى عظمة المؤثر من حيث خياله وتصويره فى رقيه الفكرى
ومجموع الحكمة والفن فى الأثر هو الجمال، فجمال الجرم
المبتدع هو ما يروعك فيه من شكل ولون وهو الفن، ومن سمو غاية وهي الحكمة، وكذا الأثر المعنوي، ففي البيت الواحد من الشعر أو الفقرة الواحدة من النثر جزء من روح الشاعر أو الناثر تلمسه روح النافذ البصير من ورائهما
وهكذا الصورة والقلم ونحوهما من نتائج الفكر المادي ففيهما جزء من روح الصانع يتراءى للحكيم من وراء صنعه. فجلال هذا الروح وجماله بجلال هذا الأثر وجماله
ففي قول القائل: لا يغرنك فى الشام رجال ... موهوا بالرياء وجه الفرنسي ربما أثرت العيون من الكح ... ل وخلف الجفون منبت ورس تتجلى روح لم تكن، وأنت الشاعر، لتلمسها فى قول الاخر: لا يغرنك منهم نفر ... أظهروا نحوك حبا ووداد لو تبدى لك ما قد أظمروا ... لرأيت النار فى وسط الرماد
وهكذا فانك لا تستطيع ان تقابل ما فى الكرسي بما فى الساعة من حكمة الصانع، فبقدر ما فى الصانع من عظمة يبدو لك ما فى صنعه من جمال او جلال.
وكون هذا الأثر مرآة مصدره كما نشاهد من وقوفنا على روح الشاعر بدراسة شعره ، وفكرة الفنان بتحليل فنه هو أمر متحقق فى الخارج لا شبهة فيه "يتبع" النبطية (جبل عامل) (الحومانى)
(١) قد يقف فى طريق هنا التلازم تقرير انفراد النفس دون الارادة والعقل فيما بعد ، فتأمل (٢) هذا الحكم اعنى جعل الفن والحكمة صادرين عن العقل باعتبارين مبنى على ماسنحققه من أن الجوهر المسكنون فى الجسم انما هو واحد بعد الارادة والنفس
