الرجوع إلى البحثالذهاب لعدد هذه المقالة العدد 93الرجوع إلى "الرسالة"

العلامة المستشرق ، كراتشكوفسكي

Share

في عصر يوم من  الأيام نحو عشرة أعوام  ذهبت لزيارة المرحوم.  والدي - كما كنت أفعل  دائماً - بمنزله الخاص  بالزمالك حيث كان  يسكن وحيداً بين كتبه  معتزلاً العالم. دخلت  عليه في حجرة عمله  فوجدته أمام مكتبه بين  أكوام من الكتب والدفاتر - شأنه دائماً - يطالع ويقيد.  فلما أحس بوجودي رفع رأسه وأزاح نظارته   (الخاصة بالقراءة)   ودعاني إلى الجلوس. ووقع نظري على صورة لقبر إسلامي كانت  ضمن الأوراق العديدة التي يزدحم بها مكتبة. فسألته، فابتسم  وقال: هذه صورة قبر الشيخ طنطاوي المدفون في روسيا.  وعجبت لأمر هذا الطنطاوي الذي اختار بلاد الروس مدفناً له.  فاستوضحته الأمر. فأخذ يحدثني عن هذا العالم المصري الذي نزح  

إلى روسيا في العصر الماضي ليدرس اللغة العربية وآدابها في  جامعة بطرسبرج - كما كان اسمها في ذلك العهد - وكيف أقام  فيها حتى وافاه الأجل فدفن بها. ثم كيف قام اليوم من بين  الأساتذة المستشرقين من يعنى بهذا العالم المصري فيحقق أمره  ويؤلف رسالة عنه تخليداً لذكراه.

واستهواني هذا الحديث، وجعلت أنظر إلى الصورة وأنا  معجب فخور بهذا الأستاذ المستشرق الذي انبرى لعالم من علمائنا  المنسيين ينشر حياته على الملأ ويشيد بذكراه. فينشر معه صفحة  من صفحات تاريخنا المغمور ويشيد بذكرى بلادنا بين أصدقائنا  البعيدين. ورفعت رأسي ونظرت إلى والدي مستفهماً. فقرأ  في عيني ما يجول بخاطري وقال:

-  إن صاحب هذا البحث هو الأستاذ كراتشكوفسكي الروسي في هذه اللحظة أحببت الأستاذ كراتشكوفسكي  وشعرت في صميم قلبي بأنه ليس غريباً عني. وشاهدت صورته  فيما بعد فراعني منها مسحة الوقار المنطبعة على محياه، وذلك  الإشعاع العجيب الذي يشع من عينيه - إشعاع الطيبة  والإخلاص. واتصلت بالأستاذ عن طريق المراسلة، فعرفت فيه  رجلاً ذا خلق متين وعزيمة صادقة وأدب جم، فقد وهب حياته  منذ نحو ثلاثين عاماً لخدمة اللغة العربية وآدابها. فلم يهن ولم  يتراجع بل ثابر وثابر حتى امتلك ناصيتها وتبحر فيها، فأصبح  علماً راسخاً من أعلامها؛ وقوة من قواها العتيدة.

وإني لا أنسى أول خطاب جاءني من الأستاذ، فقد وقفت  أمامه حائرا مبهوتاً: خط عربي جميل ونظيف يماثل في وضوحه

وتنسيقه خطوط الآلة الكاتبة. تسوده روح لطيفة من سلامة  الذوق في التعبير والبساطة والهدوء. كل ذلك في سلاسة عجيبة  وصفاء غريب. وغمرني شعور لطيف فيه شيء من الزهو لوجود  مثل هذا الصديق الكبير لنا - معشر العرب - في بلاد نائية  قد وقف حياته على خدمة آدابنا وإعلاء كلمتنا.

وازداد اتصالي بالأستاذ فتوالت الرسائل بيني وبينه.  وأهدى إلى كثيراً من مؤلفاته بالروسية، ومضت الأعوام ومعرفتي  بالأستاذ تزداد اتساعاً. وكلما عرفت عنه شيئاً جديداً قويت  محبتي له وعظم تقديري إياه.

بدأ الأستاذ دراسته للعربية وبعض اللغات السامية الأخرى  كالحبشية والعبرية في جامعة بطرسبرج عام ١٩٠٨. ثم رحل إلى  الشرق فزار مصر وسورية، وأقام فيهما أكثر من عام انكب  أثناءه على دراسة الأدب العربي القديم والحديث. واهتم بالشعر  وعلم البيان بنوع خاص. وما إن عاد إلى روسيا حتى أخذ ينشر  مقالات عن الأدب العربي. وظهر له بحث مستفيض عن القصة  التاريخية في الأدب الحديث وهو بحث نقدي تحليلي عن روايات  جورجي زيدان ويعقوب صروف وفرح أنطوان وجميل مدور.    (صاحب كتاب حضارة الإسلام في دار السلام)  وتوالت بعد

ذلك أبحاثه القيمة. ومن أعماله المشهورة إصداره ديوان أبي الفرج  الوأواء الدمشقي باللغة العربية مع ترجمة روسية ومقدمة مسهبة  عن الشعر في العصر العباسي تعد من أنفس ما كتبه العلماء في  ذلك الموضوع؛ كذلك يجب ألا ننسى بحثه التاريخي  عن حياة الشيخ طنطاوي، وهو بحث فذ مبتكر حقق فيه بطريقته  العلمية المعروفة كثيراً من النقاط الغامضة التي تكتنف حياة هذا  العالم المصري   (المنسي) . ومن أعماله الهامة إصداره كتاب  البديع لابن المعتز باللغة العربية مع مقدمة للكتاب بالإنجليزية،  وهذا الكتاب يعد من أنفس الكتب التي عالجت علم البديع في  الأدب القديم. هذا خلاف رسائله الأخرى التي والى ويوالي  إصدارها، وآخر ما صدر له ترجمة بالروسية لكتاب الأيام للدكتور  طه حسين، مع مقدمة عن مؤلفات وتعليقات عن الكتاب.

أكتب هذه الكلمة الصغيرة بمناسبة الاحتفال بتكريم  الأستاذ في روسيا أحييه فيها أصدق تحية، معبراً له عما يكنه  العالم العربي عامة والأمة المصرية خاصة من عواطف الولاء والشكر له. فان رجلاً قصر حياته على نشر ثقافتنا العربية في  العالم الغربي، وأوسع لنا الطريق لنتبوأ مكاننا بين آداب الأمم  العالمية لجدير بأن يحتل في قلوبنا أكبر مكانة. محمود تيمور

اشترك في نشرتنا البريدية