الرجوع إلى البحثالذهاب لعدد هذه المقالة العدد 93الرجوع إلى "الرسالة"

الفلسفة الإسلامية ودراستها

Share

قد يكون من عبث القول أن نحاول اليوم إثبات وجود  فلسفة إسلامية انفردت بما لها من خصائص ومميزات؛ فقد انقضى  الزمن الذي ادعي فيه   (رينان)  ومن نحا نحوه أن فلاسفة الإسلام  اكتفوا بترديد نظريات     (أرسطو)   دون أن يغيروا فيها شيئاً.  هناك فلسفة إسلامية، كما أن هناك فلسفة مسيحية، أو بعبارة  أخرى تقابل المدرسة الفلسفية العربية في الشرق، المدرسة اللاتينية  في الغرب. ومن هاتين الفلسفتين مضافاً إليهما الدراسات اليهودية  يتكون تاريخ البحث النظري في القرون الوسطى. للإسلام  فلسفة قد امتازت بموضوعاتها وأبحاثها، بمسائلها ومعضلاتها،  وبما قدمت لهذه وتلك من حلول وأجوبة. فهي تعني بمشكلة  الوجود والتعدد , والصلة  بين الله ومخلوقاته التي  كانت مثار جدل طويل بين علماء التوحيد المسلمين. وتحاول  أن توفق بين الوحي والعقل، بين العقيدة والحكمة، بين الدين  والفلسفة، وأن تبين للناس أن الوحي لا يناقض العقل في شيء،  وأن العقيدة إذا استنارت بضوء الحكمة تمكنت من النفس  وثبتت أمام الخصوم، وأن الدين إذا تآخي مع الفلسفة أصبح  فلسفياً، كما تصبح الفلسفة دينية. وقد وصل الفلاسفة  المسلمون في كل هذه النقط إلى نتائج جديرة بالتقدير والإعجاب.

لا يستطيع باحث أن ينكر أن هؤلاء الفلاسفة قد أخذوا  عن     (أرسطو)   معظم آرائه، وتأثروا بأفلاطن + ٢٧٠)  إلى حد كبير. ومن ذا الذي لم يتتلمذ على من سبقه، ولم يقتف

أثر من تقدموه؟. . . وها نحن أبناء القرن العشرين  لا تزال عالة في كثير من المسائل على أبحاث الأغريق والرومان. غير  أن الفلسفة الإسلامية، وإن بنيت على أفكار السابقين، تشتمل  على نظريات جديدة؛ فهي فلسفة أنتجتها البيئة والوسط، وأملتها الظروف المحيطة بها؛ وتلك سنة من سنن التاريخ، وأصل من  أصول الاجتماع. على أنا إذا نظرنا إلى المسألة من وجهة الفرد،  وجدنا القانون لا يتغير، ولاحظنا أن الفكرة الواحدة إذا تناولها  بالبحث أشخاص متعددون، ظهرت في مظاهر متباينة. لفيلسوف  أن يقترض من آخر بعض آرائه، ولن يمنعه ذلك من أن يأتي  بنظريات خاصة وفلسفة متميزة.   (فاسبينوزا + ١٦٧٧)  مثلاً،  رغم متابعته الواضحة   (لديكارت + ١٩٥٠) ، يعد بحق صاحب  مذهب فلسفي مستقل. وكذلك   (الفارابي + ٩٥٠)  و   (ابن  سينا + ١٠٣٧)  و   (ابن رشد + ١١٩٢) ، الذين كانوا تلامذة  مخلصين   (لأرسطو) ، قد اعتنقوا آراء تمتاز كثيراً عما جاء به  أستاذهم. وإذاً استطاع العالم الإسلامي أن يكون لنفسه فلسفة تلتئم  وظروفه الدينية والاجتماعية.

بيد أن الفلسفة الإسلامية، في تاريخها، في نظرياتها، في  رجالها، لم تدرس الدرس اللائق بها، ولا تزال الحلقة المفقودة  في تاريخ الفكر الإنساني، فحتى الساعة لم يبين الباحثون  بدقة أصل نشأتها، وتاريخ تكوينها، والعوامل التي أدت إلى  نهوضها، ولا الأسباب التي انتهت بانحطاطها والقضاء عليها،  ولم يناقشوا نظرياتها واحدة واحدة ليوضحوا ما اشتملت عليه من  أفكار الأقدمين، وما أنتجت من ثروة جديدة. وأما رجالها  فغرباء في أوطانهم، مجهولون لدى أقرب الناس إليهم؛ ولا أدل  على ذلك من أن كثيرين منا يعرفون عن   (روسو + ١٧٧٨)   أو   (سبنسر + ١٩٠٣)  ما لا يعرفون عن   (الكندي + ٨٧٠)   أو   (الرازي + ٩٣٢) ، ولو لم يقيض الله لفلاسفة الإسلام جماعة  من المستشرقين وقفوا عليهم جزءاً من أبحاثهم ودراساتهم،  لأصبحنا ونحن لا نعلم من أمر الفلسفة الإسلامية شيئاً.

إلا أن هذه الدراسات وتلك الأبحاث قليلة ومعيبة من  وجهين: أولاً إهمالها للجانب الفلسفي واشتمالها على كثير من

الأخطاء اللغوية والفنية والتاريخية. ولعل سر ذلك أن أغلب من  كتبوا في تاريخ الفلسفة الإسلامية لا يجدون العربية، ولا  يحيطون تمام الإحاطة بتاريخ الثقافة الإسلامية؛ أو إن عرفوا  ذلك فهم يجهلون تاريخ الفلسفة العامة، ولم يتوفر لديهم التفكير  الفلسفي المنتظم؛ ولسنا في حاجة إلى سرد أمثلة، فإن هذا الحكم  ينطبق، إذا استثنينا طائفة محدودة، على عامة الكتب المتصلة  بتاريخ الفلسفة والفلاسفة المسلمين. وأما العيب الثاني فميل  شديد إلى الاختصار يكاد يخل بالغرض المطلوب، ويحول دون  القارئ والنفوذ إلى صميم ما يقرؤه. ومن أوضح الأمثلة على  ذلك مختصر قيم حقيقة للعالم الهولاندي   (دي بور) ؛ غير أن  عيبه الهام يرجع بالتحديد إلى اختصاره المبالغ فيه؛ وفوق هذا  فان هذه الكتب في جملتها قديمة العهد، قد ألفت في زمن  ما كان يعرف فيه عن التاريخ الإسلامي إلا الشيء القليل. أما  اليوم وقد تقدمت معلوماتنا تقدماً محسوساً في هذه الدائرة،  فنحن في حاجة ماسة إلى أبحاث تتناسب مع مصادرنا الجديدة،  ومع ما استكشفنا من مخطوطات ومؤلفات للفلاسفة والعلماء  المسلمين.

لا يقاس انتشار صوت مفكر أو مخترع بمقدار ما أحدث  من آراء ومخترعات فقط، بل بدرجة نبوغ الوسط الذي يعيش  فيه والشعب الذي ينتمي إليه. فالأمم النبيلة تزيد أبناءها عظمة  على عظمتهم، وتعمل على رفعتهم بقدر قد لا يصلون إليه وحدهم.  ورب نظرة عادية لاقت مشجعين فنموها، وأخذوا بيدها حتى  صعدت إلى عنان السماء؛ ورب فكرة ممتازة صادفت منبت سوء  فماتت لساعتها. عرفت ذلك الشعوب الناهضة، فأشادت بذكر  علمائها وفلاسفتها، وخدمت في الوقت نفسه العلم والثقافة  الإنسانية. فهي تخلد ذكرى رجالها بمختلف الوسائل، وتعمل  على نشر آثارهم ما وجدت إلى ذلك سبيلاً. فمن تماثيل مقامة في  المدن والقرى، ومن جمعيات نشر وترجمة وتأليف قد أخذت

على عاتقها إذاعة ما أنتج السلف من أفكار. فهل آن لنا أن  نحتذي بهذه المثل الصالحة، وأن نعرف لتاريخنا حقه كي نعرف  وننال منزلتنا تحت الشمس؟ متى يكتب عن   (الفارابي)   بقدر ما كتبوا عن   (موسى بن ميمون + ١٢٠٤) ؟ ومتى  تعرف مؤلفات   (ابن سينا)  كما عرفت كتب   (سان توما +  ١٢٧٤) ؟ ومتى يدرس   (الغزالي + ١١١١)  بقدر ما درس    (ديكارت) ؟

إن دعوتنا هذه موجهة إلى كل بلاد الشرق، وبوجه خاص  إلى مصر التي تستطيع بحكم مركزها الاقتصادي والاجتماعي  والعلمي أن تخدم البحث والتأليف. فإلى أبناء مصر عامة، أفراداً  خاصة، نتقدم بكلمتنا هذه آملين أن يعبروا تاريخ الفلسفة والبحث  العقلي في الإسلام جانباً كبيراً من الأهمية. إن ميدان العمل  فسيح، وإن سبله عديدة، ولسنا الآن بصدد أن نرسم خطة شاملة،  أو أن نبين منهجاً مكتمل المواد، وإنما نريد أن يتولى الشرقيون  بالدرس فلاسفة الإسلام على النحو الذي درس به الغربيون  رجالهم. لنترجم لمفكرينا ترجمة مستفيضة، ولنصف وصفاً دقيقاً  نواحي حياتهم المتعددة؛ لنبحث عن أصول نظرياتهم لدى حكماء  الإغريق والهند والعراق، ولنقارن هذه النظريات بما جاء به  اللاتينيون في القرون الوسطى، ولنبين وجوه النسبة بينهما وبين  الأفكار الحديثة. إنا لا ننكر أن هذه الأبحاث مملوءة بالمصاعب،  إذ تستلزم معرفة عدة لغات: قديمة وحديثة، شرقية وغربية،  وتستدعي الاطلاع على مصادر لا حصر لها، ولكن إن لم يكن  في هذه الدراسة إلا أنها عمل جديد من نوعه لكفي مرغباً في  مزاولتها والإقبال عليها.

وأخيراً لنعمل على طبع ونشر مؤلفات الفلاسفة المسلمين،  فإنّا لا نستطيع أن نفهمهم فهماً حقاً دون أن نقرأهم بلغتهم وفي  كتبهم؛ وهنا نتجه بصفة خاصة إلى الجامعة المصرية التي سلكت  في هذا الباب مسلكاً تحمد عليه، فقد بدأت منذ زمن، متبعة  سنة الجامعات الأوربية، في أحياء المخلفات العربية، وجمع  المخطوطات الإسلامية وطبعها. وعلها تخطو في هذه السبيل

خطوات أخرى حثيثة ومتتابعة. إنه لمحزن أن يبقى قدر من  مؤلفات     (الفارابي)   مخطوطاً حتى اليوم، وموزعاً بين مكاتب  أوربا المختلفة: ليدن، باريس، والاسكريال. على أن ما طبع  من كتب هذا الفيلسوف العظيم مملوء بالأخطاء. فهل لنا أن  نسعى إلى جمع مؤلفاته في شكل وطبعها كلها طبعاً مناسباً،  مصحوباً بوسائل التحقيق والإيضاح الضروري. الفكرة تخامرنا  منذ زمن؛ وقد أشرنا إليها في كتابنا على     (الفارابي)  ، ونحن  نرحب بكل من ينضم إلينا في تنفيذها. وليس   (ابن سينا)   بأعظم حظاً من سلفه وأستاذه؛ فان كتابه الأكبر في الفلسفة:    (الشفا) ، قد طبع طبعة مشوهة في طهران منذ خمسين سنة. وقد  أهمل الناشر الجزء الأول منه، الخاص بالمنطق، والذي اهتدينا  إليه أخيراً في مخطوطة بالبرتش ميوزيم  وأخرى بالأنديا أوفس وإنا لنأمل أن نوفق يوماً  لنشر هذه المخطوطة وضمها إلى الجزأين الآخرين في طبعة  جديدة مستقيمة.

تلك سلسلة من الأعمال تبين نواحي النقص في دراسة الفلسفة  الإسلامية، وهناك ملاحظات كثيرة متعلقة بكبار فلاسفة  الإسلام الذين لم نشر إليهم قد أرجأناها إلى فرصة أخرى. وكلنا رجاء أن تتضافر الأيدي على حرث وزرع هذا الحقل  المترامي الأطراف، وأن نتعهده متكاتفين حتى يؤتى أثماره الطيبة.

اشترك في نشرتنا البريدية