الرجوع إلى البحثالذهاب لعدد هذه المقالة العدد الثامن عشرالرجوع إلى "الرسالة"

الفنان

Share

قصة - سمعتها منذ ثلاث سنين فلعل لها سامعا واعيا .

....فصَل القطار من بوستون بعد الزوال بخمس  دقائق. وتفرق المودعون، وآوى إلى المقاصير المسافرون.  فها أنا مستبدٌّ بهذه المقصورة الثمانية (١) وقد أمكنت الراحة  فما يمنعنى أن استلقي فأريح فكرى وجسدى. لتدر السماء  والأفق والأرض وجداً فلست أبالى ما استقرت بى هذه الزاوية.

لله أى أشجار من الزمرد!. . وأى لجج من المروج!. .  أزهور هذه أم قصور؟. . ما هذه القرى فى حلل المدن  وأبهتها؟. . ما أجمل الطريق وما أبهر مناظرها!. . . وما  أكثر هذه المصانع!. . . .

أخذتنى سنة فانمحت هذه الخاطرات كلها. وبينما أطفو  وأرسب فى آفاق النوم إذا أنا مشارك فى مقصورتى: وإذا  كوكب فى ميعة الصبا قد طلع أمامى. كلما طمح البصر إليها

أزاغه لألاؤها فخر ساجدا على قدميها. وإلى جانبها -ولا  ريب انه حبيبها- رجل نجيب، محبب إلى الرائى، طويل  القامة، رزين، مهيب، تشهد كل أسارير وجهه أنه فنان.

أشفقت أن أروع هذين القمريين، فعلقت أنفاسي ولبثت  قابعا فى زاويتى. ثم شرعت أرقبها إذ لم أر حاجة إلى هذا  الإشفاق: أما الفتاة فكانت عيناها الذاهلتان مستغرقتين فى  حبيبه حتى لتحسب أن لو انقضَّت أجرام السماء لم تفق ولم  تشعر. وأما العاشق -وقد غشى الحزن أسارير جبهته الوقور-  فقد غابت نظراته العميقة فى اجواز الفضاء البعيدة. كيف  يحسَّ ظلَّ وجودك وهو يرمى الغيوب بعينيه وبجانبه ليلاه،  وأمامه صورة المستقبل الذى طمحت إليه عيناه؟ فانس نفسك  ثم انظر ماذا تقول الفتاة:

أيها الأمير! أرأيت ثلاث القطع الأخيرة؟ إنها لساحرة  جدّ ساحرة. ما أصاخ المسرح فى حياته إلى مثل هذه البدائع،  أرأيت شمس الصيف حين تطعن بأشعتها فى السحب فتحرق  السماوات نيران البروق الخاطفة؟ كذلك كانت أصابعك التى  لم تضرب، بل أحرقت العود النائح تحت خطوات الضياء!  لو علمت كيف أنَّت تلك الصدور التى كانت أمامك! ربّ!  ماذا كانت هذه النوَّحات الداخنة لحناً بعد لحن كما تدمى وتحترق  مئات من قلوب البلابل وأنت تصب شآبيب اللهب على  الأوتار كلها جملة واحدة! إن هذا النفس المنبعث إلينا من  قلب الصحراء المحترق -هذا الخطاب الذى يحشر الأجيال  كأنه نفخة الصور هو أوّل ما سمعه غربنا المدنى، علم الله  لقد كنت، وصواعق المضراب تتساقط، أتمثل سراب الماضى،  ماضى مصر والعراق، وإيران والحجاز، واليمن وغزنة وبخارى،  والسند والهند) كنت أتمثل هذا السراب صاعداً من كل  خربة دخاناً بعد دخان!

- ولكن كيف يحتمل عجزى هذه الكلمات ؟ إنى لأخجل أن أشكرك.

- ماذا تقول ؟ ان للتواضع حدا فاعرف قدرك. - أنا لا أعرف الأ قدرى :

كلا كلا! حتَّام تخفى نبوغك؟ ألم تر إلى الذين استمعوا  لعزفك اليوم؟ وهم شياطين الصناعة فى هذا العصر بلا ريب- ألم ترهم جميعاً قد أحنوا رءوسهم إكبارا وإعجابا. ولا سيما  مشاركة غودسكى(١) فى عصفات التصفيق الثائرة بين الحين  والحين، وتهنئته إياك وقوله: "أيها الأمير! لا أدرى أين  نظير هذا الاعجاز، ما أبهر عزفك! أنى بك جد مفتون،  وإنك اليوم فوق كل ثناء" إنها كلمات أخذت أنفاس الحاضرين. - لأنه يحب الفقير(٢)

- كلا . ان هذه الديار , مالم تغير شعارها , لا تحب الفقير أبدا , وانما تحب الدولار ولست أعرف ديارك . ولعلها على غير هذا .

- ان يكن بيننا فرق مقدار رأس فرس فى حلبه الرهان . - نحن إذن شركاء فى الفاقة . وانها لبلية .

- ولكن ما كان ينبغي ان يغض من قدر غودسكى، فان كل قريب يعرف شرف نفسه ؛ دع عبقريته التى سيطرت على كل بعيد . فان لم يكن فى صدره قلب حساس فانشرى على الخليقة كلها كفنا من المعدات.

- حسن! والآخرون؟ أهم كذلك أصدقاؤك؟ - لا!

- هل نسيت ما قالوا: "أيها الأمير! ما سمعنا قط  فيولنسل(٣) كهذه، قد تسخّر العبقريات الكبيرة، هذه الآلة  الثائرة المستعصية التى تزلزل العبقريات الصغيرة، ولكن  المعجزة فى عودك هذا. نعم إن فيولنسل عندنا آلة أبيَّة مرهفة  ولكنها كملت على مر الزمان. وما هكذا عودك، انه آلة ساذجة  تأبى كل كمال. إن هذه الأصوات الزاخرة كالشلال لا تفيض  من مثل هذا الصدر. كنا نظن هذا فاذا بك قد أخرست الفضاء  وظهر بين الحين والحين عودك اللانهائى. . .) أهذه مجاملة؟ - أليست مجاملة؟

- رحماك ! انى لأخشى أن يكون تواضعك أشبه بالرياء! لقد آن أن نعترف بنبوغك.

- إن مقاربة الكمال بعيدة عن آمالى فدعى النبوغ الآن! - ما هذه النغمة الباردة المعادة؟ وهذا القرار المكرر؟ - ذلك إن الفنان لا يعلو بذراعيه، ولا بد للنبوغ من  جناح، ولا جناح لى.

- أأنت لا جناح لك! اجهر بصوتك فما فهمت! انك منذ  قليل جاوزت شواهق الصناعة ثم حلقت حتى تخطيت حدود  الإمكان، أنَّى اهتديت إلى هذه السبل المختلفة للإيغال فى هذا  الطيران؟ لا ريب انك لم تطوِّف فى عالم اللانهاية راجلا.  وأن لك فى هاتين الآلتين الخافقتين فى ذكراى جناحين  آخرين. فليت شعرى أفى العالم عبقرية كهذه تسمو بها أربعة  أجنحة باحثاً خيالها فى سماء الالهام؟ إن الدم الذى فى عروقك  لمن دم الأنبياء، وأن غلياناً فى هذا الدم لجدير أن يبعث  فى الشرق أزكى حماس؛ إن وراءك جدوداً قد تصرف بالدهر  سلطانهم، وأن أمامك ذكراً قد ضمن لك المستقبل منذ اليوم،  فهل جاء أحد إلى هذه الديار فى هذه السعادة؟

- أهكذا السعادة ؟ كلا ! لا تخدعى نفسك بالسراب . اجل نشأت فى طفولة سعيدة اتبحبح فى دار كأنها الفردوس . ولكن ا كفهر الجو منذ تخطيت عتبة الدار : احاط اللهيب والدخان بالشرق الممزق , وكيف ينهض من تلقفت داره النار فانقضت فى التراب كل مفاخره حتى لم تبق خربة من هذا الماضى المجيد ؟ وبينما تململ تحت هذه المصائب تقطعت الديار فذهبت واحدة بعد اخرى ،فلما نظرت ورائى لم أر دارا ولا ديارا : ذهبت بها جميعا ايدى الاجانب ! فلم يبق فى هذه القبة الا يأس امة خاسرة !

- أليس هو الياس الذى كان يئن به عودك ؟

كلا! لو أنَّت الكائنات كلها بَلْهَ العود ما ترجم النواح عن  ألم متقد فى الجوانح. يقول شاعر الهند الفيلسوف محمد إقبال:  "احترقت من نغماتى المضطربة قلوب الأصدقاء، وإنما يحترق  قلبى من النغمة التى يعجز عنها الغناء.) وكذلك أنا. فما سمع  بعد من لسان مضرابى صوت الألم الذى يدوى فى قلبى الخرِب!  ذلك سموم، فكيف تبين عنه بضع آهات؟ نعم لم تبن عنه فما  كنتِ الآن عارفة أمرى إذ تغنيت بأغانى سعادتى! فلا تغضبى  إن عجبت لظنك بى. لا تغضبي واعلمى أنى نِضْو مصائب، أجالد  هذه الأحداث التى تسمى القضاء. وقد عى رأسى وذراعى

بالجلاد المحتدم ليل نهار، لا أزال أتحامل وانهض. ولكن الشباب  قد انهدم! وا حسرتاه! على أى حين قد انهدم: حين يئست من  الظفر ونأى عنى أمل النجاة وذهب الهلاك بكل خطوة خطوتها  إلى المستقبل. وإلا فأية بلية لم تنل منى؟ أصورة وطنى الذى  انقلب كثباناً من الرماد؟ أم تعاسة أمتى الهائمة بغير وطن؟ أم  عشي اليتيم الذى عصفت به ريح الخريف؟ أم أسرتى المرزأة،  التى ذرتها الرياح فى الأرجاء؟ أم معابدى ومقابرى التى طمسها  البلى؟ أم حرم كعبتي الذى أقفر إقفار البيداء؟ أم دينى الذى  دمى قلبه دهراً حتى وقع؟ أم نعيب البوم على هذه  الخرائب خرائب الإحساس؟

وبعد فأية فاجعة لم أصل بنارها ؟ لست أعلم ما طواه لى الغد فهو الآن سر محجب ، ولكن إن تسألينى عن مصائب اليوم فاليك إجمالها :

ارتمت بى فى اليم سفينة بالية. فاكبر ظني أن لن أعاود الحياة،  وكنت أعزى نفسى حين أرى أساطين عشيرتة بجانبى  تتقلب بنا الخطوب معاً. فثارت العاصفة ومزقت أضلاع  السفينة وتفرقت الأمواج بالألواح، فلتصارع القضاء هذه  السفينة التى انقلبت خيالاً، بل لم يبق منها الخيال! لماذا أكافح  أنا فى هذا البحر؟ قد اعتصمت بلوحين تعسين، وما بقاؤهما فى  مصارعة جبال من الموج؟ والسماء تحجبها ظلمات من السحب  متراكمة: ويجثم على الفضاء اشد الليالي حلكا وهولاً، فأكوام  الظلام عن يميني وشمالي وأمامي وخلفى. لا أعرف المكان  ولا الغاية ولا الجهة ولا الوجهة، أضطرب يائساً وأدور  التمس الفروج فلا أظفر بها، فأرانى مسكينا يدفع إلى القبر  حياً! حينا تقذفني الأمواج الثائرة! وحينا تهبط بى هوة  جهنمية يرعد بها الفضاء! وحينا تنشق السحب عن البرق الخاطف  يمزق أحشاء الظلام،  فاذا مرأى هائل لا يذر للحياة الرجاء!  أقول مرة: (إن القضاء لا يصارع. فان لم يكن من الأجل  بُد فما تمسكى بهذين اللوحين؟ حسبى جلاداً وكفاحاً!) وأقول  أخرى: (كلا! لا أستسلم! لأصدم برأسى الصخرة ولا أصدم  به الانتحار!) ثم أمضى طافياً راسباً.

- ألم أقل الآن أيها الأمير ! ان الذى يتحكم فى نفسك دم الأنبياء؟.

أجل , أطفو وأرسب وإخالنى لا اتقدم - بهذين اللوحين اللذين سميتهما جناحين! بهذين اللوحين وهما البقية من أنقاض

شبابى المهدم ان تكن له بقية !

- أما كنا نريد ان نشهد الغروب منذ حين ؟ واأسفا قنا ذهبت حتى حمرة الشفق ! وجثم على الآفاق اليتيمة حزن المساء فانقلبت صادرا حزينا . ألا ترأها ؟

- هذه " الآفاق اليتيمة " تمسح عليها الآن يد الشفق : فإذا انطفا الشفق مسحت عليها ايدى النجوم . واما " الصدر الحزبن , فان غداه مشمس . ولكن آفاق ليلى ليس لها من هذه القبة ضوء ولاصدى , وانما حظها هذا الظلام الصامت , هذا الظلام السرمدى! كلما هبطت الى ساحة قلى اخذتنى الرعدة والوجل : اذ أرى فى كل خطوة أثر غروب . نعيم أثر غروب, ولكنه عميق كالعدم ! فانما موعد شموسى الغاربة يوم المحشر!

ولكن ما هذا الحزن وما هذه الدمعة على وجهك؟ لا تختمى  بتعذيب مسافرك أيتها الرفيقة الجميلة! يعلم الله لو أن قلباً قدَّ  من صخر ما احتمل انهمار هذه الشآبيب الغائمة فى عينيك!  لا! لا! إنه ليحرقنى أن تحسي آلامى. فدعينى أبكى وتنحى  عنى! قد قاسيت مصائب الدنيا جميعاً، ولكن دعينى أمضى دون  أن أرى هذه الدموع!

اشترك في نشرتنا البريدية