الرجوع إلى البحثالذهاب لعدد هذه المقالة العدد التاسع والعشرونالرجوع إلى "الرسالة"

الفن المصرى القديم

Share

-٢-

قد يكون من بعض الأسباب التى يقوم عليها عذر أولئك  المنكرين لفضل الفن المصرى على انه أساس الفنون الأخرى،  إن الفن المصرى هو فن فذ، ذو أسلوب فريد يختلف عن بقية  الفنون، يجعله كما يعتقدون - أو يتوهمون - جافا ليس حرا.  أو أنه فن محلى بحت لقيامه على قواعد وشروط خاصة، أو نظام  قومى لا يتعداه ، يجعله غير مألوف لاعين الام الاخرى ، أو غير  متوافق مع مزاج كل أمة لشذوذه عن المعروف عندها. بخلاف  الفن الإغريقى. فهو فن متفق مع جميع الفنون الأخرى فى الغرض  والأسلوب. أو هو فن دولى، فهو لذلك الفن الجدير الصادق.  ولهذا أغضوا عن الفن المصرى القديم، وقام فى أعينهم مكانه الفن  الإغريقى كأساس لكل فنون العالم، وذهبت هذه الفكرة الواهية  بمعالم الحقيقة.  وسأحاول أن أدافع عن هذه الحقيقة، وأقاوم تلك الفكرة

التى لا ينبغى أن تلبس العقول. وقد أتمنى أن أوفق لإثبات الجدارة  للفن المصرى القديم، وللتدليل على أنه الأساس، إن لم يكن لكل  تلك الأساليب من الفن التى يبهر بها الغربيون أعيننا الآن، فلا  أقل من أن يكون صاحب الفضل على جميع أقوام العالم فى تدريبهم  على كيفية رسم المجسات وعلاج الألوان. أو أن يكون قد وضع  النموذج المبدئى فى كيف ترسم اليد جسم الإنسان رسما صحيحاً،  وكيف تتقن تصوير أعضائه وتمثيل عضلاته. ثم كيف بعد ذلك  ينتخب ذوق الانسان الألوان التى تتناسق وتتفق تحت العين.

ارتباط الفن بالدين:

ان فنون العالم، وقد بدأت كلها حياتها فى خدمة الديانات،  وفى تحقيق أغراضها المختلفة تدرجت الحال بها كلما تقربت الأمة  إلى فهم معانى الجمال، وتوغلت فى أساليب المدنية إلى طرح  التقاليد الدينية جانباً. وتخطتها إلى التعبير عن الأغراض الدنيوية،  والكشف عن أسرار الطبيعة بما فيها من جمال وروعة. فاتفقت  كلها على أن تعطينا أخيرا تلك الخلاصة البارعة فيما نتمتع به اليوم  من مبدعات الفن.

إلا الفن المصرى القديم. فانه ظل للديانة المصرية خادما أمينا،  محافظا على غايته وأغراضه مدى الخمسين قرنا الطويلة التى عاشها فى  التاريخ ولم يخن عهوده يوما ما، ولم يتزعزع عن خدمة الديانة  حتى فى أنشط أدواره، فى غضون عصر الأسرة الثامنة عشرة عندما  جنحت الفكرة بفن تل العمارنة إلى الإغراق فى تزويق القصور.

ومن ذلك كان الفن فى كل أدواره مرتبطا مع الدين برباط  وثيق. يتأثر تبعا للانقلابات الدينية، أو الحركات العبادة ذاتها. أو قل  أن الكهنة كانوا غالبا يسيطرون على دفة الفن، فيوجهونها حيثما  شاءوا، بحسب العقيدة والأهواء الدينية. لما كان للكهنة من  سلطة عظيمة فى البلاد، تقارب سلطة الملك ذاته، بل إن سلطتهم  كانت فى بعض الأحيان، تفوق سلطة الملك.

ولكن الفن الذى تركه لنا أولئك القدماء، أعطانا، مع ذلك، أفخر  ما يشهد بقدرتهم وكفايتهم، وأصدق ما يعبر عن نضوج أذهانهم  واكتمالها. بل أعطانا فى كل أسباب شواهد لا تحصر من البراعة  والسمو والإبداع مع وافر من الرشاقة والجمال. فى حين أن كل فن،  قام أو يقوم بخدمة الديانة بعده، وقف طويلا فى طريق الجمود.

ومصر لا يجب أن تعتبر وثنية بكل المعنى. لأنها فى كل أدوار  تاريخها كانت متغلغلة فى أسباب الديانة، مراعية للخير والصلاح  بكل دقة، تقدر الحساب والعقاب، وتعمل للآخرة، حتى طبعت  أرضها بطابع دينى. يقرب كثيرا فى بعض الأحيان من الحقيقة.  وفنها من أجل ذلك، فى مسحته القدسية، يجعلنا بعيداً عن الحقائق  الأرضية، بما يفوق الفن الإغريقى. ولكنه فى الوقت نفسه نابض  بكل معانى المقدرة والرزانة، متواضع مع الأفكار البشرية، مخلص  كل الإخلاص فى التعبير عن الإنسانية الأولى.

"يتبع"

اشترك في نشرتنا البريدية