كان أكتوبر فى الزمن السعيد يقبل على القرية إقبال الربيع، يفَّتق لوز القطن فى الحقول، ويشِّقق ورد الصبى فى الخدود، ويفتَّح نوّار المنى فى القلوي، ثم يمر بيده الذهبية على نصب الفلاح فيزول، وعلى هم المدين فينفرج، وعلى غمرة المكروب فتنجلى، ويرسل الخصب مدراراً على المنازل الجديبة فيرتاش المقلُّ، وينعم البائس، ويتزوج الأعزب!
كنتَ فى أكتوبر، شهر الغنى والزواج، ترى مزارع القطن رفَافة الوجوه، بسامة الصور، تنساب بين خطوطها البيض أسراب الغيد بجنين الثمرة الغالية، وهن يغنين الأغانى الجميلة، ويحلمن الأحلام اللذيذة، ويتخيلن هذا القطن الذى يجمعنه الآن بأناملهن، ويضعنه فى أحضانهن، وقد اصبح الثوب الزاهى الذى اشتهينه، والقُرط الذهبي الذى ابتغينه، والزوج الحبيب الذى طالما تمنينه! فإذا جئت القرية وجدتها زَّخارة بالحياة، مَّوارة بالحركة، تمرح بحماس الشباب، وتموج بأطياف الحب، وتهزج بأناشيد الأعراس، وتتلقى جزاءها الأوفى على جهادها الصابر طول العام فى فلاحة الأرض وخدمة المالك، وإعانة الحكومة.
فالطرق الآتية إليها من الغيط تسيل بالعذارى الأوانس يصفقن بالأكف المخضوبة ويحدون بالأصوات الندية،
(والخواجات) يخرجون متعاقبين من بيت إلى بيت يساومون على (المحصول) بالأثمان المغرية، والشباب المرحون يسمرون إلى موهن الليل على الرباب والأرغول فى بيوت الأفراح القريبة، وأشعة الخريف الفاترة تبعث فى قلوب هؤلاء الخليين طلاقة العيش وجمال الوجود، فلا يشغلون بالهم بالزروع التى تذبل، والأوراق التى تسقط، والطبيعة التى تموت!
ذلك حديث القرية المصرية بالأمس، فهل أتاك حديثها اليوم؟ لم يعد وا أسفاه للقطن تلك القوى السحرية التى كانت ترد البؤس نعيما وتجعل النار جنة! ولم تعد الطرق السالكة إليه شادية بالغناء، ولا الأنامل التى تجنيه مخضوبة بالحناء، ولا الدور التى تحويه ألاقة بالذهب! فقد القطن ولواحقه من سائر الغلات معنى الرخاء فأصبح علاجها عناء خالصا لا روح فيه، وسعيا باطلا لا رجع منه!! وكان الفلاح قد أقام بيته وأدار حياته على هذا الحاصل، فكان يأكل حبوب الأرض ثم يرصده وحده لقضاء الدين وأداء الضريبة ووفاء القسط وسداد العوّز وأكلاف السنة، فلما بخست قيمته الظروف القاسية تزعزع البيت، واضطربت الحياة، وانتشرت الحال، واستحكمت الازمة، فألحف الدائن فى الطلب، وأعنف الصراف فى التحصيل، وأسرف البنك فى الحجز، حتى انتقص لهم من قوُته، واقتطع لهم من ثوبه، ونزل لهم عن جهده، ولم يغن كل ذلك شيئاً عن بيع ملكه!
تبدلت القرية غير القرية، فلا ليلى تطمح فى زينة، ولا أخوها يطمح إلى زواج، ولا أبوهما يفكر فى حج! وأصبحت الطريق الذاهبة إلى المدينة تجئ بالمرابي والصراف والمحضر، بعد أن كانت تجئ بالشاعر والزامر والمغني، وغاضت بشاشة العيش فى وجوه الشباب فعادت القرية جديبة كالقفر، كئيبة كالقبر، لا يعقد فيها اجتماع لأنس، ولا يقام بها احتفال لعرس! وما أبعد هاتين الكلمتين اليوم عن قوم ندر عندهم الكبريت (الأصفر) حتى اتخذوا الزناد، وغلا عليهم التبغ حتى اشترك ثلاثة فى سكارة!!
لا تزال القرية كما كانت فى القرون الخوالي أكواخا متلاصقة من الطين غرقى فى المناقع والدِّمن، لا تبصر الشمس، ولا تنشق الهواء، ولا تعرف النظافة، تكومت فى قاعها أرواث البهائم وزرق الدجاج، وتراكم على سطحها حطب الوقود وعلف الماشية، وتقاسم الإنسان والحيوان المضاجع فى هذه الحظائر المشتركة! ثم راض الفلاح نفسه مرغماً على الطعام الوخيم والشراب الكدر والملبس الرث والقناعة المزرية، حتى مات فى حسه إدراك الجمال، وتفه فى ذوقه طعم الوجود!
ذلك والعواصم المصرية تعيش فى القرن العشرين تأخذ بمدنيته، وتقبس من نوره، وتنعم برفاهه، كأن الصلة بين القرية والمدينة هى الصلة التى كانت بين العبد والسيد، يملك ولكن ملكه لمولاه، وينتج ولكن إنتاجه لسواه!!
تغلغلت المدينة فى الأمم الأوربية حتى انتظمت قمم الجبال وبطون الأودية وأطراف السهوب، وسوَّت بين بنيها فى مُتَع العيش وحقوق الإنسان، ثم تشوفت إلى الآفاق الغائمة فى الشرق تريد أن تهديها طريق الحضارة، ونحن لا نزال قاصرين عن إنقاذ قرانا من الجهل والمرض والقافة، وهي مصادر القوة وموارد الإنتاج تعول الموظفين بالضرائب، وتغذى الجيش بالجنود، وتمد الحواضر بالأرزاق، وتعين الأحزاب بالمال، وتقيم (الحفلات) بالتبرع
إن الفلاح المسكين الساذج يسمع بالوزارات تسقط وتقوم، وبالأحزاب تختصم وتحتكم، وبالمجالس تنتثر وتنتظم، وبالدواوين تفتح وتغلق، وبالأموال تجرى وتنفق، فيسائل نفسه سؤال الجاهل الذاهل. إلى من هذه الأعمال والأموال إذا لم يكن لى من ثمارها نصيب؟؟
لقد اشترينا بأقوات الريف أبهة العاصمة، وبنينا بأنقاض القرية قصور المدينة، وغسلنا بعرق الفلاح أقدام المترفين، فكنا كمن حفر الجداول، وخطط الحقول، ونثر البذور، وشيد الأهرام، ثم طمر فى سبيل ذلك فوهة الينبوع!!
