"تابع لما قبله"
أتى عليك زمان كله رغد يفيض فوق رباك الخير مطردا وكان عهدك والفلاح مغتبط يأتى له الرزق من غلاته رغدا لكن تنكرت الأيام وامتلكت هذى البلاد قساة أغلظوا الكبدا فعطلت من لياليى الأنس أربعها والأهل قد هجروها، لا أرى أحدا
"أوبرن" يا لمحة السحر التى اختلست لقد طواك زمان كله عبر لكم رجعت إليك اليوم مكتئبا والنفس ولهانة والقلب منفطر أرتاد فيك مكانا كان يؤنسه ظليل كوخك أو نسرينك العطر فتملأ الذهن أفكار تراوحنى بذكريات عهود كلها صور
لما رمت بى النوى في دار غربتها وذقت فيها نصيب الحزن والتعب ركبتها ولقلى الصب أمنية فى أن يكون إلى "أوبرن" منقلى
وكنت أحرص فى جهدى الطويل على قنديل عمرى حرص المشفق الحدب ألكى أقضى فى قومى بقيته أروى لهم كل ما لاقيت من عجب
دعوهم حول نيرانى لأطرفهم بعد العشى بأخبارى وأهوالى كأننى أرنب فى الدو أفزعها صيد فعدت لوكرى بعد إجفال قد كنت أحلم فى آفاق دسكرتى وكان عودى إليها جل آمالى فذاك أحسن شيء سحر بهجتها وذاك خير معادا تربها الغالى
يا عزلة الريف يا مكنون روعته يا إلف شيخوخة الإنسان فى الكبر آها على طيب أحلام رزئت بها وسدتها فيك بين الماء والشجر ما كان أصفى نعيم المرء لو ختمت مشيبه راحة فى دوحك الخضر يجفو الحياة وما تحويه من خدع غرارة ونعيم غير ذى أثر
ما كان أعذب ذاك الصوت سيرسله وحى المساء ليفنى فى أصائلك قد كنت أمشى وئيد الخطو منتشيا أصغى له وهو يعلو من منازلك والليل أرخى على الراعى ستائره فخب يحدو الرواعى فى خمائلك وقد تهادى الإوز الغر فى شغف على مياهك .. يلهو فى جداولك
يا لهف نفسى عليك اليوم قد سكنت عن سكب ألحانها هذى الأغاريد! لم يبق فى الغاب من صوت يجاوبه صدى السكون ولا للريح ترديد ولم تعد فيك تحيى الأنس ثانية فى الليل فتيانك الطيب الصناديد لم يبق غير عجوز جد عانية أو ثاكل هدها هم وتسهيد
قد أكرهتها حياة لا تبدلها من مأكل خشن أو مشرب رنق فقوست ظهرها فوق الضفاف على هشائم العشب تجنيها أو الورق وثم ترجع فى ضعف يغالبها لكوخها توقد النيران فى الغسق ظلت لتبقى على الوادى مؤرخة له وتطوى بقايا العمر فى قلق
هناك فى أجمة كانت تشارفها أشجار مهتزة الأزهار فيحاء! قد أوحشتها غصون لا تشنبها عناية فتدلت جد لفاء! هناك من بين أغصان محطمة تغشى المكان .. وبين الظل والماء يقوم مرتبع القسيس فى خفر مستحييا يتوارى تحت أفياء!
قد كان شيخا وقور الذات متقيا يخشى الإله ويقضى الليل أوابا! يعده القوم من أهل اليسار وإن لم يحو غير التقى ذخرا وأسلابا! وكان فى الناس محبوبا ومحترما يلقى الغريب ويلقى الأهل أحبابا لم يقرب المدن من إثم يطوف بها بل كان يطوى القرى للوعظ جوابا!
ما زال سائله المسكين يقصده وضيفه الشيخ يرعاه بلا برم! ولم يزل يجلس الجندى مصطليا فى داره موقد النيران من أمم!
يروى له كل ما لاقى - وتلذعه نار الجراح فيشكو شدة الألم والشيخ جانبهم دوما يقاسمهم آلامهم بحنان غير متهم
يظل كالطائر الشادى يرف على صغاره فوق أغصان الخميلات يحتال كيما يطيروا .. ثم يحملهم إلى جناب خصيب فى السماوات! قد راح يزجر من يبطئ ويسعفه إذا تخلف عن طير الجماعات! يهديهم نحو كون لا يطوف به غير السعادة فى علوي جنات!

