الرجوع إلى البحثالذهاب لعدد هذه المقالة العدد الثاني عشرالرجوع إلى "الرسالة"

الكيف لا الكم

Share

روي أن ابن سينا كان يسأل الله أن يهبه حياة عريضة وإن لم  تكن طويلة، ولعله يعنى بالحياة العريضة حياة غنية بالتفكير  والإنتاج، ويرى أن هذا هو المقياس الصحيح للحياة. وليس مقياسها  طولها إذا كان الطول فى غير إنتاج، فكثير من الناس ليست  حياتهم إلا يوما واحدا متكررا، برنامجهم فى الحياة أكل وشرب  ونوم، أمسهم كيومهم، ويومهم كغدهم، هؤلاء إن عمروا مائة عام  فابن سينا يقدره بيوم واحد، على حين أنه قد يقدر يوما واحداً  - طوله أربع وعشرون ساعة - بعشرات السنين إذا كان هذا  اليوم عريضا فى منتهى العرض، فقد يوفق المفكر فى يومه إلى  فكرة تسعد الناس أجيالا أو إلى عمل يسعد آلافا، فحياة هذا  - وإن قصرت - تساوى أعمار آلاف بل قد تساوى عمر أمة،  لأن العبرة بالكيف لا بالكم.

وليس على الله بمستنكر     أن يجمع العالم فى واحد وتقدير الأشياء بالكيف لا بالكم منزلة لا يصل إليها العقل  إلا بعد نضوجه. أما الطفل في نشأته، والأمة في طفولتها فأكثر  ما يعجبهما الكم، فالريفي عنده خير "الخيار" ما كبر حجمه  وبيع بالكوم، والمدني خير "الخيار" عنده ما نحف جسمه  وكان "كالقشة" وبيع بالرطل. والطفل وأشباهه يرغبون بكثرة  العدد لا بجودة الصنف، فحيثما مررت في الشارع أو زرت متجراً  رأيت أكثر الترغيب في الكم "فأربعون ظرفا وجواباً بتعريفة"،  و "دستة أقلام رصاص بصاغ"، وهكذا، وسبب هذا أن البيع  والشراء يعتمدان على أدق قوانين علم النفس، والباعة من أعرف  الناس بهذه القوانين التي تتصل بعقلية الجمهور، فهم يعلمون انهم  أكثر تقويما للكم، وأكثر انخداعا بالعدد، فهم يأتونهم من نواحى  ضعفهم وموضع المرض منهم، وقل أن يرغبوهم في الشيء بأنه من  "العال" أو "عال العال" لأن هذا تقدير للكيف وليس يقدره  إلا الخاصة.

وكل إنسان قد مر بدور الطفولة، والأمم جميعها مرت كذلك  بهذا الدور فعلق بأذهانهم تقدير الكم ولم يستطيعوا أن يتحرروا  منه مهما ارتقوا، وأصبحوا - حتى الخاصة منهم - ينخدعون

بالكم من غير شعور وبلا وعى، وصار هذا مرضا ملازما، إنما يتحرر  منه الفلاسفة وإلى حد، ألا ترانا نرى الرجل الضخم حسن الهيئة  جميل الطلعة فنمنحه الاحترام، ولو لم نعرف قيمته، ونرى الرجل  صغير الجسم غير مهندم الثياب فنحتقره لأول وهلة من غير ان  نعرفه، وأساس معاملتنا بالإجمال احترام ذوى المظاهر الجميلة حتى  يثبت العكس واحتقار ذوى المظاهر الوضيعة حتى يثبت العكس،  وليس ذلك إلا من خداع الكم ولو أنصفنا لوقفنا على الحياد من  الجميع حتى نتبين الكيف.

ونرى ذا العمامة الكبيرة واللحية الطويلة فنعتقد فيه العلم  والدين، مع أن لا علاقة بين كبر العمامة وطول اللحية وبين العلم  والدين وإن كان ثمت علاقة فعلاقة الضدية، لأن الدين محله القلب  والعلم موطنه الدماغ، وإذا ملىء القلب دينا والدماغ علما أحتقر  المظهر وأبى أن يدل على دينه أو علمه بمظهر خارجي بل هو ان  امتلأ دينا وعلما أنكر على نفسه الدين والعلم وأعتقد أنه أبعد ما يكون  عما ينشده من دين وعلم، وكذلك الشأن فى اللباس الجامعى واللباس  الكهنوتى.

وقديما أدرك العرب خداع الكم فقالوا: "ترى الفتيان  كالنخل وما يدريك ما الدخل ". وقال شاعرهم: ترى الرجل النحيف فتزدريه     وفى أثوابه أسد مزير ويعجبك الطرير فتبتليه           فيخلف ظنك الرجل الطرير وفى كل شأن من شؤون الحياة وضرب من ضروب العلم  والفن ترى خداع الكم ولنأخذ الأدب مثلا

فالمؤلفون يعلنون عن كتبهم أنها فى أربعمائة صفحة - مثلا -  من القطع الكبير، والمتعلمون كثيراً ما باهوا بكثرة ما قرءوا،  والكتاب بكثرة ما كتبوا، والصحافة كثيرا ما خدعت القراء  بالكم. فكان مما اصطنعته زيادة عدد الصفحات فى الجرائد والمجلات  مع أن الصفحات وحدها كم ولا قيمة لها ما لم يصحبها الكيف، وكم  أتمنى أن أرى جريدة أو مجلة ترغب قراءها بالكيف فقط وإن  كنت أجزم بأن مصيرها الفشل لأن اكثر الناس لم يمنحوا - بعد -  ميزان الكيف

وقد جرت كثرة الصفحات في الجرائد والمجلات إلى تحوير  الأسلوب إلى ما يناسبها فكان الأسلوب أحيانا كالعهن المنفوش ،  يصاغ فى صفحة، ما يصح أن يصاغ فى عمود وفى عمود ما يصح  ان يصاغ فى سطر - ولست أدرى لم كان الناس إذا ارسلوا تلغرافا

تخيروا أوجز الألفاظ لأغزر المعانى، ولم يفعلوا شيئا من ذلك فى  كتبهم ورسائلهم ومقالاتهم؟ ولعلهم يفعلون ذلك لأن الكلمات فى  التلغراف تقدر بالقروش وليس كذلك فيما عداها- إن كان هذا  هو السبب دلّ على تقدير القرش اكثر مما يقدر زمن القارىء  والكاتب، وفي هذا منتهى الشر، وفى هذا أقسى مثل لغفلة الناس فى  تقدير الكم لا الكيف

وقديما عرض علماء البلاغة للكيف والكم فى الأدب وسموهما  اسماً خاصاً هو الإيجاز والإطناب، وعدوا الإيجاز أشرف الكلام  والإجادة فيه بعيدة المنال لما فيه من لفظ قليل يدل على معنى كثير،  ومثلوا للإيجاز والإطناب بالجوهرة الواحدة بالنسبة إلى الدراهم  الكثيرة، فمن ينظر إلى طول الألفاظ يؤثر الدراهم لكثرتها، ومن  ينظر إلى شرف المعانى يؤثر الجوهرة الواحدة لنفاستها، ولا يعدل  عن الإيجاز إلى الإطناب إلا لإيضاح معنى أو تأكيد رأى.

والحق إن الأدب العربى فى هذا الباب من خير الآداب، فاكثر  ما صدر فى عصوره الأولى حبات من المطر تجمعت من سحاب  منتشر، أو قطرات من العطر استخلصت من كثير من الزهر

وبعد، فلست أحب أن تكون كتابتنا كلها تلغرافات، وإذن  لعدمنا ما للأسلوب من جمال، وما لتوضيح الفكرة وتجليتها وتحليتها  من قيمة، وإنما أريد أن يكون المعنى هو القصد وهو المقياس فان  أطنبنا فللمعنى، وإن أوجزنا فللمعنى

وأريد أن يقوم الناس الكيف للكيف، وإذا قدروا الكم  فللكيف

ولعل من ألطف ما كان، أني حين بلغت هذا الموضع من  مقالتى أخذت أعد صفحات ما كتبت، فوجدتها قليلة العدد فآلمنى ذلك  لأني لم أبلغ ما حزرت أن يكون، ولأنى خشيت أن يستصغرها  صاحب "الرسالة" وقراء "الرسالة" وفرحت بهذه الملاحظة لأنها  سدت فراغا ما فى المقالة يكمل بعض ما فيها من قصر، ألسنا جميعا  عباد (كم)، أو ليس هذا من نوع تقدير الخيار بالكوم؟

اشترك في نشرتنا البريدية