تابع لما قبله
يعبأ الذين يعيشون فى العواصم بالحوادث الصغيرة لانشغالهم بما هو أهم وأخطر. ولا يتصورون ما يكون لهذه الحوادث على ضآلتها من الخطر والأثر فى المدن الصغيرة والقرى البعيدة. . مثال ذلك وصول البريد، ففى يومى الجمعة والثلاثاء من كل أسبوع تكتظ مكاتب المعسكر بالناس. هذا ينتظر نقوداً وذاك رسالة وهؤلاء يسألون عن الصحف. كل يتلقف ما له فى شغف واهتمام. وأذكر أن رسائل سيلفيو كانت تعنون إلى معسكرنا، وانه كان يزورنا وقت وصول البريد لتسلمها. وفي أحد هذه الأيام تسلم خطابا، فلما لمح اسم الجهة الصادر منها حتى لمعت عيناه وأسرع بفضه وقراءته فى تأثر وحماس. وبالطبع لم يدرك أحد سواى هذه التغيرات التى بدت فى ملامح وجهه وحركات يديه لانشغال الجميع بقراءة رسائلهم.
وبعد لحظات التفت الرجل إلينا قائلاً "يضطرنى العمل إلى مغادرة القرية هذا المساء، وأنا لذلك أدعوكم لتناول الغداء معى اليوم للمرة الأخيرة، وكلى أمل ألا أحرم من لقائكم جميعا" ثم أشار إلى بالذات وقال "وكم أتمنى أن أراك بينهم!" ثم أسرع بمغادرة المكان كما أسرع كل منا إلى جناحه الخاص بعد أن اتفقنا على إجابة الدعوة. ووصلت إلى منزل سيليفيو فى الساعة التى عينها فوجدت ضباط الفرقة جميعا هناك، ورأيت كل أثاث المنزل قد جمع وربط استعداداً للرحيل، وأبصرت الجدران عارية من أغلفة الرصاص. . جلسنا إلى المائدة وأكلنا هنيئا وشربنا حتى ثملنا، وكنا نكثر من الخمر التى ما أن نصبها فى الكؤوس حتى تغرينا بزبدها ورائحتها فنتجرعها، ولما انتهينا (وكنا قد أطلنا الجلوس) لبسنا قبعاتنا وهممنا بالانصراف راجين لمضيفنا العزيز التوفيق فى رحلته، فأجاب شاكراً وأخذ يرد تحية ضيوفه واحداً واحداً حتى جاء دوري فأسر إلى "إننى أريد أن أتحدث إليك برهة من الزمن!" فلم أر بداً من المكوث بعد انصراف الآخرين. جلس كل منا قبالة صاحبه وأخذنا ندخن فى سكون، وقد كان سيليفيو متعبا شاحب الوجه، وان عجبت لشيء فلم أعجب الا من هذا التغير الفجائى الذى بدا عليه، فقد غاض ذلك السرور الذى أشرق به وجهه ساعة الغداء، واختفى بريق عينيه وضعفت نظراته وأصبح منظره وهو ينظر إلى سحائب الدخان المتصاعدة من غليونه منظر الشيطان!
وبعد بضع دقائق قال: " قد لا نلتقي بعد هذا المساء، ولذلك أرى من واجبى أن أشرح لك بعض أمور لا أشك فى أنك تساءلت عنها بينك وبين نفسك... وأنا وإن كنت لا أعير آراء الشباب اهتماما سأخبرك عما تريد لأنني أميل إليك وأعجب بك!) ولما رآنى أسكت وأتحاشى نظراته أفرغ غليونه وواصل حديثه " لقد دهشت على ما أرى لتصرفى مع الضابط السكير رسيانوف فى الليلة التى تذكرها ولا شك، وأظنك عجبت عندما علمت إنني لم أغسل الإهانة التى لحقتنى ومع هذا فأنا اعتبر عدم إقدامى على مبارزة ذلك الأحمق كرماً منى، لأنى - وقد كان اختيار السلاح لى - أثق بانتصارى عليه وقتله مهما كان السلاح، ومهما كانت طريقة المبارزة، ولكنى فى الواقع لا أملك حياتى!،
نظرت إليه فى دهشة واستغراب ... ومضى يقول: منذ ستة أعوام تلقيت ضربة من شخص لا يزال على قيد الحياة!؟ هنا زادت دهشتى فسألته مسرعا "أو لم تقابله؟. لا ريب فى أن ظرفا خاصا منعك من لقائه فأجاب " لقد قابلته، وهذا ما أسفر عنه لقاؤنا " . وقام وأحضر من صندوق قريب قلنسوة من القماش الأحمر لها زر معقود وضفائر مموهة مثل القبعات التى يسميها الفرنسيون Bonnt de police ، ولما لبسها رأيت ثقبا يدل على أن رصاصة اخترقتها على مسافة بوصة واحدة من الجبهة!
وواصل حديثه قائلا (أنت تعرف أنني كنت فى فرقة الفرسان الإمبراطورية، وتعرف خلقى فأنا أحب أن أسود الجميع، ولقد كانت هذه الرغبة فى السيادة أيام شبابى قوية إلى درجة الجنون، وكانت لذة الشبان فى المشاجرة وقت ذاك، ولهذا كنت شيخ المتشاجرين وزعيمهم فى الفرقة، وكنا نفخر بالسكر والعربدة، أما أنا فكنت أفوق فى الشراب (ب) الشهير فى أغنية دافيدوف.. لى فى كل يوم مبارزة أمثل فيها الدور الأول أو الثاني فينظر ألي زملائي نظرة الإعجاب، أما رؤسائى فكانوا يعتقدون أننى كالطاعون الذى لا خلاص منه ولا نجاة!
"وظللت أعيش وسط معالم الانتصار وعلائم الرهبة حتى نقل إلى فرقتنا شاب غنى من أسرة نبيلة، وأنا لا أريد أن أذكر لك اسمه، ولكن ثق أنني لم أقابل شخصاً له حظ هذا الشاب، فيه كل ما تتصور من القوة والنشاط، وكل ما تحلم به من الجمال والرشاقة، وكل ما تتمناه من الذكاء وسرعة البديهة والرقة فى الحديث بل كل ما تصبو إليه من الثروة والبذخ... فيه كل هذا وأكثر منه: اقدام غريب لا يعبأ بالخطر أو الموت، ولا يفكر فى الهزيمة... فما أن وصل هذا الشاب فرقتنا حتى تلاشى نفوذى وزالت سطوتى، وقد أراد أول مجيئه مصاحبتي لما رآه من الزعامة المعقودة على، ولكنى قابلته بفتور
ولذلك تركنى دون أن يظهر عليه شىء من التأثر
"وأقول لك الحق لقد كرهته لما رأيت من شغف الجميع به واحترامهم إياه ولما شاهدته من إعجاب السيدات به وتهالكهن عليه وكم حاولت أن أجره إلى الشجار معى بأسلوبى التهكمى اللاذع وسخريتى المتصلة، ولكنه كان يجيب على ذلك بسرعة خاطره وذكائه وميله إلى السرور. . كنت أجدّ دائما وكان يمزح دائما، وفي النهاية بينما كنا فى منزل بولندي نحضر حفلة من حفلات الرقص أسررت فى أذنه جملة مهينة لكرامته لما رأيته من شغف ربة البيت به وصدوفها عني مع أنها كانت تعبدني قبل أن تتعرف إلى هذا الشاب الغني الجميل فما كان منه الا أن صفعني، فأسرعت إلى سيفى وأسرع إلى سيفه.. وقامت الدنيا وقعدت. وفقد بعض السيدات صوابهن، واندفع زملاؤنا وحالوا بيننا وبين الشجار؛ ولكنا غادرنا المكان رغبة منا فى المبارزة الصريحة حتى يغسل كل واحد منا الإهانة التى لحقته بالدم! (وذهبت مع شهودي الثلاثة إلى المكان المعهود، وكنت أنتظر غريمي فى قلق واضطراب. . طلعت الشمس وأخذت حرارتها تزداد شيئاً فشيئا، وأتى يتهادى فى مشيته مرتدياً قميصه واضعاً رداءه الرسمى على كتفه، يحمل فى يده قبعته التى ملأها بفاكهة الكريز ولم يكن معه غير شاهد واحد.
أقمنا الشهود فى نقطتين تبعد إحداهما عن الأخرى باثنتى عشرة خطوة، وكان من حقى أن تكون طلقتى الأولى، ولكنى رفضت لما كنت أخشاه من أخطائه فى حالتى العصبية. ورفض هو الآخر ولذلك تركنا المسألة للمصادفة وكانت فى جانب هذا الشاب الذى أفسده الحظ الحسن. أطلق رصاصته ولكنها اخترقت قبعتي ولم تصبني بسوء، وجاء دوري فشعرت أنه تحت رحمتي فأستطيع إذا شئت أن أسلبه نعمة السعادة بل نعمة الحياة. . نظرت إليه فى شوق، وكنت أنتظر أن أراه ممتقعاً شاحب الوجه. ولكن خاب ظنى لأني رأيته يأكل فاكهته فى هدوء واطمئنان ويلقى بالبذور إلى ناحيتى فتتساقط تحت أقدامى.
"فكرت فى نفسى ماذا أجنى من أخذ حياة هذا الشاب الذى لا يعنى بالحياة! ولمعت عيناي عندما خطر لى خاطر غريب، وأفرغت بندقيتي وقلت له، يخيل لى أنك لا تهتم كثيراً بموتك أو حياتك فى هذه اللحظة، وأنك تعنى بأفكارك أكثر من عنايتك بالمبارزة. . ليكن ما تراه فليس عندى الرغبة فى إزعاجك.
فأجاب: أحب أن تلزم عملك فقط، وأرجو أن تطلق رصاصتك ولكن يجب أن تذكر أن لك أن تطلقها فى المكان والزمان اللذين تشاء، وأنا رهن إشارتك فى كل حين!"
"غادرت المكان وأنا أقول لشهودى أنا لا أرغب فى إطلاق رصاصتى فى هذا اليوم وانتهت المسألة وقتذاك على هذه الصورة "
"ثم أرسلت استقالتى من الجيش واعتكفت فى هذه القرية المتواضعة وأنا لا أفكر فى غير شىء واحد هو الانتقام، وقد جاء وقته!"
وعندئذ أخرج سيليفيو الرسالة التى تلقاها هذا الصباح من أحد معارفه - ولعله محاميه - يقول له فى أن الرجل (المطلوب) سيتزوج فى القريب العاجل من فتاة رائعة الجمال.. ثم مضى فى حديثه يقول "وليس من شك فى أن الرجل المطلوب هو عدوى الذى أريد الانتقام منه. وها أنا ذاهب إلى موسكو. وسأرى إذا كان يقابل الموت وسط أفراح العرس بالفتور الذى قابله به وقتذاك. وفي يده رطل من فاكهة الكريز"
ولما نطق بهذه الكلمات ألقى بقبعته إلى الأرض. منفعلاً ثم أخذ يسير فى الغرفة جيئة وذهاباً كما يسير النمر المحبوس! ولم أعترضه أثناء حديثه فقد ملك لبى واسترعى انتباهى وأثار فى أنواعاً متضاربة من العواطف.
ودخل أحد الخدم يقول لسيده. إن العربة قد أعدت، وهنا تناول سيليفيو يدى وصافحنى فى حرارة، وركب العربة التى كان فيها صندوقان يحتوي أحدهما على أسلحة الرجل وبنادقه ويحتوى الآخر على أدواته وملابسه.. ثم حيانى مرة أخرى قبل أن تتحرك العربة، وفى الحق لقد كان وداعاً مؤثراً...
( يتبع)

