" أفلسنا والله يا صاحبي "! " وأى افلاس يا أخى ؟ لكان الدنيا اقفرت "." " والعمل "؟ " العمل ؟ تسألني ما العمل "؟
" لقد كنت أقول دائما وأؤكد للمرتابين من إخواننا ، إنك آية من آيات الله فى الذكاء وصحة الادراك ! نعم أسألك ما العمل "؟
(وهل أنا أعرف؟) (لا رأي تشير به؟. . . لا حيلة تتحيلها؟) (حيلة؟ هل تعني. . .) (لا بأس! لا بأس! أرح نفسك. كم ساعتك الآن؟) (ساعتي؟)
(هذا أقل ما يمكن أن أنتفع بك فيه) (ساعتي يا سيدي. . . انتظر أقل لك، ساعتي. . . . س. . . سُرقت!)
فنهض الأول عن كرسيه بلا كلام، ومضى الى المكتب، فجلس اليه وتناول ورقة وأكب عليها وراح يكتب
جرى هذا الحديث في حجرة واسعة اتخذها للنوم هذان الصاحبان، ووضعا فيها سريريهما وحقائبهما وكتبهما وأدواتهما وأشياءهما الاخرى، فلو رأيها - أي الغرفة - لحسبتهما آيبين من سفر. وكان ثم حجرتان أخريان في مسكنهمت، لكنهما كانا لا يستعملانهما او ينتفعان بهما إلا في الندرة القليلة، إذا زارهما من لم ترتفع بينه وبينهما الكلفة، فكانت هذه الحجرة الفسيحة للنوم والمطالعة والطعام والشراب والسمر، واللهو أيضاً. ولو شاء لاتخذا بيتاً أكبر وأوسع، ولاثثاه بما هو
أو ثروألين، ولكنهما كانا يؤثران المخشونة، وينفران من التطري والرخاوة، ويستقبحان أن يكونا مترفين وإن كثر المال في أيديهما. وكانا ظريفين لا يعدلهما أحد في ظرفهما، وقد تآخيا على أصفى ود وأتم مداخلة، فهما خليط وأمرهما في كل شيء واحد، لايختلف ولا يتعدد.
ونهض الاول عن المكتب وفي يده ورقة يتأملها، ومشى متمهلاً إلى صاحبه حتلا إذا بلغ مكانه دفع بالورقة إليه فقرأ فيها
" مطلوب ".
(مديرة لبيت، ويشترط أن تكون متعلمة وخبيرة، والاجر يُتفق عليه، والرد يكون باسم السيدة نينا شقراوب بجريدة الكوثر بالقاهرة)
ثم سأل: (ما هذا؟) قال: (هذا؟ هذا إعلان! ماذا يمكن أن يكون غير ذلك؟) فسأله: (ولكن ما حاجتنا إلى من تدير لنا بيتنا؟ ألسنا ندبر أموره القليلة على أحسن وجه؟)
قال: (يا صاحبي، ليس هذا من شأنك. ولا تخش أن أثقل كاهلك بهذه المديرة المطلوبة. أنما أريد أن أداوري نفسي وأعالج إفلاسها، وأملأ هذا الفراغ الذي أحسه في قلبي)
قال الآخر: (ولكن. . . .) فقاطعه ذاك (لا تعترض يا صاحبي، فليس عليك بأس من ذلك.)
وخرج، فمضى إلى صاحب (الكوثر) وكان صديقه، فناوله الاعلان
فسأله هذا: (أهي السيدة التي. . . . .؟) قال: (لا، بل غيرها، وقد كلفتني أن أقوم عنها بالأمر، فكم تطلب أجراً للنشر؟) فأبى الرجل أن يتقاضى أجراً
وجاءت ردود، بعضها تليفوني، والعبض رسائل، فأما التليفونية فأهملها وأبي أن يُعنى بها أو يتقبلها، وأما الرسائل فكانت ثلاثة حملها معه إلى البيت، وهناك فضها وجلس يتدبرها هو وصاحبه، ويحاول أن يستنبيء الخط والأسلوب عسى أن يعرف منهما - على التقريب - سن الكاتبة وحظها من الجمال.
فتعلقا بواحدة تقول كاتبتها إنها تعلمت فى انجلترا , وأنها حذفت هذا الفن - فن ادارة البيوت - على مهرة الأساتذة والمعلمات
وقال الذى سمى نفسه فى الاعلان " نينا شقراوى "
" فلنقبع " اسلوب " شرلوك هولمز ." إنها تقول إنها تعلمت فىانجلترا , فلا شك أنها صغيرة السن , لآن إرسال البنات إلى انجلترا ليتعلمن لايزال إلى اليوم غير مألوف , ولم يبلغ ان يكون سنة , كأرسال الفتيان ؛ ثم ان التي تذهب إلى انجلترا تتعلم لابد ان يكون اهلها ذوى مال , وقد تحتاج يا صاحبي ان تسأل - لأنك ذكى جدا ..فلماذا إذن تريد أن تكسب رزقها
بمرق جبيها ؟والجواب انهما فرضان لا ارى لهما ثالثا : الاول ان يكون المال قد ذهب , وافتقرت الاسرة بعد اليسر , والثانى أن تكون الفتاة قد تم ردت على أهلها لسبب من الأسباب وتركت البيت , فهى تنشد العمل لتعيش , كراهة منها للارتداد إلى أهلها صاغرة ذليلة . واضح ؟ حسن ! فلنكتب إذن الرد "
وقام إلى المكتب فكتب ما يأتى :
" الآنسة المحترمة جاء فى روك , وأ كون شاكرة لك إذا تفضلت بانتظارى فى تمام الساعة الخامسة مساء من يوم أمام باب " جروبى * بشارع المناخ وتحياتى إليك و إلى الملتقى نينا شقراوى "
وتوخى فى كتابة الرسالة أن يطيل حروفا وبقصر أخرى , ويجعل زوايا الجهات والدالات الخ , حادة , ويعوج السطور ليجي الخط أشبه ما يكون بخط النساء
ودنا الموعد، فقال لصاحبه: (قم بنا) فنظر إليه صاحبه متعجباً وسأل: (ولكن ما دخلي أنا؟) قال: (من يدر؟ إنه لا يعلم الغيب إلا الله! قم فقد أحتاج إليك.)
ووقفا على الافريز المواجهلباب (جروبي) وصارت الساعة الخامسة، وإذا بفتاة ممشوقة تقف على الافريز الآخر وترفع عينها إلى باب جروبي ثم تصوبها إلى الساعة على يدها، ثم تتلفت
فقال الذي لا دخل له: (هي والله! قرأت أسم جروبي، ونظرت في الساعة. هيا بنا إليها)
فقال صاحبه (بنا؟ ما شاء الله! أظن أني سمعتك تسألني ما دخل في هذه الحكاية؟ أم ترى كان غير السائل المنر؟) قال: (إنما أعني أنه يجب أن تلمها حتى لايطول انتظارها فتقلق فتذهب)
قال ": وما يعنيك من قلقها وذهابها ؟ فلتقلق ولتذهب "! قال ": ولكن لماذا إذن واعدتها أن .".... قال ": يا أحمق ! إني أريد - أتفهم -؟ أريد أن تغلق وتمضى وأزيدك علما , فأقول إني لا أجرؤ أن أ كلمها أمام باب جروبى الذى يدخل منه ويخرج كثيرون ممن يعرفوننى ..
وعادت الفتاة فألقت على ساعتها نظرة ثم دارت فمشت. فذهب صاحبنا يعدو خلفها، حتى إذا دنا منها ناداها بأسمها فوقفت وقال:
" معذرة . إن السيدة شعراوى متوعكة , وقد كلفتنى أن أقابلك "
فقالت الفتاة بابتسامة: (أشكرك، وأشكرها. لقد خالجني شك، فتوهمت لحظة أني أخطأت. وهل أنت أخوها؟) قال: (أخوها؟ أوه! لا! ابنها فقط. . .) قال: (معذرة) قال: (ألا توافقين على أني ما زلت شاباً تتدفق الدماء الحارة في عروقي؟)
فضحكت وقالت: (بالطبع. . . . وأين البيت؟) فساءه أنها غيرت الموضوع وقال: (البيت؟ البيت يا سيدتي. . . . في. . . . في القاهرة)
فسألته: (أي شارع؟) فقال: (أي شارع؟ هل ينتظر أن تعرفيه إذا قلت لك إنه شارع البسطويسي؟) فقطبت وسألت المحتجة المستهجنة (البسطويسي؟)
قال: (لم يخطيء طني. فتاة مثلك غضة السن جداً - وجميلة أيضاً بالطبع - متعلمة في انجلتزا لا يعقل أن تعرف هذه الشوارع التاريخية)
فسألت باهتمام ": أهو شارع تاريخى "؟ قال ": لا شك ! أقدم من التاريخ " فأحست انه يتهكم وسألته ": والبيت ؟ ما مساحته "؟ فقال ": إنه ؟ مساحته ؟ الحق أقول , لا أعرف " قالت ": كم غرفة فيه "؟
ولم يكن مما قدر , ان يجري الحديث هذا المجرى فقال بعد تردد " كم غرفة ؟ آ .. أقول لك ياستى ... ثلاث "
فدهشت وصاحت : ثلاث فقط "'' فقال ": اراك دهشت ! ولك الحق . فا بها غرف فسيح جدا . تصلح للرقص , أو لسباق الخيل "
قالت: (لا تمزح. لقد كنت أظنه بيتاً كبيراً) فسألها: (أليس بيراً؟ إني أراه كبيراً جداً) قالت: (ثلاث غرف!؟ والخدم؟ ما عددهم؟) قال: (الخدم؟ أي خدم؟) قالت: (خدم البيت!) قال: (ليس في البيت خدم!) قالت: (ماذا تقول؟ لا خدم؟) قال: (نعم. . . أعني لا. . . وأي حاجة بنا إلى الخدم؟) قالت: (أي حاجة؟ كيف يكون بيت بلا خدم محتاجاً إلى مديرة؟)
قال: (يا سيدتي، لهذا احتجنا إلى مديرة. فالأمر موكول اليك. . . .)
قالت: (لقد كان ظني غير ذلك. . . . كنت أحسبه بيتاً عظيماً غاصاً بالخدم، أتولى أموره وأدبر شئونه. . . أما هذا. . . . لا. لا أظن أني أستطيع أن اقبل هذا العمل) قال: (ألا يحسن أن نميل إلى هذا المحل لنتحدث ونتفاهم.) قالت بلهجة جازمة: (في أي شيء نتحدث؟ لقد قلنا كل شيء)
قال: (لا لا لا. . بالعكس، لم نقل شيئاً. . .) فسألت مستغربة: (أي شيء بقي هناك؟) قال: (باقي أن تراجعي نفسك. . . . فكري طويلاً قبل أن ترفضي. الانسانية تدعوك أن تقبلي. . المروءة تناديك
وتناشدك. . . إني شاب، والبيت الصحراء، بل قلبي أيضاً صحراء. . . ومن الشهامة أن تتولي أمري. . . أعني أمورنا. . . وأن تحيلي ذه القفار فراديس ورافة الظلال)
فسألته ضاحكة: (أتريد مديرة أم ساحرة؟) (إيه؟ أه! بالطبع. . . ساحرة؟ أي نعم ساحرة. هذا أحسن. . . ولكنك ساحرة - ما قي هذا شك! ألست موافقة؟)
قالت: (على أي شيء؟) قال: (على أنك ساحرة) قالت: (أوه! كلا. والآن، أستأذن. .) قال: (تستأذ١نين؟ كيف؟ وبعد أن عصت عليك في لجة الحياة؟)
وعض لسانه من الغيظ، فقد زل، وأدركت خي أن في الأمر غير البيت وإدارته، فحدقت في وجهه ثم سألته (أجبني - بصراحة. . . ماذا تعني؟) قال: (اعني أنك درة وأنه يشق علي أن أنفض يدي منك بد أن فزت بك - هذا ما أعني، وبصراحة)
قالت: (هل كنت تعرفني؟) قال مغالطا: (لقد كنت أحلم بك) فقالت: (والأعلان؟)
قال: (الاعلان؟ لقد انتهينا منه. وقلت إن الأمر لا يوافقك. . . وأنا مصدقك. . لايسعني إلا أم أصدقك. . . إنه بيت لا يليق بك. . . إنه. . . إنه قبر. . . خراب. . . . دعينا منه فما نت أتصور أن ترضي عنه. . . . .)
قالت: (وبعد؟) قال: (نتكلم في شيء آخر. . . إنه لا أكثر من المواضيع الصالحة للكلام. . . مثلاً شعرك، إنه ذهبي جميل، وأنا أحب الشعر الذهبي، يفتنني، يدير راسي، ولو استطعت لجمعته كما تجمع طوابع البريد، وقطع الخزف الثمين، والسجاجيد الفاخرة. . . وهناك أيضاً موضوع آخر. . . عيناك. . . إنهما نجمان متألقان. . .) فصاحت به: (حسبك. وادخر بلاغتك لمن عو أحق بها،
عني لمن له أذنان تصغيان فاني ماضية) فقال: (وتتركيني؟) قالن: (آسفة) قال: (ألا تفرين؟ في أنا على الأقل!) قالت: (سأفكر فيك طويلاً) فقال بلهجة الظافر: (كنت أعلم ذلك)
قالت: (إيه قال: (كنت واثقاً أنك رقية القلب) قالك: لا لا. . . إنما أعني أني سأفكر في جرأتك. . . واسمح لي أن أقول: وفي وقاحتك)
فلم ينهزم وقال: (هذا ذنبك) قالت مستغربة: (ذنبي) قال: (على التحقيق: إنك جميلة، فلماذا أنت جميبة؟ هذا عذري!)
قالت: (آه!) وهمت أن تمضي عنه فقال: (وشيء آخر. . . يجب أن تعلمي أنه لاقيمة لجمالك) قالت: (ألم أقل إنك وقح؟) قال: (لاقيمة لمالك إذا لم يعجب به أمثالي. . . بغيري تكونيين وردة في صحراء. . . من يشمها؟ من يتأملها؟ من يقول ما أحسنها؟)
قالت: (ألا تخبرني من أنت؟) قال: (أو بعيك أن تعرفي؟) قالت: (بالطبع. . . لانك أوقح من رأيت في حياتي) قال: (كلا، هناك من هو اوقح. . أوه بمراحل! صاحبي هذا الوقف هناك. . . أترينه؟ سأعود اليه وأبلغه أن له - إذا شاء - أن يشمت بي، لأني فشلت)
قالت: (أكانت مؤامرة؟) قال: (لقد نهاني فلم أطع، وجررته معي بكرهه، وفي مأمولي أن أفوز، فأباهية وأفاخره، أما الآن. . .) قالت: (هذه هي الحقيقة؟) قال: (بلا تحريف. وتعالى اليه لتسمعيها منه إذا شئت)
فوقفت تفكر برهة كالمترددة ثم القفتت اليه فجأة وقالت: (هل نت تعرفني؟ ٩ قال: (سؤال معاد، وجابه واحد لايتعدد ولا يتغير) قالت: (لا تعد الى المزاح) قال: (أؤكد لك أني جاد جداً)
قالت: (ولكن كيف وثقت أني سأرد على اعلانك!) قال: (هي مقامرة لا أقل. .) قالت: (على كل حال، لابد أن أمضي الآن) قال: (ونلتقي مرة أخرى؟) قالت: (ربما. . . لا أردي. . .)
قال: (اذكري أني أعرف عنوانك، فاذا طال الأمر فلا يبعد أن اغزو دارك فاني كما تعلمين مجنون) قالت: (لاتفعل. . . . احذر) قال: (لاتخافي. . . . مع السلامة. .) ورجع إلى صاحبه فقال: (ألا تزال واقفاً؟ لماذا لم تعد إلى البيت؟ ما فائدتك هنا؟)
فسأله: (ماذا صنع الله بك؟) قال: (وكيف يعنيك هذا؟ أي دخل لك فيه؟) قال: (قل لي بالله!) قال: (ولاتشمت؟ لا في السر ولا في الجهر؟) قال: (أو أخفقت؟؟؟ مبارك! مبارك! الحمد لله!)

