ركبت عربة الترام ولم يكن فيها غير السائق الذي كان مغمضاً عينيه يستريح قليلاً من عناء أربع عشرة ساعة، أما بائع التذاكر فكان جالساُ في المكان المعد للسيدات يقرأ جريدته على ذلك الضوء الشاحب الهزيل الذي كان ينفذ من زجاج ذلك المصباح الأغبر، وليس يعلم إلا الله كم مرة أخرجها من جيبه وأعادها أليه وكأن دخولي إلى تلك العربة وهي آخر العربات في ذلك الوقت من تلك الليلة الشاتية نفخ فيها حياة بعد أن كاد يقتلها الإعياء، فقد أفاق السائق من نومه وفتح عينيه المغمضتين، وأبعد
بائع التذاكر الصحيفة عن وجهه وصعد بصره في كأنه يقول: وهل بقي من راكب بعد أن مضى الهزيع الأول من هذا الليل الممطر؟. ثم قام الاثنان ونظرا إلى الخارج كأنهما يريدان أن يريا المطر الذي كان يسفع زجاج العربة بشدة، وعاد في الحال كل إلى مكانه لأن وقت الحركة لم يحن بعد، فأغمض السائق عينيه، ورفع بائع التذاكر جريدته إلى وجهه وأخذ يقرأ.
جلست وفي نفسي أن انتظاري سيطول، لقد كان منتظر العربة مؤلماً جداً، كانت أطرافها ملوثة بالطين، وكان زجاجها مستوراً بطبقة من مياه الأمطار التي كانت تسيل عليها، وكان نورها ضئيلاً، وهي واقفة تحت سيل الأمطار الذي لم ينقطع منذ ساعات وقفة حزن وملل تنتظر الوقت لتسير. كم كان مؤلماً منظر الخيل (1) وهي تنتظر بفارغ الصبر العودة في تلك الساعة إلى اصطبلها الدافئ، ومنظر السائق الذي هد ّالتعب جسمه وغلبه النعاس فلا يكاد يرفع رأسه، ومنظر بائع التذاكر الذي كان يود النزوح ولو بخياله عن خط الترام الذي هو كل ما تراه عينه في كل يوم منذ الصباح حتى المساء، فهو يتلهى بالنظر إلى جريدته كلما سنحت له الفرصة. .
كنت وأنا أنظر إلى المياه التي كانت تسح من مظلتي التي ابتلت من المطر الغزير فتؤلف دوائر، أقول في نفسي: (أن هذه العربة التي كادت قطعها تنفصل عن بعضها لكثرة ما حملت من الناس لأراحتهم، وهذين الحيوانين اللذين أكل عليهما الدهر وشرب، وهذين الرجلين البائسين، وهذا الخط الحديدي الذي يفسح لنفسه الطريق بين الأوحال من (الجسر) حتى (جنبرلي طائش) . كل هؤلاء مكلفون في هذا الليل المدلهم بحملي وحدي بأجرة لا تزيد على قرش واحد).
دق الجرس فجأة ففتح السائق عينيه ونهض يتمطى، ونظر
آلي ما حوله حيران كأنه يعجب من وجود عمل يجب القيام به في ذلك الوقت من الليل لإتمام عمل النهار. ففرك يديه وسار. فتح الباب فهجمت منه موجة هوائية باردة، ثم خرج وأغلقه خلفه وبقي وحده معرضاً لموجات الهواء التي كانت تلطم عربة الترام.
انتفضت تلك العربة الكبيرة الثقيلة وتمطت واهتزت كأنها هي أيضاً كانت نائمة. وتحركت بحركة مزعجة، وأرسلت أصواتاً كأنها شكوى عميقة يثيرها اضطراب دائم، ثم سارت وهي تحمل مع اضطراب ألواحها الزجاجية جسمين مضطربين وهما بائع التذاكر وزبونها الوحيد.
تقدم بائع التذاكر من الراكب الوحيد وسلمه تذكرته وأستلم نقوده من غير ان ينبسا ببنت شفة، ثم عاد بائع التذاكر إلى جريدته يقرؤها، وعاد الراكب إلى ما أجتمع تحت مظلته من المياه ينظر أليها.
في تلك الأثناء كثر اهتزاز العربة. وأخرجت أصواتاً مزعجة كأن أسنان تلك العربة. ذلك المخلوق البطيء، تعض الخط الحديدي بشدة. مظهرة ألمها واستياءها، وصلنا إلى (سركه جي) فلم ير بائع التذاكر حاجة إلى وقوف العربة، وهي آخر العربات حركة، لوثوقه أنه لا يوجد راكب في مثل هذا الظلام البهيم، فصفر معلناً الحركة، ولكن السائق صاح
قائلاً: - راكب!
وقفت العربة فقلت في نفسي (شيء مؤلم! كم كنت مستريحاً وحدي!) ثم فتح الباب فما كدت أبصر الداخل حتى تغير رأيي، فقد كان الراكب الجديد فتاة شابة قد ابتلت ثيابها من المطر لأنه كان ينزل عليها فلا ترده عنها مظلتا الصغيرة، كانت صفراء الوجه من البرد، وكانت شفتاها متقلصتين وأسنانها مصطكة، وعليها ثوب أبيض فوقه معطف بني اللون لا يشك الناظر أليه في أن ذلك الشتاء لم يكن أول
شتاء مر عليه. فجعلت بهذه الهيئة الفقيرة المؤلمة في الجهة المقابلة لي، وفي الحال مدت يدها الجامدة من البرد في قفازها الذي امتدت منه أطراف أصابعها والمحيط بأسلاك بيضاء، إلى جيب معطفها لتخرج منه حقيبة النقود، فأخرجت منديلاً أبيض ثم حقيبة تقادم عهدها وحال لونها لكثرة الاستعمال وتمزقت جوانبها، فأخذت تعالجها لتفتحها فلم تقدر كأن قفلها قد تعطل. فعالجتها المسكينة كثيراً، والحقيبة مصرة على ألا تنفتح، وبائع التذاكر واقف أمامها يهتز ذات اليمين وذات الشمال من حركة الترام وجريدته تحت إبطه، ينتظر النقود منها، لقد ملك النظر إلى الماء المتجمع أمامي من المظلة فرفعت رأسي أخذت أنظر أليها نظري إلى شيء جديد كانت هي على ما يظهر من حالها متألمة من عدم تمكنها من فتح الحقيبة بسرعة لأنها كانت تعالجها كمن يود كسرها، وأخيراً فتحت الحقيبة فأدخلت إصبعيها فيها وأخذت تطوف يهما في جوانبها على ضوء العربة الضئيل.
لقد شعرت وأنا في مكانى أن الحقيبة لا تحوى أشياء كثيرة يحتاج المرء معها إلى كثرة البحث والتنقيب. أدخلت يدها وهي
في القفاز الممزق حتى غابت في الحقيبة وأخذت تبحث عن شيء صغير مختبئ هناك.
بعد بحث طويل بين أصابعها شيء صغير وهي تخرجه من الحقيبة فناولته إلى بائع التذاكر الذي لم يشأ أن يقطع لها التذكرة قبل أن يستلم النقود .... فتنفست الصعداء كأنها خرجت من مهمة صعبة وتمكنت من مقعدها كل التمكن. ثم رفعت عينيها اللتين لم أستطع أن أعرف لونهما تماماً.
لقد كانت تارة تنظر والعربة سائرة إلى قطع الجلود المتدلية من المسامير التي في سقف العربة، وآونة إلى المطر الذي يسح من زاوية العربة، ثم إلى ما فوق رأسها لتعلم أين مكانها منه، وطوراً تقارب بين جفنيها وتتأمل في ضوء المصباح الضئيل، إلا أنها ضجرت من كل هذه الأشياء وسئمتها، فمسحت بظهر يدها زجاج العربة المبتل ونظرت إلى الشارع، لترى أقرب مكان نزولها أم لا يزال بعيداً؟ إلا أنها لم تر غير أشعة المصابيح الضئيلة التي تشع من الحوانيت القليلة في هذه الليلة الباردة فترقص أشعتها فوق الطين المتراكم في الشوارع.
وأخيراً نظرت إلى نظرة عجلي كأنني آخر ما يمكن أن يعرض على نظرها من الأشياء التي حولها. ولكنها وجدتني كبقية الأشياء التي استعرضتها أمام ناظريها ولم تجد فيها ما يوجب العناية، فأعترضت عني واستندت على مسند المقعد، ومدت رجليها وفيهما حذاءان عتيقان قد زر أحدهما وتمزقت عروة الثاني ولكنهما كانا جميلين، ووضعت إحدى رجليها على الأخرى، ثم أصلحت قبعتها وأسندت رأسها إلى ما خلفها وأخذت تنتظر.
هل كانت جميلة؟ لا أدري! ولكنها مع ذلك كانت مركبة من أعضاء صغيرة، حتى ليخيل للناظر إليها أن رجلاً من المولعين بالأشياء الدقيقة قد صاغها هذه الصياغة وركبها هذا التركيب، فهي مليحة بعينها الصغيرتين، وفمها الرقيق، وأنفها الدقيق، ووجهها المخروط، ولم يكن في ذلك الجسم المركب من تلك الاعضاء الصغيرة طويل غير قامتها، فقد كان طولها لا يتفق وصغر أعضائها، ولكنها مع ذلك لم تكن خالية من الملاحة.
لقد كنت أشعر بشيء غريب لوجودي في تلك الليلة الشاتية في تلك العربة بجانب تلك الفتاة منفردين، كنت أشعر بلذة
غامضة كالتي يتوهمها الإنسان عند قراءة شعر لا يفهم معناه.
وفي تلك الأثناء رفعت رأسها بسرعة ومسحت زجاج النافذة ونظرت طويلاً نظرة تدل على ضجرها من التأخر. وكنا في ذلك الوقت نسير في محلة (جيفته حاووضلر) وكنت أقول في نفسي "أين تذهب هذه الفتاة في مثل هذا الوقت في مثل هذه الحالة الجوية؟ " ثم ارتدت مسرعة عن النافذة، وانحنت قليلاً كأنها تريد أن تكلم بائع التذاكر الذي كان مغطياً وجهه بجريدته يغالب النوم ويغالبه، ولكنها لم تجرؤ أن تكلمه فنظرت إلى نظرة تدل دلالة واضحة على أنها تريد أن تسألني عن شيء، فنظرت إليها نظرة أسألها فيها عما تريد، إلا أنها بصورة من الصور لم تجد قدرة على الكلام فسكتت، ونهضت على رجليها ونظرت ثانية من النافذة،
وفي هذه المرة ارتدت مصفرة فقلت لها: - كأنك تريدين أن تسألى عن شىء أيتها الآنسة ؟ فقالت بصوت رقيق يشبه جسمها الصغير بلهجة تدل على الحشمة والوقار:
- عفواً يا سيدي، فهل (الجسر) بعيد عنا؟ فقلت: الجسر؟ أنتِ مخطئة أيتها الآنسة، إن هذه العربة تسير بنا إلى (آق سراي)
فنظرت إلى وجهي نظرة جامدة كأنها لم تفهم شيئاً، وبعد أن وقفت مدة على هذه الصورة لا تجد في نفسها قوة على الاستيضاح قالت:
- إذن نحن الآن لا نسير نحو (الجسر) ؟
لفظت جملتها هذه بصورة تدل على فزع شديد علمت منه أنها ارتكبت خطأ، فداخلتني عليها شفقة وقلت:
- أنا آسف جداً يا آنسة، أنت تريدين الذهاب إلى (الجسر) إلا أنك ركبت عربة تسير عنه لا إليه، وقد أوقعك في هذا الخطأ ظلام الليل ودهشة المطر.
كانت تسمع كلامي والبكاء يكاد يغلبها على عينها وتقول بصوت مسموع: لقد تاخرت كثيراً. ثم قالت بصوت يخالطه شيء من الأمل:
- إذن سأعود أدراجي من أول موقف.
- لقد وصلنا إلى موقف (صالقم سكود) فقلت لها:
- إنك مضطرة إلى الرجوع راجلة، فهذه آخر عربة ولا أظن أنك تجدين عربة في هذا المطر.
- فلما سمعت ذلك اضطربت اضطراباً عظيماً، وفي ذلك الوقت استيقظ بائع التذاكر واقترب منا يشاركنا في الحديث، ثم قال مبرئاً نفسه من التبعة:
- لماذا لم تذكري لنا المحل الذي تريدين أن تذهبي اليه؟.
فلم تجد تلك المسكينة حاجة إلى الجواب، فنظرت إلي نظرة حائرة تطلب بها المدد والمعونة، وقالت:
- لطفاً يا إلهي، في مثل هذه الساعة، في هذا المطر، وفي مثل هذه الأزقة المظلمة الخالية كيف أستطيع السير وحدي؟. لم أجد حاجة لاتخاذ قرار بعد ذلك في هذا الشأن، فقلت لها :
- أيتها الآنسة، هل لك أن تقبلي مرافقتي حتى الجسر؟. فنظرت إلى بدهشة وصاحت:
- كيف ذلك يا سيدي؟ كيف تعود لأجلي في هذا الهواء؟ وكيف أستطيع أن أقبل هذه التضحية؟. .
- على أنه لم يكن أحسن من هذا الحل، لأن السائق كان بفارغ الصبر ينتظر الحركة، وبائع التذاكر ينتظر أن نعطى نتيجة حاسمة فقلت لها مصراً:
- أنت لا تقدرين على العودة منفردة في مثل هذا الوقت، ومن هذا المكان، مع أني أتمكن من أن أركب عربة وأعود من الجسر، وذلك يسير علي.
- فنظرت إلي عند ذلك نظرة فاحصة، وبتلك النظرة علمت صفاء نيتي وصدق عزمي فأظهرت الاطمئنان وقبلت مرافقتي قائلة:
- سمعاً وطاعة يا سيدي، لقد أظهرت إنسانية نبيلة وعطفاً كريماً، وأنا أقبلهما مع الشكر.
فتح بائع التذاكر الباب ليشرح للسائق القصة، فنزلنا نحن من الباب الثاني، وتحركت
العربة في الظلام كأنها خيال ذو عينين صفراوين؛ كان المطر إذ ذاك إلا أنه كان متوالياً، ففتحت الفتاة مظلتها، فلما تأملتها وجدتها ممزقة الأطراف، وفتحت أنا أيضاً مظلتي وأخذنا نمشي متكاتفين بقدر ما تسمح لنا المظلتان. كانت في ذلك الظلام الدامس في تلك الشوارع الخالية تشعر أنها محتاجة إلى الاقتراب مني بدافع غريب مجهول المصدر يدفعها إلى ذلك، وكنت أنا أشعر بلذة منشؤها حمايتي لفتاة في مثل هذا الوقت. على تلك الحال كنا نمشي صامتين لا نتكلم، وكانت توسع خطاها لئلا تضطرني إلى المشي البطيء.
كنت وأنا في الترام في شك من جمال هذه الفتاة ذات القامة الهيفاء، ولكنها الآن في الظلام كانت تتراءى لي جميلة.
إن هذه المصادفة غربية جداً، وأظن أن تلك الفتاة التي رأيتها لأول مرة في حياتي وبسطت عليها ظل حمايتي لو كانت غير جميلة لكانت اللذة التي أشعر بها الان ناقصةكنت أقول وأنا سائر بجانبها : يا لجمال عينيها الصغيرتين.
( البقية فى العدد القادم )

