عقد الجاحظ فصولا ممتعة على النيران ، في نهاية الكتاب الرابع وبدء الخامس من الحيوان ، ذكر فيها نيران العرب والعجم ، فحدث أخبارها وأبدى آثارها وأشعارها وإنا نتكلم الآن عن النار ونشوئها ، فنورد قول طائفتين تختصمان فيها جمعناه من شتات ، واختصرناه بعد افاضة.
النار
النار اسم للحر والضياء ، فاذا قالوا أحرقت أو سخنت فانما الاحراق أو التسخين هو للحر ، دون الضياء . والحر جوهر صعاد كالضياء ، وإنما يختلفان في الصعود لاختلاف جوهرهما ، والضياء أحث صعودا لا يعلى . ألم تر إلى النار إذا أطفأناها من أتوان وجدنا أرضه وهواءه وما يلابسه حاراً ، ولم نجده مضيئاً.
مستقر النار ونشوؤها:
النار التي تقدح من عودين أو حجرين أين تستقر ؟ أهي في العودين كامنة تبرز بالقدح فهي من عناصر العود أو الحجر؟ أم تتراءى أنها خرجت منهما ، والحق أنها ليست فيهما ، بل تحدث من غير العود والحجر عند قدحهما - كلا الرأيين له فرقة تميل اليه وتؤيده بكل وسعها واليك أقوالهما:
- نظرية الكمون:
يرى فريق أن النار كامنة في الحطب والحجر وغيره لأنها أحد عناصره ، ويمنعها من الظهور البرد المضاد للحر والمكافئ له . فان نحن قوينا النار الكامنة إما بنار أخرى خارجية أو بتوهين البرد المانع كحك العودين اللذين يضعف البرد فيهما - ظهرت النار الكامنة، وتغلبت على البرد ونفته.
فالنار التي نراها هي نار العود تسعرت بعد كمونها، وانتصرت على مكافئتها. واعلم أن (احراقك للثوب والحطب والقطن ، إنما هو خروج نيرانه منه ليست أن ناراً جاءت من مكان فعملت في الحطب ، ولكن النار الكامنة في الحطب لم تكن تقوى على نفي المانع ضدها عنها فلما اتصلت بنار أخرى واشتدت منها قويتا
جميعاً على نفي ذلك المانع . فما زال تجزأ الحطب وتجفف وتهافت لمكان عملها فيه" . "وإن من ينكر أن في الحجر ناراً كامنة ، كمن ينكر الزيت في الزيتون ، والدهن في السمسم ، والدم في الانسان ، ويقول بحدوث ذلك عند رؤية الانسان لها" . بل تتوسع هذه الفرقة في تطبيق نظريتها ، فعندها أن حرارة الأيام ليست من الشمس ، وإنما النيران الكامنة في العالم تظهر بتقوية الشمس لها وتغليبها على مانعها ، بل تطفر من كمون الحرارة إلى كمون السم ، فنتزعم أن في كل بدن سماً كامناً ، له مانع يمنعه من ظهور أعراضه - وليس سم الأفعى الذي يتلف البدن - لأنه ليس يقتل متى مازج بدناً لا سم فيه ؛ ولكن الذي يقتل السم الكامن في الأبدان ، متى أعانه سم الأفعى وقواه على مانعه .
البراهين على كمون النار :
لو كانت العيدان كلها لا نار فيها ، ما كان ظهورها في بعض العيدان أسرع منها في البعض الأخر؛ لكنها كانت كذلك - لأن مانعها أضعف في بعضها عن بعض ، فيكون ظهور نيرانه أسرع ، فالمرخ والعفار أفضل العيدان ، كما أن الحجارة تختلف في الأسرار ، وأكثرها ناراً حجر المرو - وقد تحتك عيدان الأشجار في الغياض فتلتهب النار - وقد تقدح النار من الساج إذا اختلط بعضه ببعض في السفينة عند تحريك الأمواج لها ، ولذلك أعدوا الرجال يصبون عليه الماء صباً ، ولم صار لبعض العيدان جمر باق ، وبعضها له جمر سريع الانحلال ، وبعضها لا جمر له ؟ ولم صار البردي مع هشاشته ويبسه ورخاوته لا تعمل فيه النيران ؟ فهل اختلفت تلك الا على قدر ما يكون فيها من النار وعلى قدر قوة الموانع وضعفها ؟ ولا يسكت هذا الفريق دون أن يؤيد كلامه بآي الكتاب. قال تعالى " أفرأيتم النار التي تورون ، أأنتم أنشأتم شجرتها أم نحن المنشئون" تقول كيف قال (شجرتها) وليس في تلك الشجرة شيء وجوفها وجوف الطلق (1) في ذلك سواء ، وقدرة الله على أن يخلق النار عند مس الطلق كقدرته على أن يخلقها عند حك العود ، وهل يريد سبحانه في هذا الموضع الا التعجيز من اجتماع الماء والنار ؟ ويقول تعالى : "الذي جعل لكم من الشجر الأخضر ناراً فاذا أنتم منه توقدون" فهل تجد لذكر الخضرة الدالة على الرطوبة معنى ، الا ذلك التعجيز ؟
نظرية الاستحالة
تنكر هذه الفرقة أن النار كامنة في العود ، وكيف تكمن فيه وهي أعظم منه ؟ ولا يجوز أن يكمن الكبير في الصغير ، ولكن العود إذا احتك بالعود حمى العودان ، وحمى من الهواء المحيط بهما الجزء الذي بينهما ، ثم الذي يلي ذلك منهما ، فاذا احتدم رق ثم جف ثم التهب ، فانما النار هواء استحال .
والهواء في أصل جوهره جسم رقيق خوار ، جيد القبول ، سريع الأنقلاب ، فالنار التي نراها اكثر من الحطف إنما هي ذلك الهواء المستحيل ، وانطفاءها بطلان تلك الأعراض الحادثة للهواء . ينقلب الهواء إلى نار ، لأن طبعه قريب منها ، فالنار يابسة حارة ، والهواء رطب حار ، والماء رطب بارد . فالهواء وسط بين النار والماء يجمع بينهما ، وقد ينقلب كل منها إلى ما يقاربه . فيجوز ان ينقلب الهواء ناراً ، وينقلب الهواء ماء ، ثم ينقلب الماء أرضاً ، ولابد في الانقلاب من الترتيب والتدريج .
البراهين على انكار الكمون :
نرى براهين هذه الفئة سلبية ، فهي تنكر الكمون باعتراضاتها على النظرية ، وإن كانت لا تتقدم بحجج تؤيد الاستحالة ، فترى المناظرة تنتقل إلى تأييد الكمون وإنكاره . تقول هذه في الانكار .
ان هذا الحر الذي رأيناه قد ظهر من الحطب ، ولو كان كامناً فيه لكنا وجدناه بالمس كالجمر المتوقد ، فان قلتم كان يمنعه برد مكافئ كامن مثله - فأين ذلك البرد ؟
لا يخلو الحال من أمرين : إما بقى بعد الأحراق ، وإما خرج عند الأحراق . فان كان باقياً في الرماد استلزم ان يكون الرماد أبرد من الثلج ، وإن كان خرج مع الحر ، وأخذ كل وجهته - فقد كان ينبغي له أن يخمد ويهلك مالاقاه ، كما أحرق الحر وأذاب كل مالاقاه ولما وجدنا جميع أقام هذا الباب لم تتحقق ، علمنا أن النار لم تكن كامنة في الحطب .
ونشعر بقيمة هذا الاعتراض ، إذا لاحظنا قول الفريق الأول في أن النار تنفي المانع الذي هو البرد ، ولم يقل تفنيه وتبطله - إذن فالبرد موجود عند الاحراق ، يقع عليه أحد الفروض السابقة . بعد هذا أخذت كل فرقة تنتصر لنفسها بنقض قول خصيمتها وإنا نمسك عند هذا المقدار .

