الرجوع إلى البحثالذهاب لعدد هذه المقالة العدد السابع عشرالرجوع إلى "الرسالة"

النسل

Share

منذ شهرين قامت ضجة فى بلد من بلدان أوربا الوسطى  وصل اضطرابها الى أطراف العالم الحى. ذلك أن حكومة  ذلك البلد قاضت جماعة من الأطباء قاموا بطريقة منظمة على  تعقيم كل ذكر لا يرغب فى الانسال، أو أنسل ولم يعد له  رغبة فى المزيد، أو له رغبة فى المزيد تأباها عليه الضائقة الحاضرة،  بثت هذه الجماعة دعايتها بين الفقراء من العمال والفقراء من  الزراع، ولم تكن غايتها الكسب، فان أجرة العملية كلها على  ما أذكر كانت جنيهين ونصفا فى ذلك أجرة الطريق  أو أجر السفر، وانما كانت غايتها منع النسل عن غير  القادرين على رعايته، وتجويد نوع المواليد بالاقلال منهم، على  قاعدة أن المائة من الجنيهات قد تنفق على اثنين وقد تنفق  على أربع، ولكن إن هى أتتك فى الحالة الأولى برجلين فهى تأتيك فى الحالة الثانية بأربعة أنصاف من الرجال، وحيث  أن الدنيا ضاقت بالعدد الذى لا يجد عملا، فأولى بالناس  أن ينصرفوا عن العدد الى الجودة، وعن الكم الى الكيف.

ولكن الحكومة التى رفعت الدعوى عليهم رأت أن فى العدد  سلام الدولة، وان للكم الغلبة بين الأمم. ومهما يكن من رأى  هؤلاء أو أولئك فالذى نريد أن نسجله دعوى جديدة تدعيها  هذه الرفقة، وهى أنهم يقطعون بمشرطهم حبلا فيقطعون  ما بين الرجل وذراريه، ثم يصلون بملقط ما قطعوه، فيعود الرجل  الى إنتاجه القديم. ونريد أن نسجل أن بهذا المشرط ولا سيما  بالملقط ستحدث احداث غريبة فى العالم ستأتى على رغم  الكراهات وبرغم القوانين ولو أبطأت بها الأيام

الانتاج من قديم فخر الرجل والعقم عاره، ولكن كان  هذا والايام تسير الهوينى والأرزاق كأنها تتنزل من السماء  على أنفس قنوعة راضية، أما المدنية الحاضرة مع بوائقها  وضوائقها وانعدام العصبية الأسرية فيها الى حد كبير، فلا  تكاد تبقى للانسان فخارا بخلف أو عارا من عقم، ولا سيما عقما  لا يذهب بمشاعر الحيوانية من الانسان، دليل ذلك أن  الكثيرين يتعقمون اختيارا، وفى مصر من هؤلاء عدد يذكر  تعقموا فى وضح النهار على سمع الناس وأبصارهم. ولكنهم  مهما كثروا قليلون الى جانب من يرغبون فى حبس النسل أو  تقليله، ولكن تأبى نفوسهم وتثور حفائظهم وتقشعر أبدانهم  أن تنتزع الرجولة منهم وتقتل الذكورة فيهم، أما الآن وقد  وعد الطب بوصل ما يقطع، فلم تعد الرجولة تنتزع ولا الذكورة  تقتلع، وانما يقطعان الى وصل، ويطويان الى نشر، وفى هذا  من الأغراء ما فيه. ومن الممتع اللذيذ للعالم الاجتماعى أن  يتابع عن كثب هذا الأثر الجديد للمشارط والملاقط فى حياة  الأسر، وطاقات الطوائف والأمم، فهما اداتان للخير والشر  على السواء، لابد من ضبطهما بأيد مسئولة، ولا سبيل الى تركهما  لأهواء الأفراد طيلة انتسابهم الى مجتمع منتظم هم من نتاجه

واجتمعت الجمعية الطبية البريطانية اجتماعها السنوي فى  (دبلن) من أسابيع قليلة عقب الثائرة التى أثارتها تلك القضية،  فرأينا أصداءها تتردد حتى فى هذه القيعان، فقد قام جماعة من  الأطباء ذوي اسم ومكانة ينصحون بتدخل الجمعية فى تحديد  عدد السكان فى الجزر البريطانية واباحة تلك العملية واتخاذها  اداة لمنع الاضرار الاجتماعية التى تتسبب فى الأوساط الفقيرة عن ارسال حبل الانسان على غاربه، ولا سيما فى مناطق التعدين  حيث الفقر مدقع والبطالة لا أمل فى العثور على علاج لها لا فى  الحاضر ولا فى مستقبل الأيام. وقامت معارضة هادئة الا أنها من

صنف المعارضات التى تنجح وتتلقاها آذان السكسونيين دائما  بالقبول. قام معارض فقال: إن للمسألة وجوها غير طبية،  فلها وجه اجتماعى ووجه آخر خلقى، وليس الطبيب بأهل  ان يبحث فى الاجتماع أو أن يرسم للناس كيف يتخلقون.  وقام طبيب الملك فقال: ان من انجع الطرق فى وقف سير  حركة جديدة أو تعطيل اعتناق الناس لمذهب طريف، أن  تتدخل فيه بالعنف الرسمى، سواء أكان ذلك بتحكيم القانون  أم بتقرير جماعة مسئولة كجماعتنا هذه. كل حركة جديدة أو  مذهب طريف، لابد أن يتأهل له الناس. وما التقنين الا صياغة  لرغبة عامة وتتويج لأرادة شاملة، فلندع جمهور الامة يفكر  فى صمت، فى المجالس الخاصة وبين فترات العمل، فى راحة  ما بعد الغداء، أو اضطجاعة ما بعد العشاء، وفى اثناء التروض على  الحشيش الأخضر أو على رمل الساحل، اعطوا الجمهور الزمن  ليفكر. ولا تسبقوا أحداث الوجود، فعندئذ يأتيكم هذا  الجمهور يطلب منكم النصيحة، وعندئذ تعطونه اياها نصيحة  ناجعة سهلة، تصل بكم الى الغرض بسرعة كبيرة تعوضكم عن  الابطاء الذى كان لابد منه لتفكير الناس واقتناع الجماهير- وكان هذا فصل الخطاب

أما فى ألمانيا الهتلرية فقد جرى النقاش فى الموضوع وتقرر  القرار وصيغ القانون فى ليلة وضحاها. والواقع اننا لم نكد  نسمع الا بالقانون وقد صدر، وهو يقضى بالتعقيم الاجبارى  لكل مريض بمرض يمكن توريثه. وعددوا تلك الأمراض  فكان منها ضعف العقل وبعض صنوف الجنون والصرع  والتشنج المفصلى والعمى والصمم المورثان، وكل عاهة يمكن  توريثها، وكذلك ادمان المسكرات اذا بلغ حد المرض. وتنصب  لجان للتقرير عن حالة المرضى. وللمريض ان يستأنف، فأن  قضى الاستئناف بالتعقيم أنفذ بالقوة فى مصحات الحكومة.  وتقع نفقة كل هذا من قضاء أو تعقيم على أولى الأمر، ويتعهد  كل من يتصل بشىء من ذلك بالتكتم والتستر حتى لا يعرف  من تعقم. ولم يسمح القانون باجراء العملية على الاصحاء  لأسباب اجتماعية مهما كانت تلك الاسباب. ونسمع انهم  سيخرجون فى القريب العاجل قانونا خاصا بتعقيم المجرمين

هذه البداية، ولسنا ندرى ما النهاية. حرموا النسل على  المرضى لخير المجتمع. أو لما يرون فيه خير المجتمع، وفرضوه  على الأصحاء لخير المجتمع كذلك أو لما يرون فيه الخير  للمجتمع. والروح السارية فى هذا كله تقضى بالتضحية بالحرية  الفردية لصالح الجماعة، وهى روح تلتئم مع روح العصر المكنى  فالجماعة مكنة والافراد قطعها، فهى إن دارت تدور بسرعات  مختلفة وفى اتجاهات متباينة، ولكنها جميعا متناسقة متوافقة،  تؤدى الى نتيجة محتمة واحدة. هى دوران المكنة على الدوام  وبانتظام. فان شذت قطعة من القطع عن ذلك كان مصيرها  ركام القمائم.

لندن فى ١٧ أغسطس

اشترك في نشرتنا البريدية